الجمعة، 21 أكتوبر 2022

ج3.وج4.السيرة الحلبية

 

 

ج3وج4.السيرة الحلبية
ج3وج4.
كتاب:السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون
المؤلف:علي بن برهان الدين الحلبي

 ---
== إلى محل البيت صارت السكيتة سحابة وقالت يا إبراهيم خذ قدر ظلي فابن عليه أي وفي لفظ لما أمر إبراهيم ببناء البيت ضاق به ذرعا فأرسل إليه السكينة وهي ريح خجوج ملتوية في هبوبها لها رأس الحديث فحفر إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام فأبرزوا أي الحفر عن أس ثابت في الأرض فبنى إبراهيم وإسمعيل يناول الحجارة أي التي تأتي بها الملائكة كما سيأتي حتى ارتفع البناء
أقول يحتمل أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أوحى الله إليه بذلك كان في مكة عند إسمعيل وإنهما كانا بمحل بعيد عن محل البيت ويحتمل أنهما كانا بغيرها ثم جاءا
وقد قيل في قوله تعالى { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله } الآية أي قائما مقام الأمة لإنفراده بعبادة الله تعالى في أرضه لأنه لم يمكن على وجه الأرض من يعبد الله سواه والله أعلم
قال ثم لما ارتفع البناء جاء المقام أي وهو الحجر المعروف فقام عليه وهو يبنى وهما يقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وصار كلما ارتفع البناء ارتفع به المقام في الهواء فأثر قدم إبراهيم في ذلك الحجر وقيل إنما أثر في صخرة اعتمد عليها وهو قائم حين غسلت زوجة إسمعيل له رأسه لأن سارة كانت أخذت عليه عهدا حين استأذنها في الذهاب إلى مكة لينظر كيف حال إسمعيل وهاجر فحلف لها إنه لا ينزل عن دابته أي التي هي البراق ولا يزيد على السلام وإستطلاع الحال غيرة من سارة عليه من هاجر فحين اعتمد على الصخرة ألقى الله تعالى فيها أثر قدمه آية وفيه كيف يعتمد بقدمه على الصخرة وهو راكب دابته إلا أن يقال لما مال بشقه اعتمد عليها بإحدى رجليه مع ركوبه وهذا يدل على أن الموجود في المقام أثر قدمه لا قدميه ووقوفه عليه في حال البناء يدل على أن الموجود فيه المام أثر قدميه فلينظر وجعل ارتفاع البيت تسعة أذرع قيل وعرضه ثلاثين ذراعا قال بعضهم وهو خلاف المعروف ولم يجعل له سقفا ولا بناء بمدر وإنما رصه رصا وجعل له بابا أي منفذا لاصقا بالأرض غير مرتفع عنها ولم ينصب عليه بابا أي يقفل إنما جعله تبع الحميري بعد ذلك وحفر له بئرا داخله عند بابه أي على يمين الداخل منه يلقى فيها ما يهدى إليه وكان يقال لها خزانة الكعبة كما تقدم
ولما أراد أن يجعل حجرا يجعله علما للناس أي يبتدئون الطواف منه ويختمون به ذهب إسمعيل عليه الصلاة والسلام إلى الوادي يطلب حجرا فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام

بالحجر الأسود يتلألأ نورا أي فكان نوره يضيء إلى منتهى أبواب الحرم من كان ناحية
وفي الكشاف إنه اسود لما لمسته الحيض في الجاهلية وتقدم أنه اسود من مسح آدم به دموعه وجاء إن خطايا بني آدم سودته وأما شدة سواده فبسبب إصابة الحريق له أولا في زمن قريش وثانيا في زمن عبدالله بن الزبير وقد كان رفع إلى السماء حين غرقت الأرض زمن نوح بناء على أنه كان موجودا في تلك الخيمة كما تقدم وفي رواية إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما قال لإسمعيل يا بني اطلب لي حجرا حسنا أضعه ههنا قال يا أبتي إني كسلان لغب أي تعب قال علي بذك فانطلق يأتيه بحجر فجاءه جبريل بالحجر من الهند وهو الحجر الذي خرج به آدم من الجنة أي كما تقدم فوضعه إبراهيم موضعه وقيل وضعه جبريل وبنى عليه إبراهيم وجاء إسمعيل بحجر من الوادي فوجد إبراهيم قد وضع ذلك الحجر أي أو بنى عليه فقال من أين هذا الحجر من جاءك به قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام من لا يكلني إليك ولا إلى حجرك أي وفي لفظ جاءني به من هو أنشط منك وفي لفظ إن إسمعيل جاءه بحجر من الجبل قال غير هذا فرده مرارا لا يرضى ما يأتيه به وجاء إن الله تعالى استودع الحجر أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح عليه الصلاة والسلام وقال إذا رأيت خليلي يبنى بيتي فأخرجه له أي فلما انتهى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمحل الحجر نادى أبو قبيس إبراهيم فقال يا إبراهيم هذا الركن فجاء فحفر عنه فجعله في البيت وقيل تمخض أبو قبيس فانشق عنه
أقول وفي لفظ قال يا إبراهيم يا خليل الرحمن إن لك عندي وديعة فخذها فإذا هو بحجر أبيض من يواقيت الجنة ومن ثم كان أبو قبيس يسمى في الجاهلية الأمين لحفظه ما استودع ويسمى أبا قبيس باسم رجل من جرهم اسمه قبيس هلك فيه وقيل باسم رجل من مذحج بني فيه يقال له أبو قبيس وقيل لأنه اقتبس منه الحجر الأسود فسمى بذلك ويحتاج إلى الجمع بين ما ذكر على تقدير صحته وما ذكر في ترجمة إلياس أحد أجداده صلى الله عليه وسلم أنه أول من وضع الركن أي الحجر الأسود حين غرق البيت وانهدم زمن نوح فكان أول من سقط عليه أي أول من علم به فوضعه في زاوية البيت فليتأمل ذلك والله أعلم أي وعن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال عند المقام أشهد بالله يكررها لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الركن والمقام

يا قوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولولا أن نورهما طمس لأضاء ما بين المشرق والمغرب أي من نورهما ولعل طمس نور الحجر كان سببه ما تقدم فلا مخالفة
وجاء إنهما يقفان يوم القيامة وهما في العظم مثل أبي قبيس يشهدان لمن وافاهما بالوفاء وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لولا ما مسهما من أهل الشرك ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله تعالى
وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه لما خلق الله الخلق قال لبني آدم ألست بربكم قالوا بلى فكتب القلم إقرارهم ثم ألقم ذلك الكتاب الحجر فهذا الإستلام له إنما هو بيعة على إقرارهم الذي كانوا أقروا به قال رضي الله تعالى عنه وكان أبي على يقول إذا استلم الحجر يقول اللهم أمانتي أديتها وميثاقي وفيت به ليشهد لي عندك بالوفاء وفي كلام السهيلي إن العهد الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين مسح ظهره أن لا يشركوا به شيئا كتبه في صك وألقمه الحجر الأسود ولذلك يقول المستلم اللهم إيمانا بك ووفاء بعهدك وقد جاء الحجر الأسود يمين الله في الأرض
قال الإمام ابن فورك وكان ذلك سببا لإشتغالي بعلم الكلام فإني لما سمعت ذلك سألت فقيها كنت أختلف إليه عن معناه فلم يحر جوابا فقيل لي سل عن ذلك فلانا من المتكلمين فسألته فأجاب بجواب شاف فقلت لا بد لي من معرفة هذا العلم فاشتغلت به وهذا الذي قاله السهيلي يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
فعن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه لما دخل المطاف قام عند الحجر وقال والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك فقال له علي رضي الله تعالى عنه بلى يا أمير المؤمنين هو يضر وينفع قال ولم قلت ذاك بكتاب الله قال وأين ذلك من كتاب الله قلت قال الله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم } الآية وكتب ذلك في رق وكان هذا الحجر له عينان ولسان فقاله له افتح فاك فألقمه ذلك الرق وجعله في هذا الموضع فقال تشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة فقال عمر رضي الله عنه أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن
وعن قتادة قال ذكر لنا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنى البيت من خمسة أجبل من طور سيناء وطور زيتا ولبنان والجودى وحراء


وذكر لنا أن قواعده من حراء التي وضعها آدم مع الملائكة
أقول تقدم أن تلك القواعد كانت من جبل لبنان ومن طور سيناء ومن طور زيتا ومن الجودى ومن حراء إلا أن يقال يجوز أن يكون معظم ذلك كان من حراء فليتأمل
وذكر بعضهم أنه كان له ركنان وهما اليمانيان أي لم يجعل له إبراهيم عليه الصلاة و السلام إلا الركنين المذكورين فجعلت له قريش حين بنته أربعة أركان
وذكر الحافظ أبن حجر أن ذا القرنين الأول وهو المذكور في القرآن في قصة موسى عليه الصلاة والسلام وهو إسكندر الرومي قدم مكة فوجد إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام يبنيان الكعبة فاستفهمهما عن ذلك فقالا نحن عبدان مأموران فقال لهما من يشهد لكما فقامت خمسة أكبش شهدت أي قلن نشهد أن إبراهيم وإسمعيل عبدان مأموران بالبناء فقال رضيت وسلمت وقال لهما صدقتما
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام بمكة وأقبل ذو القرنين عليهما فلما كان بالأبطح قيل له في هذه البلدة إبراهيم خليل الرحمن فقال ذو القرنين كما ينبغي لي أن أركب في بلدة فيها إبراهيم خليل الرحمن فنزل ذو القرنين ومشى إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام فسلم عليه إبراهيم واعتنقه فكان هو أول من عانق عند السلام
قال الفاكهي وأظن أن الأكبش المذكورة أي التي شهدت أحجارا ويحتمل أن تكون غنما
ووصف ذي القرنين بالأكبر احترازا من ذي القرنين الأصغر وهو الإسكندر اليوناني فإنه كان قريبا من زمن عيسى عليه الصلاة والسلام وبين عيسى وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام أكثر من ألفي سنة وكان كافرا والله أعلم
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما فرغ إبراهيم صلى الله عليه وسلم من بناء البيت قال يا رب قد فرغت قال أذن في الناس بالحج قال أي ورب ومن يبلغ صوتي قال الله جل ثناؤه أذن وعلي البلاغ قال أي ورب كيف أقول قال قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم عز وجل فوقف على المقام وارتفع به حتى كان أطول الجبال فنادى وأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه شرقا وغربا ينادي بذلك ثلاث مرات أي وزويت الأرض له يومئذ سهلها وجبلها وبحرها وبرها

وأنسها وجنها حتى أسمعهم جميعا فقالوا لبيك اللهم لبيك وبدأ بشق اليمن وحينئذ يكون أول من أجاب أهل اليمن وسيأتي التصريح بذلك في بعض الروايات
وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان أهل اليمن أكثر إجابة ومن ثم جاء في الحديث الإيمان يمان وقال صلى الله عليه وسلم في حق أهل اليمن يريد أقوام أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم
وروى الطبراني بإسناده عن علي رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أهل اليمن فقد أحبني ومن أبغضهم فقد أبغضني
ومما يؤثر عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وقد ذكر في تفسير قوله تعالى { فيه آيات بينات مقام إبراهيم } هو نداء إبراهيم على المقام بما ذكر
وقيل له البيت العتيق لأنه أعتق من الجبابرة لم يدعه أي بحيث ينسب إليه جبار من الجبابرة الذين كانوا بمكة مع العمالقة وجرهم
وقال القاضي تبعا للكشاف لأنه أعتق من تسلط الجباربرة فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى قال وأما الحجاج فإنما كان قصده إخراج ابن الزبير عنه لما تحصن به دون التسلط عليه كذا قال
قال بعضهم وعن عبدالله بن عمر أنه قال إنما سميت بكة أي بالموحدة لأنها كانت تبك أعناق الجبابرة ولينظر من قصده هدمه إثنان قاتلتهما خزاعة ومنعتهما والثالث كان في أول زمان قريش أراد هدمه حسدا على شرف الذكر لقريش به وأن يبنى عنده بيتا يصرف حجاج العرب إليه فلما قارب مكة أظلمت الأرض وأيقن بالهلاك فأقلع عن تلك النية ونوى أن يكسوا البيت وينحر عنده فانجلت الظلمة ففعل ذلك
وفيه أن هذاالذي حصلت له الظلمة إنما هو تبع الأول فإنه لما عمد إلى البيت يريد تخريبه أرسلت عليه ريح كتعت منه يديه ورجليه وأصابته وقومه ظلمة شديدة وفي رواية أصابه داء تمخض منه رأسه قيحا وصديدا أي يثج ثجا حتى لا يستطيع أحد أن يدنو منه فدعا بالأطباء فسألهم عن دائه فهالهم ما رأوا منه ولم يجد عندهم فرجا فعند ذلك قال له الحبر لعلك هممت بشيء في حق هذا البيت فقال نعم أردت هدمه


فقال له تب إلى الله مما نويت فإنه بيت الله وحرمه وأمره بتعظيم حرمته ففعل فبرأ من دائه
وقيل لأنه أول بيت وضع في الأرض وقيل لأنه أعتق من الغرق بسبب الطوفان في زمن نوح عليه الصلاة والسلام كذا في الكشاف وغيره وفيه نظر ظاهر لما تقدم من دثوره بالطوفان ولما ذكر في قصة نوح أنه لما بعث الحمامة من السفينة لتأتيه بخبر الأرض فوقفت بوادي الحرم فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة وكانت طينتها حمراء فاختضبت رجلاها إلا أن يقال إن معنى أعتق أنه لم يذهب بالمرة بل بقى أثره
وفي الخميس عن ابن هشام أن ماء الطوفان لم يصل للكعبة ولكن قام حولها وبقيت هي في هواء السماء أي بناء على الكعبة هي الخيمة التي كانت على زمن آدم عليه الصلاة والسلام وتقدم عن الكشاف أنها رفعت إلى السماء الرابعة وأنها البيت المعمور وهذا كما علمت يدل على أن المراد بالكعبة الخيمة التي كانت لآدم وقوله قام حولها يريد أنه لم يعل محل تلك الخيمة ولعله لا ينافيه ما تقدم في قصة نوح فليتأمل
وفي رواية أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام نادى يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج وفي لفظ إن ربكم قد اتخذ بيتا وطلب منكم أن تحجوه فأجيبوا ربكم كرر ذلك ثلاث مرات فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء فأجابه من كان سبق في علم الله أنه يحج إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك فليس حاج يحج إلى أن تقوم الساعة إلا ممن كان أجاب إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن لبى تلبية واحدة حج حجة واحدة ومن لبى مرتين حج حجتين وهكذا وفي لفظ لما نادى إبراهيم عليه الصلاة والسلام فما خلق الله من جبل ولا شجر ولا شيء من المطيعين له إلا أجاب لبيك اللهم لبيك
أقول لا يخفى أنه يحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات فيما نادى به إبراهيم عليه الصلاة والسلام وسيأتي ومعلوم أن إجابة غير العقلاء إجابة إجلال وتعظيم ولعل المراد بالكتب مطلق الطلب لا خصوص الوجوب لأنه لم يفرض الحج على هذه الأمة إلا بعد الهجرة في السنة السادسة وقيل التاسعة وقيل العاشرة كما سيأتي وأما بقية الأمم من بعد إبراهيم فلم أقف على وجوب الحج عليها
وقد ذكر بعض المتأخرين من أصحابنا أن الصحيح أنه لم يجب الحج إلا على هذه الأمة واستغرب وفي الخصائص الصغرى وافترض عليهم أي على هذه الأمة ما افترض

على الأنبياء والرسل وهو الوضوء والعسل من الجنابة والحج والجهاد وهو يفيد أنه كان واجبا على الأنبياء والرسل وفيه أن الأصل أن ما وجب في حق نبي وجب في حق أمته إلا أن يقوم الدليل الصحيح على الخصوصية وقوله وهو الوضوء سيأتي ما في الوضوء والله أعلم أي ثم أمر بالمقام فوضعه قبله أي ملصقا بالبيت على يمين الداخل فكان يصلي إليه مستقبل الباب أي جهته وأول من أخره عن ذلك المحل ووضعه موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أي وقد تقدم ذلك عن ابن كثير
أقول وقيل إن أول من وضعه موضعه الآن النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وسيأتي الجمع بين هذين القولين ويأتي ما فيه
وذكر الطبري أن محله أولا المنخفض أي الذي تسميه العامة المعجنة أي محل عجن الطين للكعبة وذلك المنخفض هو محل صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس في اليومين كما سيأتي
ونازع في ذلك العز بن جماعة وقال لو كان ذلك لشهر عليه بالكتابة في الحفرة ورد بأن ذلك ليس بلازم والناقل ثقة وهو حجة على من لم ينقل
وذكر ابن حجر الهيتمي أن في رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام صعد أبا قبيس وقيل صعد ثبيرا وأذن وأن أول من أجابه أهل اليمن أي لما تقدم أنه بدأ بشق اليمن ولا مانع من تعدد ذلك أي وقوفه على تلك الأماكن التي هي المقام وأبو قبيس وثبير ويجوز أن يكون قال في بعض تلك الأماكن مالم يقله في غيره مما تقدم فلا مخالفة بين تلك الروايات فيما نادى به إبراهيم عليه الصلاة والسلام وجاء إنه لما فرغ من دعائه ذهب به جبريل فأراه الصفا والمروة وحدود الحرم وأمره أن ينصب عليها الحجارة ففعل وعلمه المناسك أي مع إسمعيل عليهما الصلاة والسلام
ففي العرائس خرج جبريل بهما يوم التروية إلى منى فصلى بهما الظهر والعصر والمغرب والعشاء والآخرة ثم باتا بها حتى أصبحا فصلى بهما صلاة الصبح ثم غدا بهما إلى عرفة فقام بهما هناك حتى زالت الشمس جمع بين الصلاتين الظهر والعصر ثم رجع بهما إلى الموقف من عرفة فوقف بهما على الموقف الذي يقف عليه الناس الآن فلما غربت الشمس دفع بهما إلى مزدلفة فجمع بين الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة

ثم بات بهما حتى طلع الفجر ثم صلى بهما صلاة الغداة ثم وقف بهما على قزح حتى إذا أسفر أفاض بهما إلى منى فأراهما كيف رمى الجمار ثم أمرهما بالذبح وأراهما المنحر من منى وأمرهما بالحلق ثم أفاض بهما إلى البيت فليتامل ذلك فإن فيه التصريح بأن إبراهيم وإسمعيل صليا مع جبريل جماعة الصلوات الخمس وجمعا تقديما بين الظهر والعصر وتأخيرا بين المغرب والعشاء للنسك وهو مخالف لقول أئمتنا لم تجمع الصلوات الخمس إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم
ففي الخصائص الصغرى وخص بمجموع الصلوات الخمس ولم تجتمع لأحد وبالعشاء ولم يصلها أحد وبالجماعة في الصلاة إلا أن يدعى أن المراد الجمع على جهة المداومة على ذلك لجواز أن يكون إبراهيم وإسمعيل عليها الصلاة والسلام لم يداوما على ذلك وفيه ما لا يخفى
وفي الوفاء عن وهب قال أوحى الله تعالى إلى آدم عليه الصلاة والسلام أنا الله ذو بكة أهلها جيرتي وزوارها وفدى وفي كتفي أعمره بأهل السماء وأهل الأرض يأتونه أفواجا شعثا غبرا يعجون بالتكبير عجا ويرجون بالتلبية ترجيجا ويثجون بالبكاء ثجا فمن اعتمره لا يريد غيره فقد زارني وضافني ووفد إلي ونزل بي وحق لي أن أتحفه بكرامتي أجعل ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وثناءه لنبي من ولدك يقال له إبراهيم أرفع له قواعده وأقضى على يديه عمارته وأنيط له سقايته وأريه حله وحرمه وأعلمه مشاعره ثم يعمره الأمم والقرون حتى ينتهي إلى نبي من ولدك يقال له محمد خاتم النبيين وأجعله من سكانه وولاته وحجابه وسقاته فمن سأل عني يومئذ فأنا من الشعث الغبر الموفين بنذورهم المقبلين على ربهم
ولما دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى { وارزقهم من الثمرات } أي دعا بذلك وهو على ثنية كداء بالمد فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين قال { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات } كان على الثنية العليا ذكره السهيلي وعند ذلك نقل له الطائف من فلسطين من أرض الشام أي و ببركة دعائه عليه الصلاة والسلام يوجد بمكة الفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد ذكره في الكشاف
ثم لما فرغ أي من بناء البيت وحج طاف بالبيت لقيته الملائكة في الطواف فسلموا

عليه فقال لهم ما تقولون في طوافكم قالوا كنا نقول قبل أبيك آدم سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فأعلمناه بذلك فقال زيدوا ولا حول ولا قوة إلا بالله فقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام زيدوا فيها العلي العظيم فقالت الملائكة ذلك
وكان بناء إبراهيم للبيت بعد مضى من عمره مائة سنة ثم بناه العماليق ثم بنته جرهم وقيل عكسه وقد يتوقف في بناء العماليق له
أما في الأول فلأن أول من نزل مكة مع هاجر وولدها إسمعيل جرهم وإنهم بعد إسمعيل وبعض ولده كانوا ولاة البيت وأما في الثاني فلأن ولاية البيت كانت لخزاعة بعد جرهم كما تقدم وكيف يبنون البيت ولا ولاية لهم عليه إلا أن يقال لا مانع أن يكونوا حينئذ أهل ثروة بخلاف جرهم وخزاعة
ثم رأيت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن العماليق كانوا عز وكانت لهم أموال كثيرة وأن الله سلبهم ذلك لما تطاهروا بالمعاصي وسلط عليهم الذر حتى ة خرجوا من الحرم وتفرقوا وهلكوا والذر في النمل كالزنبور في النحل
وفي تاريخ مكة للفاكهي أن العماليق قدموا مكة لما قدم وفد عاد للإستسقاء بالبيت وقيل كانوا بعرفة ولما أخرج الله تعالى زمزم لإسماعيل بواسطة جبريل ففي ربيع الأبرار أن جبريل أخرج ماء زمزم مرتين مرة لآدم ومرة لإسمعيل وعند ذلك تحولوا إلى مكة قال المقريزي لما علموا بذلك وقيل كانوا بعد جرهم ولا يصح ذلك ثم رأيت المقريزي قال وفي كتاب أخبار مكة للفاكهي ما يدل على تقدم بناء جرهم على بناء العمالقة ولا يصح ذلك لإتفاقهم على أن ولاية العمالقة على مكة كانت قبل ولاية جرهم وعلى أنه لم يل مكة بعد جرهم إلا خزاعة
ولا يخفى أن هذا صريح في أن العمالقة بنته ولا بد وأن بناءهم له كان قبل بناء جرهم له والعماليق من ولد عملاق أو عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام قيل وهو أول من كتب بالعربية وقيل من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ثم بناه قصي جده صلى الله عليه وسلم وسقفه بخشب الروم وجريد النخل ثم بنته قريش كما تقدم ثم بناه بعد قريش عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أي ويكنى أبا خبيب بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة وكنى بأبى خبيب لأن

خبيبا كان رجلا بالمدينة من النساك طويل الصلاة قليل الكلام أي وعبدالله رضي الله تعالى عنه كان مشابها له في ذلك فكنى به
هذا وفي كلام ابن الجوزي أنه كان لعبدالله بن الزبير ولد يقال له خبيب حيث قال خبيب بن عبدالله بن الزبير ضربه عمر بن عبدالعزيز بأمر الوليد مائة سوط فمات لأنه لما حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا وفي رواية ثلاثين رجلا وفي رواية إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا وفي رواية إذا بلغ بنوا أمية أربعين رجلا أتخذوا عباد الله تعالى خولا أي عبيدا ومال الله دولا ودين الله دغلا
وفي رواية بدل دين الله كتاب الله قال ابن كثير وهذا الحديث أي ذكر بني أمية وذكر الأربعين منقطع ولما بلغ الوليد ما ذكر خبيب كتب لإبن عمه عمر بن عبدالعزيز وهو والي المدينة أن يضرب خبيبا هذا مائة سوط ففعل ثم برد ماء في جرة وصبه أي في يوم شات عليه وحبسه فلما اشتد وجعه أخرجه وندم على ما فعل فلما مات وسمع بموته سقط إلى الأرض واسترجع واستعفى من ولاية المدينة فكان عمر بن عبدالعزيز إذا قيل له أبشر قال كيف أبشر وخبيب على الطريق أي عائق لي
وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعضهم قال كنت عند معاوية بن أبي سفيان ومعه ابن عباس على السرير فدخل عليه مروان بن الحكم فكلمه في حاجته وقال اقص حاجتي يا أمير المؤمنين فوالله إن مؤنتي لعظيمة فإني أبو عسرة وعم عشرة وأخو عشرة فلما أدبر مروان قال معاوية لابن عباس رضي الله تعالى عنهما أشهدك بالله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله بينهم دولا وعباد الله تعالى خولا وكتاب الله دغلا فإذا بلغوا تسعة وتسعين وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة فقال ابن عباس اللهم نعم ثم ذكر مروان حاجة فرد مروان ولده عبدالملك إلى معاوية فكلمه فيها فلما أدبر عبدالملك قال معاوية أنشدك الله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هذا فقال أبو الجبابرة الأربعة فقال ابن عباس اللهم نعم فإن أربعة من ولده ولوا الخلافة فليتأمل هذا فإنه ربما يدل على أن عبدالملك صحابي إلا أن يقال ذكره قبل وجوده فهو من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وفي كلام ابن كثير هذا الحديث في غرابة ونكارة شديدة


هذا وقد رأيت عن بعض حواشي الكشاف أن أعداء عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما هم الذين كانوا يكنونه بأبي خبيب لأن خبيبا كان من أخس أولاده ويرده قول بعضهم يغلب للشرف كالخبيبين لخبيب بن عبدالله بن الزبير وأخيه مصعب
وذكر ابن الجوزي أيضا فيمن ضرب بالسياط من العلماء سعيد بن المسيب ضربه عبدالملك بن مروان مائة سوط لأنه بعث ببيعة الوليد إلى المدينة فلم يبايع سعيد فكتب أن يضرب مائة سوط ويصب عليه جرة ماء في يوم شات ويلبس جبة صوف ففعل به ذلك أي كما فعل بخبيب
ثم رأيت في تاريخ الحافظ ابن كثيرة لما عهد عبدالملك لولده الوليد في حياته وانتهت البيعة إلى المدينة امتنع سعيد بن المسيب أن يبايع فضربه نائب المدينة ستين سوطا وألبسه ثيابا من شعر وأركبه جملا وطاف به في المدينة ثم أودع السجن فلما بلغ ذلك عبدالملك أرسل يعنف والي المدينة على ذلك ويأمره بإخراجه من الحبس هذا كلامه
وفي كلام البلاذري وكان جابر بن الأسود عاملا لإبن الزبير على المدينة وهو الذي ضرب سعيد بن المسيب ستين سوطا إذ لم يبايع لإبن الزبير هذا كلامه إلا أن يقال لا مانع أن يكون سعيد فعل به الأمران لأن ولاية ابن الزبير سابقة على ولاية عبدالملك والد الوليد ثم رأيت الحافظ ابن كثير صرح بذلك حيث ذكر أن سعيد بن المسيب ضرب بالسياط المذكورة وفعل به ما تقدم لما امتنع من المبايعة لابن الزبير وفعل به ذلك أيضا لما امتنع من البيعة للوليد
وفي طبقات الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في ترجمة سعيد بن المسيب وضربه عبدالملك بن مروان حيث امتنع من مبايعته وألبسه المسوح ونهى الناس عن مجالسته فكان كل من جلس إليه يقول له قم لا تجالسني فإنهم قد جلدوني ومنعوا الناس عن مجالستي هذا كلامه إلا أن يقال المراد امتنع من قبول مبايعة عبدالملك لولده الوليد فلا مخالفة وإنما امتنع سعيد بن المسيب من المبايعة للوليد لأنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه سيكون في هذه الأمة رجل يقال له الوليد فهو شر لأمتي من فرعون لقومه وفي رواية هو أضر على أمتي من فرعون على قومه زاد

في رواية يسد به ركن من أركان جهنم وفي لفظ زاوية من زوايا جهنم فكان الناس يرون أنه الوليد بن عبد الملك قال ابن كثير وهو الوليد ابن يزيد بن عبد الملك لا الوليد بن عبدالملك الذي هو عمه
وكان سعيد بن المسييب أعبر الناس للرؤيا قال له رجل رايت كأني أبول في يدى فقال تحتك ذات محرم فنظر فإذا بينه وبين امرأته رضاعة وأخذ سعيد تعبير الرؤيا عن أسماء بنت أبي بكر وهي أخذت ذلك عن والدها أبي بكر رضي الله تعالى عنهما وعن سعيد أخذ ابن سيرين ذلك
وعن ابن سيرين كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يعبر الرؤيا في زمنه صلى الله عليه وسلم وفي حضرته وعن الزهري رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا فقصها على أبي بكر فقال رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة فسبقتك بمرقاتين ونصف قال يا رسول الله يقبضك الله إلى مغفرة ورحمة وأعيش بعدك سنتين ونصفا فكان كما عبر فقد عاش بعده صلى الله عليه وسلم سنتين وسبعة أشهر وقال له رأيتني أردفت غنما سوادا ثم أردفتها غنما بيضا حتى ما ترى السود فيها فقال أبوبكر يا رسول الله أما الغنم فإن العرب يسلمون ويكثرون والغنم البيض الأعاجم يسلمون حتى لاترى العرب فيهم من كثرتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عبرها الملك سحيرا
وسبب بناء عبدالله بن الزبير للكعبة أن يزيد بن معاوية لما وجه الجيش عشرين ألف فارس وسبعة آلاف راجل وأميرهم مسلم بن قتيبة لقتال أهل المدينة لما علم أنهم خرجوا عن طاعته أي وأظهروا شتمه وأعلنوا بأنه ليس له دين لأنه اشتهر عنه نكاح المحارم وإدمان شرب الخمر وترك الصلاة وأنه يلعب بالكلاب أي فقد ذكر بعض ثقات المؤرخين أنه كان له قرد يحضره مجلس شرابه ويطرح له وسادة ويسقيه فضلة كأسه واتخذ له أتانا وحشية قد ربضت له وصنع لها سرجا من ذهب يركب عليها ويسابق بها الخيل في بعض الأيام وكان يلبس عليه قباء وقلنسوة من الحرير الأحمر
وقد استفتى الكيا الهراسي من أكابر أئمتنا معاشر الشافعية كان من رءوس تلامذة إمام الحرمين نظير الغزالي عن يزيد هذا هل هو من الصحابة وهل يجوز لعنه فأجاب

بأنه ليس من الصحابة لأنه ولد في أيام عمر بن الخطاب وللإمام أحمد قولان أي في لعنه تلويح وتصريح وكذلك الإمام مالك وكذا لأبي حنيفة
ولنا قول واحد التصريح دون التلويح وكيف لا يكون كذلك وهو اللاعب بالنرد والمصيد بالفهود ومدمن الخمر وشعره في الخمر معلوم هذا كلامه
وسئل الغزالي هل من صرح بلعن يزيد يكون فاسقا وهل يجوز الترحم عليه فأجاب بأن من لعنه يكون فاسقا عاصيا لأنه لا يجوز لعن المسلم ولا يجوز لعن البهائم فقد ورد النهى عن ذلك وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي صلى الله عليه وسلم ويزيد صح إسلامه وما صح أمره بقتل الحسين ولا رضاه بقتله وما لم يصح منه ذلك لا يجوز أن يظن به ذلك فإن إساءة الظن بالمسلم حرام وإذا لم يعرف حقيقة الأمر وجب إحسان الظن به ومع هذا فالقتل ليس بكفر بل هو معصية وأما الترحم عليه فهو جائز بل هو مستحب لأنه داخل في المؤمنين في قولنا في كل صلاة اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات هذا كلامه وكان على ما أفتى به الكيا الهراسى من جواز التصريح بلعنه أستاذنا الأعظم الشيخ محمد البكري تبعا لوالده الأستاذ الشيخ أبي الحسن
وقد رأيت في كلام بعض أتباع استاذنا المذكور في حق يزيد ما لفظه زاده الله خزيا وضعه وفي أسفل سجين وضعه
وفي كلام ابن الجوزي أجاز العلماء الورعون لعنه وصنف في إباحة لعنه مصنفا
وقال السعد التفتازاني إني لأشك في إسلامه بل في إيمانه فلعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه وعلى هذا يكون مستثنى من عدم جواز لعن الكافر المعين بالشخص
ولما خلعوا أي أهل المدينة بيعة يزيد ولوا عليهم عبدالله بن حنظلة غسيل الملائكة وأخرجوا والي يزيد من المدينة وهو مروان بن الحكم وبني أمية حتى قال بعضهم ما خرجنا عليه حتى خفنا أن نرمى بحجارة من السماء فكانت وقعة الحرة المشهورة التي كادت تبيد أهل المدينة عن آخرهم قتل فيها الجم الكثير من الصحابة والتابعين وقيل المقتول فيها من الصحابة ثلاثة منهم عبدالله بن حنظلة ونهبت المدينة وافتض فيها ألف عذراء أي ولم تقم الجماعة ولا الأذان في المسجد النبوي مدة المقاتلة وهي ثلاثة أيام

في كلام بعضهم ووقع من ذلك الجيش الذي وجهه يزيد للمدينة من القتل والفساد العظيم والسبى وإباحة المدينة وقتل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن التابعين خلق كثيرون وكانت عدة المقتولين من قريش والأنصار ثلثمائة وستة رجال ومن قراء القرآن نحو سبعمائة نفس
وفي التنوير لابن دحية وقتل من وجوه المهاجرين والأنصار ألف وسبعمائة ومن حملة القرآن سبعمائة وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وراثت بين القبر الشريف والمنبر واختفت أهل المدينة حتى دخلت الكلاب المسجد وبالت على منبره صلى الله عليه وسلم ولم يرض أمير ذلك الجيش من أهل المدينة إلا بأن يبايعوه ليزيد على أنهم خول أي عبيد له إن شاء باع وإن شاء أعتق حتى قال له بعض أهل المدينة البيعة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فضرب عنقه
وروى البخاري أن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما لما أرجف أهل المدينة يزيد دعا بنيه ومواليه وقال لهم إنا بايعنا هذا الرجل على بيعة الله وبيعة رسوله وإنه والله لا يبلغني عن أحد منكم أنه خلع يدا من طاعته إلا كان التنصل بيني وبينه ثم لزم بيته ولزم أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه بيته أيضا فدخل عليه جمع من الجيش بيته فقالوا له من أنت أيها الشيخ فقال أنا أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا قد سمعنا خبرك ولنعم ما فعلت حين كففت يدك ولزمت بيتك ولكن هات المال فقال قد أخذه الذين دخلوا قبلكم على وما عندي شيء فقالوا كذبت ونتفوا لحيته
وأما جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه فخرج في يوم من تلك الأيام وهو أعمى يمشى في بعض أزقة المدينة وصار يعثر في القتلى ويقول تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له قائل من الجيش من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أخاف المدينة فقد أخاف ما بين جنبي فحمل عليه جماعة من الجيش ليقتلوه فأجاره منهم مروان وأدخله بيته
قال السهيلي وقتل في ذلك اليوم من وجوه المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم ألف وسبعمائة وقتل من أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان
فقد ذكر أن امرأة من الأنصار دخل عليها رجل من الجيش وهي ترضع صبيها وقد

أخذ ما وجد عندها ثم قال لها هات الذهب وإلا قتلتك وقتلك ولدك فقالت له ويحك إن قتلته فأبوه أبو كبشة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا من النسوة اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الصبي من حجرها وثديها في فمه وضرب به الحائط حتى انتثر دماغه في الأرض فما خرج من البيت حتى أسود نصف وجهه وصار مثلة في الناس
قال السهيلي وأحسب هذه المرأة جدة للصبي لا أما له إذ يبعد في العادة أن تبايع امرأة وتكون يوم الحرة في سن من ترضع أي ولدا صغيرا لها ووقعة الحرة هذه من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم
ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم وقف بهذه الحرة وقال ليقتلن بهذا المكان رجال هم خيار أمتي بعد أصحابي
وعن عبدالله بن سلام رضي الله تعالى عنه أنه قال لقد وجدت قصة هذه الوقعة في كتاب يهوذ بن يعقوب الذي لم يدخله تبديل وأنه يقتل فيها رجال صالحون يجيئون يوم القيامة وسلاحهم على عواتقهم وهذه الوقعة كانت سنة ثلاث وستين ويقال كان يزيد أعذر أهل المدينة قبل هذه الوقعة فيما ذكروه وبذل لهم من العطاء أضعاف ما يعطى الناس رغبة في إستمالتهم إلى الطاعة وتحذيرهم من الخلاف ولكن يأبى الله إلا ما أراد
وفي التنوير أن الله ابتلى أمير هذا الجيش الذي هو مسلم بن قتيبة بعد ثلاثة أيام من أخذه البيعة بمرض صار ينبح منه كالكلب إلى أن مات وولى أمر الجيش بعده الحصين ابن نمير بأمر يزيد فإنه وصى مسلم بن قتيبة لما ولاه إمرة الجيش وقال له إذا أشرفت على الموت أي لأنه كان مريضا بالإستسقاء فول أمر الجيش للحصين وهذا الذي وقع من يزيد فيه تصديق لقوله صلى الله عليه وسلم لا يزال أمر أمتي قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد
وقد جاء عن سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه لقد رأيتني ليالى الحرة وما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان والإقامة من القبر الشريف


ومما يؤثر عن سعيد بن المسيب الدنيا نذلة تميل إلى الأنذال ومن استغنى بالله افتقر إليه الناس
ومن جملة من خلع يزيد وقتل من الصحابة في تلك الوقعة مغفل بن سنان الأشجعي رضي الله تعالى عنه روى علقمة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات فقال ابن مسعود لها مثل مهر نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث فقام مغفل بن سنان وقال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا مثل ما قضيت ففرح ابن مسعود
وسبب مقاتلة عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما لأنه امتنع من المبايعة ليزيد أيضا هو والحسين رضي الله تعالى عنهما لما أرسل إليهما يطلب منهما المبايعة له فامتنعا من ذلك وفرا من المدينة إلى مكة
ثم لما قتل الحسين رضي الله تعالى عنه أي لأن الحسين أرسل إليه أهل الكوفة أن يأتيهم ليبايعوه فأراد الذهاب إليهم فنهاه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وبين له غدرهم وقتلهم لأبيه وخذلانهم لأخيه الحسن رضي الله تعالى عنه ونهاه ابن عمر وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم فأبى إلا أن يذهب فبكى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال واحبيباه وقال له ابن عمر أستودعك الله من قتيل وكان أخوه الحسن قال له إياك وسفهاء الكوفة أن يستخفوك فيخرجوك ويسلموك فتندم ولات حين مناص وقد تذكر ذلك ليلة قتله فترحم على أخيه الحسن ولم يبق بمكة إلا من حزن على مسيره وقدم أمامه إلى الكوفة مسلم بن عقيل فبايعه من أهل الكوفة للحسين إثنا عشر ألفا وقيل أكثر من ذلك ولما شارف الكوفة جهز إليه أميرها من جانب يزيد وهو عبدالله بن زياد عشرين الف مقاتل وكان أكثرهم ممن بايع له لأجل السحت العاجل على الخير الآجل فلما وصلوا إليه ورأى كثرة الجيش طلب منهم إحدى ثلاث إما أن يرجع من حيث جاء أو يذهب إلى بعض الثغور أو يذهب إلى يزيد يفعل فيه ما أراد فأبوا وطلبوا منه نزوله على حكم ابن زياد وبيعته ليزيد فابى فقاتلوه إلى أن أثخنته الجراحة فسقط إلى الأرض فحزوا رأسه ذلك يوما عاشوراء عام إحدى وستين ووضع ذلك الرأس بين يدي عبدالله بن زياد ولما جاء خبر قتل

الحسين رضي الله تعالى عنه قام ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما في الناس يعظم قتل الحسين وجعل يظاهر بعيب يزيد ويذكر شربه الخمر وغير ذلك ويثبط الناس عن بيعته ويذكر مساوى بني أمية ويطنب في ذلك ولما بلغ يزيد ذلك أقسم أن لا يؤتى به إلا مغلولا فجاء إليه رجل من أهل الشام في خيل من خيل الشام وتكلم مع ابن الزبير وعظم على ابن الزبير الفتنة وقال لا يستحل الحرم بسببك فإن يزيد غير تاركك ولا تقوى عليه وأقسم أن لا يؤتى بك إلا مغلولا وقد عملت لك غلا من فضة وتلبس فوقه الثياب وتبر قسم أمير المؤمنين فالصلح خير عاقبة وأجمل بك وبه فقال له أنظر في أمري ثم دخل على أمه أسماء رضي الله تعالى عنها واستشارها فقالت يا بني عش كريما أو مت كريما ولا تمكن بني أمية من نفسك فتلعب بك فامتنع وصار يبايع الناس سرا ثم أظهر المبايعة فاجتمع عليه أهل الحجاز ولحق به من انهزم من وقعة الحرة فلما جاء الجيش إلى مكة حاصر عبدالله وضرب بالمنجنيق نصبه على أبي قبيس قيل وعلى الأقمر وهم أخشبا مكة فأصاب الكعبة من ناره ما حرق ثيابها وسقفها فإن الكعبة كانت في زمن قريش مبنية مدماك من خشب الساج ومدماك من حجارة كما تقدم
وذكر في الشرف أن الله تعالى بعث عليهم صاعقة بعد العصر فأحرقت المنجنيق وأحرقت تحته ثمانية عشر رجلا من أهل الشام ثم عملوا منجنيقا آخر فنصبوه على أبي قبيس
ويذكر أن النار لما أصابت الكعبة أنت بحيث يسمع أنينها كأنين المريض آه آه وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم فقد جاء إنذاره صلى الله عليه وسلم بتحريق الكعبة فعن ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنتم إذا مرج الدين فظهرت الرغبة والرهبة وحرق البيت العتيق وفي العرائس إن أول يوم تكلم الناس في القدر ذلك اليوم فقيل إحراق الكعبة من قدر الله وقيل ليس من قدر الله والمتكلم بذلك حينئذ قيل أبو معبد الجهني وقيل أبو الأسود الدؤلي وقيل غير ذلك
وقوله أول يوم تكلم الناس في القدر لعل المراد أول يوم اشتهر واستفيض فيه الكلام من الناس في القدر فلا يخالف ما حكى أن شخصا قال لعلي رضي الله تعالى عنه وهو بصفين يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا هذا أكان بقضاء الله وقدره فقال

نعم والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئا ولا قطعنا واديا ولا علونا شرفا إلا بقضائه وقدره
والتكلم في القدر ليس من خصائص هذه الأمة فقد تكلمت فيه الأمم قبلها وفي الحديث ما بعث الله نبيا إلا في امته ذرية يشوشون عليه أمر أمته ألا وإن الله تعالى قد لعن القدرية على لسان سبعين نبيا وقد جاء في ذم القدرية زيادة على ما تقدم منها القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وجاء اتقوا القدر فإنه شعبة من النصرانية وجاء أخاف على أمتي التكذيب بالقدر
وإنما كانت القدرية مجوس هذه الأمة لأن طائفة من القدرية تقول يأتي الخير من الله والشر من العبد وهؤلاء الطائفة أشبه بالمجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة وأن الخير من النور والشر من الظلمة وهم المانوية وإنما كان القدر شعبة من النصرانية لأن أكثر القدرية على أنه ليس من أفعال العبد من خير أو شر ناشئا عن إقدار الله تعالى له على ذلك بل هو ناشيء عن قدرة العبد وإختياره فقد أثبتوا لله تعالى شريكا كما أن النصارى أثبتوا الشريك لله تعالى فهذه الفرقة من القدرية أشبهت النصارى فكان القدر شعبة من النصرانية بهذا الإعتبار وقد أوضحت ذلك في تعليق المسمى ب المصباح المنير على الجامع الصغير وفيه أخر الكلام على القدر لشرار أمتي في آخر الزمان فإن الحق إسناد الفعل إلى الله تعالى إيجادا وللعبد إكتسابا
وقيل إن سبب بناء عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما للكعبة أن امرأة بخرتها فطارت شرارة فعلقت بثيابها فحصل ذلك ولا مانع من التعدد وقد وقع أيضا إحتراقها بتبخير المرأة في زمن قريش ولا مانع من تعدد ذلك كما تقدم
وعد بعضهم أن من البدع تجمير المسجد وأن مالكا كرهه وقد روى أن مولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان يجمر المسجد النبوي إذا جلس عمر رضي الله عنه على المنبر يخطب ومع حرق الكعبة حرق قرنا الكبش الذي فدى به إسماعيل فإنهما كانا معلقين بالسقف
أقول ولعل تعليقهما في السقف كان بعد تقليقهما في الميزاب فقد ذكر بعضهم جاء الإسلام ورأس الكبش معلق بقرنيه في ميزاب الكعبة ويدل لتعليقهما في السقف ما جاء عن صفية بنت شيبة قالت لعثمان بن طلحة لم دعاك النبي صلى الله عليه وسلم بعد

خروجه من البيت قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رأيت قرني الكبش في البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أي يكون في البيت شيء يشغل مصليا
وذكر الجلال المحلى في قطعة التفسير أن الكبش المذكور هو الذي قربه هابيل جاء به جبريل فذبحه السيد إبراهيم عليه الصلاة والسلام مكبرا أي وحينئذ تكون النار التي أنزلت في زمن هابيل لم تأكله بل رفعته إلى السماء وحينئذ يكون قول بعضهم فنزلت النار فأكلته على التسمح ويدل لما ذكر الجلال ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه الصلاة والسلام ما كان ذبح إبراهيم أي مذبوحه قال الذي قرب ابن آدم قال بعضهم وهذا الحديث لم يثبت قيل ووصف بأنه عظيم لأنه رعى في الجنة أربعين عاما وقيل كان الكبش إختراعا اخترعه الله هناك في ذلك الوقت قال بعضهم فقد فدى من الموت بصورة الموت وهذا كله بناء على أن الذي قربه هابيل كان كبشا وقيل كان جملا سمينا وعليه اقتصر القاضي فلينظر الجمع على تقدير صحة كل وانصدع الحجر من تلك النار من ثلاثة أماكن وعند محاصرة الجيش لعبد الله جاء الخبر بموت يزيد
ويقال إن ابن الزبير علم بموت يزيد قبل أن يعلم الجيش وهم أهل الشام فنادى فيهم يا أهل الشام قد أهلك الله طاغيتكم يعنى يزيد فمن أحب منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فعل ومن أحب أن يرجع إلى شأنه فليفعل فانفل الجيش وبايع عبدالله بن الزبير جماعة بالخلافة ودخلوا في طاعته ظاهرا
ويقال إن أمير الجيش طلب من ابن الزبير أن يحدثه فخرج من الصفين حتى اختلفت رءوس فرسيهما وجعل فرس أمير الجيش ينفر ويكفها فقال له ابن الزبير مالك فقال إن حمام الحرم تحت رجليها فأكره أن أطأ حمام الحرم فقال تفعل هذا وأنت تقتل المسلمين فقال له تأذن لنا أن نطوف بالكعبة ثم نرجع إلى بلادنا فأذن لهم فطافوا وقال له إن كان هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر يعني الخلافة فارحل معي إلى الشام فوالله لا يختلف عليك إثنان فلم يثق به ابن الزبير وأغلظ عليه القول فكر راجعا وهو يقول أعده بالملك وهو يعدني بالقتل ومن ثم قيل كان في ابن الزبير خلال لا تصلح معها الخلافة منها سوء الخلق وكثرة الخلاف ودخل في طاعة ابن الزبر جميع أهل البلدان إلا الشام ومصر فإن مروان بن الحكم تغلب عليها بعد موت

معاوية بن يزيد بن معاوية فإن معاوية هذا مكث في الخلافة أربعين يوما وقيل عشرين يوما بعد أن كان مروان عزم على أن يبايع لإبن الزبير بدمشق
وقد كان ابن الزبير لما ولى أخاه نائبا عنه بالمدينة أمره بإجلاء بني أمية وفيهم مروان وإبنه عبدالملك إلى الشام فلما أراد مروان أن يبايع ابن الزبير بدمشق ثنى عزمه عن ذلك جماعة وقالوا له أنت شيخ قريش وسيدها وقد فعل معكم ابن الزبير ما فعل فأنت أحق بهذا الأمر فوافقهم ومكث تسعة أشهر في الخلافة وهو الرابع من خلفاء بني أمية وقام بالأمر بعده ولده عبدالملك وهو أول من سمى عبدالملك في الإسلام ثم عهد عبدالملك لأولاده الأربعة من بعده الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام وادعى عمرو بن سعيد أن مروان عهد إليه بعد ابنه عبدالملك فضاق عبدالملك بذلك ذرعا واستعجل أمر عمرو بدمشق فلم يزل به عبدالملك حتى قتله
وفي كلام ابن ظفر أن عبدالملك لما خرج لمقاتلة عبدالله بن الزبير خرج معه عمرو بن سعيد وقد انطوى على دغل نية وفساد طوية وطماعيته في نقل الخلافة فلما ساروا عن دمشق أياما تمارض عمرو بن سعيد واستأذن عبدالملك في العودة إلى دمشق فأذن له فلما عاد ودخل دمشق صعد المنبر وخطب خطبة نال فيها من عبدالملك ودعا الناس إلى خلعه فأجابوه إلى ذلك وبايعوه فاستولى على دمشق وحصن سورها وبذل الرغائب وبلغ ذلك عبدالملك وهو متوجه إلى أبن الزبير فأشير على عبدالملك أن يرجع إلى دمشق ويترك ابن الزبير لأن ابن الزبير لم يعطه طاعة ولا وثب له على مملكة فهو في صورة ظالم له وقصده لعمرو بن سعيد في صورة مظلوم لأنه نكث بيعته وخان أمانته وأفسد رعيته فرجع إلى دمشق فظفر بعمرو بن سيعد
ويقال إن سبب بناء عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنه للكعبة أنه جاء سيل فطبقها فكان عبدالله رضي الله تعالى عنه يطوف سباحة أي ولا مانع من وجود الأمرين الحرق والسيل فلما رأى عبدالله ما وقع في الكعبة شاور من حضر ومن جملتهم عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما في هدمها فهابوا هدمها وقالوا نرى أن يصلح ما وهي ولا تهدم فقال لو أن بيت أحدكم أحرق لم يرض له إلا بأكمل إصلاح ولا يكمل إصلاحها إلا بهدمها
وقد حدثته خالته عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه

قال لها ألم ترى قومك يعنى قريشا حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين عجزت بهم النفقة لولا حدثان قومك بالجاهلية أي قرب عهدهم بها أي وفي لفظ لولا الناس حديثو عهد الجاهلية أي قريب عهدهم بها أي وفي لفظ لولا الناس حديثو عهد بكفر وليس عندي من النفقة ما يقوى على بنائها لهدمتها وجعلت لها خلفا أي بابا من خلفها أي وفي لفظ لجعلت لها بابا يدخل منه وبابا بحياله يخرج الناس منه وفي لفظ وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وألصقت بابها الأرض أي كما كان عليه في زمن إبراهيم ولأدخلت الحجر فيها أي وفي رواية لأدخلت نحو ستة أذرع وفي رواية ستة أذرع وشيئا وفي رواية وشبرا وفي رواية قريبا من سبعة أذرع فقد اضطربت الروايات في القدر الذي أخرجته قريش وفي لفظ لأدخلت فيها ما أخرج منها وفي لفظ لجعلتها على أساس إبراهيم وأزيد أي بأن أزيد في الكعبة من الحجر أي ذلك ما أخرجته قريش خشى صلى الله عليه وسلم أن تنكر قلوبهم هدم بنائهم الذي يعدونه من أكمل شرفهم فربما حصل لهم الإرتداد عن الإسلام
وقد ذكر بعضهم أن كل من بنى الكعبة بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يبنها إلا على قواعد إبراهيم غير أن قريشا ضاقت بهم النفقة أي الحلال الحديث وهذا بناء على أن من بعد إبراهيم وقبل قريش بناها كلها وليس كذلك بل الحاصل منهم إنما هو ترميم لها فقوله لم يبنها إلا على قواعد إبراهيم ليس على ظاهره بل المراد أنه أبقاها على ذلك
قال وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال لعبدالله دع بناء وأحجارا أسلم عليها المسلمون وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم أي فإنه يوشك أن يأتي بعدك من يهدمها فلا يزال يهدم ويبنى فيتهاون الناس بحرمتها ولكن ارفعها أي رمها فقال عبدالله إني مستخير ربي ثلاثا ثم عازم على أمري فلما مضى الثلاث أجمع أمره على أن ينقضها فتحاماها الناس وخشوا أن ينزل بأول الناس يقصدها أمر من السماء حتى صعدها رجل فألقى منها حجارة فلم ير الناس أصابه شيء فتابعوه
أي وقيل أول فاعل لذلك عبدالله بن الزبير نفسه رضي الله تعالى عنه وخرج ناس كثير من مكة إلى منى ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأقاموا بها ثلاثا مخافة أن

يصيبهم عذاب شديد بسبب هدمها وأمر ابن الزبير جماعة من الحبشة بهدمها رجاء أن يكون فيهم الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم أنه يهدمها
وفيه أن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يهدمها ذكر صفته حيث قال كأني أنظر إليه أسود أفحج ينقضها حجرا حجرا وجاء في وصفه أنه مع كونه أفحج الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن ووصف أيضا بأنه أصلع وفي لفظ أجلح وهو من ذهب شعر مقدم رأسه ووصف بأنه أصعل أي صغير الرأس وبأنه أصمع أي صغير الأذنين معه أصحابه ينقضونها حجرا حجرا ويتناولونها حتى يرموا بها إلى البحر
أي وقوله ويتناولونها حتى يرموا بها إلى البحر لعله لم يثبت عند ابن الزبير وكذا تلك الأوصاف وهدم الحبشة لها يكون بعد موت عيسى عليه الصلاة والسلام ورفع القرآن من الصدور والمصاحف أي وورد أن أول ما يرفع رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام والقرآن وأول نعمة ترفع من الأرض العسل وقيل يكون هدمها في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام
وجمع بأنه يهدم بعضها في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام فإذا جاءهم الصريخ هربوا فإذا مات عيسى عادوا وكملوا هدمها
فهدمها عبدالله إلى أن انتهى الهدم إلى القواعد أي التي هي الأساس قال وفي رواية كشف له عن أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام فوجده داخلا في الحجر ستة أذرع وشيئا وأحجار ذلك الأساس كأنها أعناق الإبل حجارة حمراء آخذ بعضها في بعض مشبكة كتشبك الأصابع وأصاب فيه قبر أم إسمعيل عليه الصلاة والسلام وهذا ربما يدل على أنه لم يصب فيه قبر إسمعيل وهو يؤيد القول بأن قبره في حيال الموضع الذي فيه الحجر الأسود لا في الحجر كما ذكره الطبري وأنه تحت البلاطة الخضراء التي بالحجر كما تقدم فدعا عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما خمسين رجلا من وجوه الناس وأشرافهم وأشهدهم على ذلك الأساس وأدخل عبدالله ابن المطيع العدوي عتلة كانت بيده في ركن من أركان البيت فتزعزت الأركان كلها فارتج جوانب البيت ورجفت مكة بأسرها رجفة شديدة وطارت منه برقة فلم يبق دار من دور مكة إلا دخلت فيها ففزعوا


أقول تقدم في بناء قريش أنهم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها ببعض وأن رجلا أدخل عتلته بين حجرين منها فحصل نحو ما ذكر
وقد يقال لا مخالفة بين كون تلك الأحجار كانت خضراء وبين كونها حمراء لأنه يجوز أن تكون حمرة تلك الاحجار ليست صافية بل هي قريبة من السواد ومن ثم وصفت بأنها زرق كما تقدم والأسود يقال له أخضر كما أن الأخضر غير الصافي يقال له أسود والصافي يقال له أزرق والله أعلم
وجعل عبدالله على تلك القواعد ستورا فطاف الناس بتلك الستور حتى بنى عليها وارتفع البناء وزاد في أتفاعها على ما كانت عليه في بناء قريش تسعة أذرع فكانت سبعا وعشرين ذراعا زاد بعضهم وربع ذراع وبناها على مقتضى ما حدثته به خالته عائشة رضي الله تعالى عنها فأدخل فيه الحجر أي لأنه يجوز أن يكون إدخال الحجر هو الذي سمعه من عائشة فعمل به دون غير ذلك من الروايات المتقدمة الدال على أن الحجر ليس من البيت وإنما منه ستة أذرع وشبر أو قريب من سبعة أذرع
وفيه أن هذا أي قوله فأدخل فيه الحجر هو الموافق لما تقدم من أن قريش أخرجت منها الحجر وهو واضح إن كان وجد الأساس خارجا عن جميع الحجر
وأما إذا لم يكن خارجا عن جميع الحجر كيف يتعداه ولا يبنى عليه إعتمادا على ما حدثته به خالته عائشة رضي الله تعالى عنها على أنه سيأتي عن نص حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال لها فإن بدا لقومك من بعد أن يبنوا فهلمي لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من ستة أذرع فليتأمل وجعل لها خلفا أي بابا من خلفها وألصقه بالأس كالمقابل له
قال ولما ارتفع البناء إلى مكان الحجر الأسود وكان في وقت الهدم وجد مصدعا بسبب الحريق كما تقدم فشده بالفضة ثم جعله في ديباجة وأدخله في تابوت وأقفل عليه وأدخله دار الندوة فحين وصل البناء إلى محله أمر إبنه حمزة وشخصا آخر أن يحملاه ويضعاه محله وقال إذا وضعتماه وفرغتما فكبرا حتى أسمعكما فأخفف صلاتي فإنه صلى بالناس بالمسجد إغتناما لشغلهم عن وضعه لما أحس منهم بالتناقض في ذلك أي أن كل واحد يريد أن يضعه وخاف الخلاف فلما كبر تسامع الناس بذلك فغضب جماعة من قريش حيث لم يحضرهم

وكون الحجر وجد مصدعا بسبب الحريق وكون ابن الزبير شده كذلك بالفضة لا ينافى ما وقع بعد ذلك من أن أبا سعيد كبير القرامطة وهم طائفة ملاحدة ظهروا بالكوفة سنة سبعين ومائتين يزعمون أن لا غسل من الجنابة وحل الخمر وأنه لا صوم في السنة إلا يوم النيروز والمهرجان ويزيدون في أذانهم وأن محمد بن الحنفية رسول الله وأن الحج والعمرة إلى بيت المقدس وافتتن بهم جماعة من الجهال وأهل البراري وقويت شوكتهم حتى انقطع الحج من بغداد بسببه وسبب ولده أبي طاهر فإن ولده أبا طاهر بنى دارا بالكوفة وسماها دار الهجرة وكثر فساده وإستيلاؤه على البلاد وقتله المسلمين وتمكنت هيبته من القلوب وكثرت أتباعه وذهب إليه جيش الخليفة المقتدر بالله السادس عشر من خلفاء بني العباس غير ما مرة وهو يهزمهم
ثم إن المقتدر سير ركب الحاج إلى مكة فوافاهم أبو طاهر يوم التروية فقتل الحجيج بالمسجد الحرام وفي جوف الكعبة قتلا ذريعا وألقى القتلى في بئر زمزم وضرب الحجر الأسود بدبوسه فكسره ثم اقتلعه وأخذه معه وقلع باب الكعبة ونزع كسوتها وسققها بين أصحابه وهدم قبة زمزم وارتحل عن مكة بعد أن أقام بها أحد عشر يوما ومعه الحجر الأسود وبقى عند القرامطة أكثر من عشرين سنة أي والناس يضعون أيديهم محله للتبرك ودفع لهم فيه خمسون ألف دينار فأبوا حتى أعيد في خلافة المطيع وهو الرابع والعشرون من خلفاء بني العباس فأعيد الحجر إلى موضعه وجعل له طوق فضة شدد زنته ثلاثة آلاف وسبعمائة وتسعون درهما ونصف
قال بعضهم تأملت الحجر وهو مقلوع فإذا السواد في رأسه فقط وسائره أبيض وطوله قدر عظم الذراع
وبعد القرامطة في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة قام رجل من الملاحدة وضرب الحجر الأسود ثلاث ضربات بدبوس فتشقق وجه الحجر من تلك الضربات وتساقطت منه شظيات مثل الأظفار وخرج مكسره أسمر يضرب إلى الصفرة محببا مثل حب الخشخاش فجمع بنو شيبة ذلك الفتات وعجنوه بالمسك واللك وحشوه في تلك الشقوق وطلوه بطلاء من ذلك وجعل طول الباب أحد عشر ذراعا والباب الآخر بإزائه كذلك
فلما فرغ من بنائها خلقها من داخلها وخارجها بالخلوق أي الطيب والزعفران وكساها القباطي أي وهو ثياب بيض رقاق من كتان تتخذ بمصر


وفي كلام بعضهم أول من كسا الكعبة الديباج عبدالله بن الزبير
وأقول وبناء عبدالله للكعبة من جملة أعلام النبوة لأنه من الإخبار بالمغيبات ففي نص حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمى لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من ستة أذرع وتقدم أن هذا يرد قول بعضهم أن ابن الزبير أدخل في بنائه جميع الحجر
قال بعضهم وهذا منه صلى الله عليه وسلم تصريح بالإذن في أن يفعل ذلك بعده صلى الله عليه وسلم عند القدرة عليه والتمكن منه
وقد قال المحب الطبري وهذا الحديث يعنى حديث عائشة رضي الله تعالى عنها يدل تصريحا وتلويحا على جواز التغيير في البيت إذا كان لمصلحة ضرورية أو حاجية أو مستحسنة
قال الشهاب ابن حجر الهيتمي ومن الواضح البين أن ما وهى وتشقق منها في حكم المنهدم أو المشرف على الإنهدام فيجوز إصلاحه بل يندب بل يجب هذا كلامه
وفي شعبان سنة تسع وثلاثين وألف جاء سيل عظيم بعد صلاة العصر يوم الخميس لعشرين من الشهر المذكور هدم معظم الكعبة سقط به الجدار الشامي بوجهيه وانحدر معه في الجدار الشرقي إلى حد الباب ومن الجدار الغربي من الوجهين نحو السدس وهدم أكثر بيوت مكة وأغرق في المسجد جملة من الناس خصوصا الأطفال فإن الماء ارتفع إلى أن سد الأبواب
وعند مجيء الخبر بذلك إلى مصر جمع متوليها الوزير محمد باشاه وهو الوزير الأعظم الآن أي في سنة ثلاث وأربعين وألف جمعا من العلماء كنت من جملتهم وقعت الإشارة بالمبادرة للعمارة وقد جعلت للوزير المذكور في ذلك رسالة لطيفة وقعت منه موقعا كبيرا وأعجب بها كثيرا حتى أنه دفعها لمن عبر عنها باللغة التركية وأرسل بها لحضرة مولانا السلطان مراد أعز الله أنصاره وذكرت فيها أن الحق أن الكعبة لم تبن جميعها إلا ثلاث مرات المرة الأولى بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام والثانية بناء قريش وكان بينهما ألفا سنة وسبعمائة سنة وخمس وسبعون سنة والثالثة بناء عبدالله بن الزبير أي وكان بينهما نحو إثنتين وثمانين سنة أي وأما بناء الملائكة وبناء آدم وبناء شيث لم يصح وأما بناء جرهم والعمالقة وقصى فإنما كان ترميما ولم تبن

بعد هدمها جميعا إلا مرتين مرة زمن قريش ومرة زمن عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنه
وحينئذ يكون ما جاء في الحديث استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع وقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة معناه قد يهدم مرتين ويرفع في الهدم الثالث من الدنيا
وذكر الإمام البلقيني أن كون ابن الزبير أول من كسا الكعبة الديباج أشهر من القول بأن أول من كساها الديباج أم العباس بن عبدالمطلب كما سيأتي وجاز أن يكون عبدالله بن الزبير كساها أولا القباطي ثم كساها الديباج والله أعلم وكان كسوتها أي في زمن الجاهلية المسوح والأنطاع فإن أول من كساها تبع الحميري كساها الأنطاع ثم كساها الثياب الحميرية أي وفي رواية كساها الوصائل وهي برود حمر فيها خطوط خضر تعمل باليمن
وفي كلام الإمام البلقيني ويروى أن تبعا اليماني لما كساها الخسف انتفضت فزال ذلك عنها فكساها المسوح والأنطاع فانتفضت فزال ذلك عنها فكساها الوصائل فقبلتها قال والوصائل ثياب موصولة من ثياب اليمن
وفي الكشاف كان تبع الحميري مؤمنا وكان قومه كافرين ولذلك ذم الله قومه ولم يذمه
وعن النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم وعنه عليه الصلاة والسلام ما أدرى أكان تبع نبيا أو غير نبي
هذا وقد نقل الشمس الحموي في كتابه المناهج الزهية والمباهج المرضية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان نبيا وقيل أول من كساها عدنان بن أدد وكانت قريش تشترك في كسوة الكعبة حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة فقال لقريش أنا أكسو الكعبة سنة وحدى وجميع قريش سنة أي وقيل كان يخرج نصف كسوة الكعبة في كل سنة ففعل ذلك إلى أن مات فسمته قريش العدل لأنه عدل قريشا وحده في كسوة الكعبة ويقال لبنيه بنو العدل وكانت كسوتها لا تنزع فكان كلما تجدد كسوة تجعل فوق واستمر ذلك إلى زمنه صلى الله عليه وسلم ثم كساها النبي صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية


وفي كلام بعضهم أول من كسا الكعبة القباطي النبي صلى الله عليه وسلم وكساها أبو بكر وعمر وعثمان القباطي
وكساها معاوية الديباج والقابطي والحبرات فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء والقباطي في آخر رمضان والإقتصار على ذلك ربما يفيد أن عطف الحبرات على القباطي من عطف التفسير فليتأمل
وكساها المأمون الديباج الأحمر والديباج الأبيض والقباطي فكانت تكسى الأحمر يوم التروية والقباطي يوم هلال رجب والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان قال بعضهم وهكذا كانت تكسى في زمن المتوكل العباسي ثم في زمن الناصر العباسي كسيت السواد من الحرير واستمر ذلك إلى الآن في كل سنة وكسوتها من غلة قريتين يقال لهما بيسوس وسندبيس من قرى القاهرة وقفهما على ذلك الملك الصالح إسماعيل ابن الناصر محمد بن قلاوون في سنة نيف وخمسين وسبعمائة أي والآن زادت القرى على هاتين القريتين
والحاصل أن أول من كساها على الإطلاق تبع الحميري كما تقدم على الراجح وذلك قبل الإسلام بتسعمائة سنة
قيل وسبب كسوة أم عمه صلى الله عليه وسلم لها الديباج أن العباس ضل وهو صبي فنذرت إن وجدته لتكسون الكعبة فوجدته فكست الكعبة الديباج أي وكانت من بيت مملكة
وقيل أول من كساها الديباج عبدالملك بن مروان أي وهو المراد بقول ابن إسحاق أول من كساها الديباج الحجاج لأن الحجاج كان من أمراء عبدالملك
وقد سئل الإمام البلقيني هل تجوز كسوة الكعبة بالحرير المنسوج بالذهب ويجوز إظهارها في دوران المحمل الشريف فأجاب بجواز ذلك قال لما فيه من التعظيم لكسوتها الفاخرة التي ترجى بكسوتها الخلع السنية في الدنيا والآخرة ويجوز إظهارها في دوران المحمل الشريف فإن في ذلك المناسبة للحال المنيف هذا كلامه
أي وأول من حلى بابها بالذهب جده صلى الله عليه وسلم عبد المطلب فإنه لما حفر بئر زمزم وجد فيها الأسياف والعزالتين من الذهب فضرب الأسياف بابا لها وجعل في ذلك الباب الغزالتين فكان أول ذهب حليته الكعبة على ما تقدم


وأول من ذهب الكعبة في الإسلام عبدالملك بن مروان وقيل عبدالله ابن الزبير جعل على أساطينها صفائح الذهب وجعل مفاتيحها من الذهب وجعل الوليد بن عبدالملك الذهب على الميزاب
يقال إنه أرسل لعامله على مكة ستة وثلاثين ألف دينار يضرب منها على باب الكعبة وعلى الميزاب وعلى الأساطين التي داخلها وعلى أركانها من داخل
وذكر أن الأمين بن هرون الرشيد أرسل إلى عامله بمكة بثمانية عشر ألف دينار ليضرب بها صفائح الذهب على بابي الكعبة فقطع ما كان على الباب من الصفائح وزاد عليها ذلك وجعل مساميرها وحلقتي الباب والعتب من الذهب وإن أم المقتدر الخليفة العباسي أمرت غلامها لؤلؤ أن يلبس جميع أسطوانات البيت ذهبا ففعل
وقال عبدالله بن الزبير لما فرغ من بنائها من كان لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم ومن قدر أن ينحر بدنة فليفعل فإن لم يقدر فشاة ومن لم يقدر فليتصدق بما تيسر وأخرج مائة بدنة فلما طاف استلم الأركان الأربعة جميعا فلم تزل الكعبة على بناء عبدالله بن الزبير تستلم أركانها الأربعة أي لأنها على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويدخل إليها من باب يخرج من باب حتى قتل أي قتله شخص من جيش الحجاج بحجر رماه به فوقع بين عينيه فقتل وهو بالمسجد لأن الحجاج كان أميرا على الجيش الذي أرسله عبدالملك بن مروان لقتاله
وكتب عبدالملك بن مروان إلى الحجاج أن اهدم ما زاده ابن الزبير فيها أي يهدم البناء الذي جعله على آخر الزيادة التي أدخلها في الكعبة وكانت قريش أخرجتها بدليل قوله وردها إلى ما كانت عليه وسد الباب الذي فتح أي وأن يرفع الباب الأصلي إلى ما كان عليه زمن قريش واترك سائرها أي لأنه اعتقد أن ابن الزبير فعل ذلك من تلقاء نفسه فكتب الحجاج إلى عبدالملك يخبره بأن عبدالله بن الزبير وضع البناء على أس قد نظر إليه العدول من أهل مكة أي وهم خمسون رجلا من وجوه الناس وأشرافهم كما تقدم فكتب إليه عبدالملك لسنا من تخبيط ابن الزبير في شيء فنقض الحجاج ما أدخل من الحجر وسد الباب الثاني أي الذي في ظهر الكعبة عند الركن اليماني ونقص من الباب الأول خمسة أذرع أي ورفعه إلى ما كان عليه في زمن قريش فبنى تحته أربعة أذرع وشبرا وبنى داخلها الدرجة الموجودة اليوم


وفي لفظ أن الحجاج لما ظفر بابن الزبير كتب إلى عبدالملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير زاد في الكعبة ما ليس فيها وأحدث فيها بابا آخر واستأذن في رد ذلك على ما كانت عليه في الجاهلية فكتب إليه عبدالملك أن يسد بابها الغربي ويهدم ما زاد فيها من الحجر ففعل ذلك الحجاج فسائرها قبل وقوع هذا الهدم بالسيل الواقع في سنة تسع وثلاثين بعد الألف فبنيانه على بنيان ابن الزبير إلا الحجاب الذي يلي الحجر فإنه من بنيان الحجاج أي والبناء الذي تحت العتبة وهو أربعة أذرع وشبر فإن باب الكعبة كان على عهد العماليق وجرهم وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لاصقا بالأرض حتى رفعته قريش كما تقدم وما سد به الباب الغربي والردم كان بالحجارة التي كانت داخل أرض الكعبة أي التي وضعها عبدالله بن الزبير أي ولعله إنما وضع في ذلك المحل الحجارة التي تصلح للبناء فلا ينافى ما أخبرني به بعض الثقات أن بعض بيوت مكة كان فيها بعض الحجارة التي أخرجت من الكعبة زمن عبدالله بن الزبير
ويقال إن ذلك البيت الذي كان فيه تلك الحجارة كان بيتا لعبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنه وبناء الحجاج كان في السنة التي قتل فيها عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنه وهي سنة ثلاث وسبعين
قيل ولما دخل عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنه وهو محاصر حاصره الحجاج خمسة أشهر وقيل سبعة أشهر وسبع عشرة ليلة على أمه أسماء رضي الله تعالى عنهما قبل قتله بعشرة أيام وهي شاكية أي مريضة فقال لها كيف تجدينك يا أمه قالت ما أجدني إلا شاكية فقال لها إن في الموت لراحة فقالت لعلك تبغيه لي ما أحب أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك إما قتلت وإما ظفرت بعدوك فقرت عيني ولما كان اليوم الذي قتل فيه دخل عليها في المسجد فقالت له يا بني لاتقبلن منهم خطة تخاف فيها على نفسك الذي تخافه القتل فوالله لضربة بالسيف في عز خير من ضربة سوط في ذل
ويقال إن الناس لا زالوا يتنقلون عن ابن الزبير إلى الحجاج لطلب الأمان وهو يؤمنهم حتى خرج إليه قريب من عشرة آلاف حتى كان من جملة من خرج إليه حمزة وخبيب ابنا عبدالله بن الزبير وأخذ لأنفسهما أمانا من الحجاج فأمنهما
ودخل عبدالله على أمه فشكا إليها خذلان الناس له وخروجهم إلى الحجاج حتى

أولاده وأهله وأنه لم يبق معه إلا اليسير والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا فما رأيك فقالت يا بني أنت أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وتدعوا إلى حق فاصبر عليه فقد قتل أصحابك عليه ولا تمكن من رقبتك تلعب بها غلمان بني أمية وإن كنت إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك كم خلودك في الدنيا فدنا منها وقبل رأسها وقال والله ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمته
وبعد أن قتل وصلب على الجذع فوق الثنية ومضت ثلاثا أيام جاءت أمه أسماء رضي الله تعالى عنها تقاد لأن بصرها كان قد كف حتى وقفت عليه فدعت له طويلا ولم يقطر من عينها دمعة وقالت للحجاج أما آن لهذا الراكب أن ينزل فقال لها الحجاج المنافق رأيت كيف نصر الله الحق وأظهر أن ابنك ألحد في هذا البيت وقد قال تعالى { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم
وفي كلام سبط ابن الجوزي أن ابن الزبير لما قال لعثمان رضي الله تعالى عنه وهو محاصر إن عندي نجائب أعددتها لك فهل لك أن تنجو إلى مكة فإنهم لا يستحلونك بها قال له عثمان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يلحد رجل في الحرم من قريش أو بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم فلن أكون أنا
وفي رواية قال له لا لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يلحد بمكة كبش من قريش اسمه عبدالله عليه مثل نصف أوزار الناس هذا كلامه
وعندي أن المراد بعبدالله الحجاج لا ابن الزبير ولا مانع أن يكون الحجاج من قريش على أن الذي في الصواعق لابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى أن القائل لعثمان ذلك المغيرة بن شعبة
ولما سمعت سيدتنا أسماء رضي الله تعالى عنها الحجاج يقول في ولدها المنافق قالت له كذبت والله ما كان منافقا ولكنه كان صواما قواما برا كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة وسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحنكه بيده وكبر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحا به كان عاملا بكتاب الله حافظا لحرم الله يبغض أن يعصى الله عز وجل قال انصرفي فإنك عجوز قد خرفت قالت والله ما خرفت ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج من ثقيف كذاب ومبير


أما الكذاب فقد رأيناه تعنى المختار بن أبي عبيد الثقفي والي العراق فإنه لما قتل الحسين رضي الله تعالى عنه اتفق مع طائفة من الشيعة ممن كان خذل الحسين ولما قتل ندموا على ذلك فوافقوا المختار على مقاتلة من قتل الحسين من أهل الكوفة فتوجهوا إليه وقتلوا جميع من قاتل الحسين وملكوا الكوفة وشكر الناس للمختار ذلك ثم قالت وأما المبير فأنت المبير
ولما بلغ عبدالملك ما قاله الحجاج لأسماء كتب إليه يلومه على ذلك أي ومن ثم أرسل إليها الحجاج فأبت أن تأتيه فأعاد إليها الرسول وقال إما أن تأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك فأبت وقالت والله لا آتيك حتى تبعث إلى من يسحبني بقروني فعند ذلك أخذ نعليه ومشى حتى دخل عليها فقال يا أمه إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لك من حاجة فقالت لست لك بأم ولكني أم المصلوب على رأس الثنية ومالي من حاجة ولكن انتظر حتى أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج من ثقيف كذاب ومبير فأما الكذاب فقد رأيناه وأما المبير فأنت فقال الحجاج مبير للمنافقين ومن كذب المختار أنه ادعى النبوة وأنه يأتيه الوحي ويسر ذلك لأحبابه
وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعضهم قال كنت أقوم بالسيف على رأس المختار ابن أبي عبيد فسمعته يوما يقول قام جبريل عن هذه النمرقة وفي رواية من على هذا الكرسي فأردت أن أضرب عنقه فتذكرت حديثا حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أمن الرجل الرجل على دمه ثم قتله رفع له لواء الغدر يوم القيامة فكففت عنه ولعل هذا مستند ما نقل عن كتاب الإملاء لإمامنا الشافعي رضي الله عنه من القول بأن المسلم يقتل بالمستأمن
وقد كتب المختار للأحنف بن قيس وجماعته وقد بلغني أنكم تسموني الكذاب وقد كذب الأنبياء من قبلي لست بخير منهم
وقد كان يقع منه أمور تشبه الكهانة منها أنه لما جهز جيشا لقتال عبيدالله بن زياد المجهز للجيش لمقاتلة الحسين رضي الله تعالى عنه كما تقدم قال لأصحابه في غد يأتي إليكم خبر النفير وقتل ابن زياد فكان كما أخبر وجئ برأس ابن زياد وألقيت بين يدي المختار وكان قتله يوم عاشوراء اليوم الذي قتل فيه الحسين ثم قتل المختار وكان قتل المختار على

يد مصعب بن الزبير جئ برأس المختار بين يدي مصعب لما ولى العراق من جانب أخيه لأبيه عبدالله بن الزبير
ومما يؤثر عن مصعب العجب من ابن آدم كيف يتكبر وقد جرى في مجرى البول مرتين ثم قتل مصعب وقطعت رأسه ووضعت بين يدي عبدالملك بن مروان
وعن بعضهم أنه حدث عبدالملك فقال له يا أمير المؤمنين دخلت القصر قصر الإمارة بالكوفة فإذا رأس الحسين على ترس بين يدي عبيدالله بن زياد وعبيدالله بن زياد على السرير ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس عبيدالله بن زياد على ترس بين يدي المختار والمختار على السرير ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير على السرير ثم دخلت بعد ذلك بحين فرأيت رأس مصعب بن الزبير بين يديك وأنت على السرير فقال عبدالملك لا أراك الله الخامسة ثم أمر بهدم ذلك القصر
وعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أن أبا الحجاج لما دخل بأم الحجاج واقعها فنام فرأى قائلا يقول له في المنام ما أسرع ما أنجبت بالمبير
وفي كلام سبط بن الجوزي أن أم الحجاج كانت قبل أبيه مع المغيرة بن شعبة فطلقها بسبب أنه دخل عليها يوما فوجدها تتخلل حين انقلبت من صلاة الصبح فقال لها إن كنت تتخللين من طعام البارحة إنك لقذرة وإن كان من طعام اليوم إنك لنهمة كنت فبنت قالت والله ما فرحنا إذ كنا ولا أسفنا إذ بنا ولا هو شيء مما ظننت ولكني استكت فأردت أن أتخلل من السواك فندم المغيرة على طلاقها فخرج فلقي يوسف بن أبي عقيل والد الحجاج فقال له هل لك إلى شيء أدعوك إليه قال وما ذاك قال إني نزلت عن سيدة نساء ثقيف وهي الفارعة فتزوجها تنجب لك فتزوجها فولدت له الحجاج
وفي حياة الحيوان إنها كانت قبل أبي الحجاج عند أمية بن أبي الصلت هذا كلامه
وقد يقال لا مانع أنها تزوجت الثلاثة وإن تزوجها لأمية كان قبل المغيرة وكونها سيدة نساء ثقيف يبعد القول بأنها المتمنية التي مر بها سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه وهي تنشد

** هل من سبيل إلى خمر فأشربها **
الأبيات وأنه كان يعير بها فيقال له ابن المتمنية وفي مدة صلب عبدالله بن الزبير صارت أمه تقول اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته وذهب أخوه عروة بن الزبير إلى عبدالملك بن مروان يسأل في إنزاله عن الخشبة فأجابه وأنزله قال غاسله كنا لا نتناول عضوا من أعضائه إلا جاء معنا فكنا نغسل العضو ونضعه في أكفانه وقامت فصلت عليه أمه وماتت بعده بجمعة ذكر ذلك في الإستيعاب وقيل بعده بمائة يوم قال الحافظ ابن كثير وهو المشهور وبلغت من العمر مائة سنة ولم يسقط لها سن ولم ينكر لها عقل وقتل مع ابن الزبير مائتان وأربعون رجلا منهم من سال دمه في جوف الكعبة وكان من جملة من قتل عبدالله بن صفوان بن أمية الجمحي قتل يوم قتل ابن الزبير وقطع رأسه وبعث الحجاج برأسه ورأس ابن الزبير إلى المدينة فنصبوهما وصاروا يقربون رأس عبدالله بن صفوان إلى رأس ابن الزبير كأنه يساره يلعبون بذلك ثم بعثوا بهما إلى عبدالملك بن مروان
ولما وضعت رأس عبدالله بن الزبير بين يدي عبدالملك سجد وقال والله كان أحب الناس إلي وأشدهم إلي إلفا ومودة ولكن الملك عقيم أي فإن الرجل يقتل ابنه أو أخاه على الملك فإذا فعل ذلك انقطعت بينهما الرحم وستأتي مدحة عبد الملك لعبدالله بن الزبير وتوبيخ أمير الجيش الذي أرسله يزيد لمقاتلته
وقد كان ابن الزبير قال لعبدالله بن صفوان إني قد أقلتك بيعتي فاذهب حيث شئت فقال إنما أقاتل عن ديني وكان سيدا شريفا مطاعا حليما كريما قتل وهو متعلق بأستار الكعبة وحينئذ يشكل كونه حرما آمنا
ومما يدل لما تقدم من أن عبدالله بن الزبير كان عنده سوء خلق ما حكى أنه جاء إليه شخص فقال له إن الناس على باب عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما يطلبون العلم وإن الناس على باب أخيه عبيدالله يطلبون الطعام فأحدهما يفقه الناس والآخر يطعم الناس فما أبقيا لك مكرمة فدعا شخصا وقال له انطلق إلى ابني العباس رضي الله تعالى عنهم وقل لهما يقول لكما أمير المؤمنين اخرجا عني وإلا فعلت وفعلت فخرجا إلى الطائف أي وقيل ما خرج عبدالله من مكة إلى الطائف إلا لإن الله تعالى يقول { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم }


فقد قال الشيخ محي الدين بن العربي اعلم أن الله تعالى قد عفا عن جميع الخواطر التي لا تستقر عندنا إلا بمكة لأن الشرع قد ورد أن الله يؤاخذ فيه من يرد فيه بإلحاد بظلم وكان هذا سبب سكني عبدالله بن عباس بالطائف احتياطا لنفسه لأنه ليس في قدرة الإنسان أن يدفع عن قلبه الخواطر
قال بعضهم كان يقال من أراد الفقه والجمال والسخاء فليأت دار العباس الجمال للفضل والسخاء لعبيدالله والفقه لعبدالله
قال ولما حج عبدالملك أي وذلك في سنة خمس وسبعين قال له الحارث أنا أشهد لإبن الزبير بالحديث الذي سمعه من خالته عائشة رضي الله تعالى عنها قال أنت سمعته منها قال نعم فجعل ينكت بالمثناة فوق بقضيب كان في يده الأرض ساعة ثم قال وددت أني كنت تركته يعنى ابن الزبير وما تحمل
وفي رواية أن عبدالملك كتب إلى الحجاج وددت أنك تركت ابن الزبير وما تحمل وهذا هو الموافق لما في تاريخ الأزرقي أن الحرث وفد على عبد الملك بن مروان في خلافته فقال له عبد الملك ما أظن أنا خبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة رضي الله تعالى عنها ما كان يزعم أنه سمع منها في بناء الكعبة قال الحرث أنا سمعته منها قال عبدالملك أنت سمعته منها الحديث وكون عائشة حدثت ابن الزبير بما ذكر لا ينافى ما في تاريخ ابن كثير عن بعضهم
قال سمعت ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما يقول حدثتني أمي أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة لولا قرب عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام الحديث وفي رواية أن عائشة رضي الله تعالى عنها نذرت إن فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تصلى في البيت ركعتين فلما فتحت مكة أي وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتح لها باب الكعبة ليلا فجاء عثمان بن طلحة بالمفتاح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إنها لم تفتح ليلا قط قال فلا تفتحها ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها وأدخلها الحجر وقال صلى ههنا فإن الحطيم أي الحجر من البيت إلا أن قومك قصرت بهم النفقة أي الحلال فأخرجوه من البيت ولولا حدثان قومك بالجاهلية لنقضت بناء الكعبة

وأظهرت قواعد الخليل وأدخلت الحطيم في البيت وألصقت العتبة على الأرض ولئن عشت إلى قابل لأفعلن ذلك ولم يعش عليه الصلاة والسلام ولم تتفرغ الخلفاء لذلك
وبما ذكر يعلم ما في قول الأصل فهدمها أي عبدالملك وبناها على ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد علمت أن الحجاج لم يبن إلا الحجاب الذي يليه الحجر والبناء الذي تحت العتبة والدرجة التي في باطنها
وأما التراب الذي جعل في باطنها فيحتمل أن يكون هو التراب الذي أخرجه عبدالله بن الزبير استمر باقيا فأعاده الحجاج ويحتمل أنه غيره ولم أقف على بيان ذلك في كلام أحد
والشاذروان الذي أخرجه عبدالله بن الزبير من عرض الأساس الذي بنته قريش لأجل مصلحة استمساك البناء وثباته
ومن العجب ما حدث به بعضهم قال كنت أميرا على الجيش الذي بعث به يزيد ابن معاوية إلى عبدالله بن الزبير بمكة فدخلت مسجد المدينة فجلست بجانب عبدالملك بن مروان فقال لي عبدالملك أنت أمير هذا الجيش قلت نعم قال ثكلتك أمك أتدري إلى من تسير تسير إلى أول مولود ولد في الإسلام أي بالمدينة من أولاد المهاجرين وإلى ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ابن ذات النطاقين يعنى أسماء وإلى من حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والله إن جئته نهارا وجدته صائما وإن جئته ليلا وجدته قائما فلو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبهم الله في النار جميعا فلما صارت الخلافة إلى عبد الملك وجهنا مع الحجاج حتى قتلناه
وذكر بعضهم أن عبدالملك بن مروان لما رأى جيش يزيد متوجها إلى مكة قال أعوذ بالله أيبعث الجيش إلى حرم الله فضرب منكبه شخص كان يهوديا وأسلم وكان يقرأ الكتب وقال له جيشك إليه أعظم
ويقال إن هذا اليهودي مر على دار مروان والد عبدالملك هذا فقال ويل لأمة محمد من أهل هذه الدار أي لأن مروان كان سببا لقتل عثمان وعبدالملك ابنه كان سببا لقتل عبدالله بن الزبير ووقع من الوليد بن يزيد بن عبدالملك الأمور الفظيعة


وسبب ولاية الحجاج على الجيش أنه قال لعبد الملك بن مروان رأيت في منامي أني أخذت عبدالله بن الزبير فسلخته فولني قتاله فولاه فأرسله في جيش كثيف من أهل الشام فحضر ابن الزبير ورمى الكعبة بالمنجنيق ولما رمى به أرعدت السماء وأبرقت فخاف أهل الشام فصاح الحجاج هذه صواعق تهامة وأنا ابنها ثم قام ورمى المنجنيق بنفسه فزاد ذلك ولم تزل صاعقة تتبعها أخرى حتى قتلت اثني عشر رجلا فخاف أهل الشام زيادة
قال بعضهم ولا زال الحجاج يحضهم على الرمي بالمنجنيق ولم تزل الكعبة ترمى بالمنجنيق حتى هدمت وحرقت أستارها حتى صارت كالفحم
أي وفيه أنه لو كانت هدمت أو حرقت لأعيد بناؤها أو أصلحت بالترميم ولو وقع ذلك لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله ولعل هذا اشتبه على بعض الرواة ظن أن الذي وقع من جيش يزيد واقع من الحجاج
فإن قيل هلا أهلك الله من نصب المنجنيق على الكعبة كما أهلك أبرهة قلنا لأن من نصب المنجنيق لم يرد هدم الكعبة بخلاف أبرهة كما تقدم وفيه أنه قد يشكل كونه حرما آمنا
وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال حين وقع بينه وبين ابن الزبير أي وأمره بأن يخرج إلى الطائف ويهدده على ما تقدم قلت أبوه الزبير وأمه أسماء وخالته عائشة وجده أبو بكر وجدته صفية وفي رواية عنه أنه قال أما أبوه فحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الزبير وأما جده فصاحب الغار يريد أبا بكر وأما أمه فذات النطاقين يريد أسماء وأما خالته فأم المؤمنين يريد عائشة وأما عمته فزوج النبي صلى الله عليه وسلم يريد خديجة وأما عمة النبي صلى الله عليه وسلم فجدته يريد صفية ثم عفيف في الإسلام وقارئ للقرآن
ولما قتل عبدالله بن الزبير ارتجت مكة بالبكاء فجمع الحجاج الناس وخطبهم وقال في خطبته ألا إن ابن الزبير كان من أخيار هذه الأمة إلا أنه نازع الحق أهله إن الله خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسكنه جنته فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته وآدم أكرم على الله من ابن الزبير والجنة أعظم حرمة من الكعبة اذكروا الله يذكركم
ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ما روى أن عبدالله بن الزبير لما ولد نظر إليه

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هو هو فلما سمعت بذلك أمه أمسكت عن إرضاعه فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أرضعيه ولو بماء عينيك كبش بين ذئاب وذئاب عليها ثياب ليمنعن البيت أو ليقتلن دونه
وفي حياة الحيوان العرب إذا أرادوا مدح الإنسان قالوا كبش وإذا أرادوا ذمه قالوا تيس ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم في المحلل التيس المستعار
ويقال إن الحجاج بعد قتل ابن الزبير ذهب إلى المدينة وعلى وجهه لثام فرأى شيخا خارجا من المدينة فسأله عن حال أهل المدينة فقال شر حال قتل ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قتله قال الفاجر اللعين الحجاج عليه لعائن الله ورسله من قليل المراقبة لله فغضب الحجاج غضبا شديدا ثم قال أبها الشيخ أتعرف الججاج إذا رأيته قال نعم ولا عرفه الله خيرا ولا وقاه ضيرا فكشف الحجاج اللثام عن وجهه وقال ستعلم الآن إذا سال دمك الساعة فلما تحقق الشيخ أنه الحجاج قال إن هذا لهو العجب يا حجاج أنا فلان أصرع من الجنون في كل يوم خمس مرات فقال الحجاج اذهب لا شفى الله الأبعد من جنونه ولا عافاه وخلوص هذا من يد الحجاج من العجب لأن إقدامه على القتل ومبادرته إليه أمر لم ينقل مثله عن أحد
وكان يخبر عن نفسه ويقول إن أكبر لذاته سفك الدماء قال بعضهم والأصل في ذلك أنه لما ولد لم يقبل ثديا فتصور لهم إبليس في صورة الحرث بن كلدة طبيب العرب وقال اذبحوا له تيسا أسود وألعقوه من دمه واطلوا به وجهه ففعلوا به ذلك فقبل ثدي أمه
وذكر أنه أتى إليه بامرأة من الخوارج فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه ولا ترد عليه كلاما فقال لها بعض أعوانه يكلمك الأمير وأنت معرضة فقال إني أستحي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه فأمر بها فقتلت وقد أحصى الذي قتل بين يديه صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألف
ولما عزى سيدتنا أسماء عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهم وأمرها بالصبر قالت وما يمنعني من الصبر وقد أهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بعي من بغايا بني إسرائيل وقد جاء أن هذه البغى أول من يدخل النار


ويقال إن عبدالله بن الزبير قال لأمه يوم قتل يا أمه إني مقتول من يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمى الأمرلله فإن إبنك لم يعمد لإتيان منكر ولا عمل فاحشة
وفي كون عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما تأخر موته عن ابن الزبير نظر فقد قيل إن عبدالله بن عمر مات قبل ابن الزبير بثلاثة أشهر وسبب موته أن الحجاج سفه عليه فقال له عبدالله إنك سفيه مسلط فغيره ذلك عليه فأمر الحجاج شخصا أن يسم زج رمحه ويضعه على رجل عبدالله ففعل به ذلك في الطواف فمرض من ذلك أياما ومات
ويذكر أن الحجاج دخل ليعوده فسأله عمن فعل به ذلك وقال له قتلني الله إن لم أقتله فقال له عبدالله لست بقاتل له قال ولم قال لأنك الذي أمرته
وقول عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما للحجاج إنك سفيه مسلط يشير إلى قول أبيه عمر رضي الله تعالى عنهما فإنه لما بلغه أن أهل العراق حصبوا أميرهم أي رجموه بالحجارة خرج عضبان فصلى فسها في صلاته فلما سلم قال اللهم إنهم قد لبسوا علي فألبس عليهم وعجل عليهم بالغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم الجاهلية لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم وكان ذلك قبل أن يولد الحجاج
ثم رأيت في تاريخ ابن كثير لما مات ابن الزبير واستقر الأمر لعبدالملك ابن مروان بايعه عبدالله بن عمر ويوافقه ما في الدلائل للبيهقي أن ابن عمر وقف على ابن الزبير وهو مصلوب وقال السلام عليك أبا خبيب أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا أما والله إن كنت ما علمت صواما قواما وصولا للرحم
ويذكر أنه كان لعبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما مائة غلام لكل غلام منهم لغة لا يشاركه غيره فيها وكان يكلم كل واحد منهم بلغته وهذا أغرب مما استغرب وهو أن ترجمان الواثق بالله من الخلفاء بني العباس كان عارفا بألسن كثيرة حتى قيل إنه يعرف أربعين لغة ويمارى فيها
وقد قال الحجاج لعروة بن الزبير يوما في كلام جرى بينهما لا أم لك فقال

إلى تقول هذا وأنا ابن عجائز الجنة يعنى جدته صفية وعمته خديجة وخالته عائشة وأمه أسماء
وقال الحجاج يوما لشخص ما تقول في عبدالملك بن مروان فقال الرجل ما أقول في رجل أنت سيئة من سيئاته
وقد أطلق سليمان بن عبدالملك لما ولى الخلافة من سجن الحجاج سبعين ألفا قد حبسهم للقتل ليس لواحد منهم ذنب يستوجب به الحبس فضلا عن القتل
وذكر أنه كان يحبس الرجال مع النساء ولم يكن لحبسه بيوت أخلية فكان الرجل يبول بجانب المرأة والمرأة تبول بجانب الرجل فتبدو العورات وكان كل عشرة في سلسلة ويطعمهم خبز الدخن مخلوطا بالملح والرماد
ومر يوم جمعة فسمع استغاثة فقال ما هذا فقيل له أهل السجن يقولون قتلنا الحر فقال قولوا لهم أخسئوا فيها ولا تكلمون فما عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعة
وآخر من قتله الحجاج من التابعين سيعد بن جبير رضي الله تعالى عنه ولم يقتل بعد ابن جبير إلا رجلا واحدا
وقال عمر بن عبدالعزيز لو جاءت كل أمة بفرعونها وجئناهم بالحجاج لغلبناهم وقال سليمان بن عبدالملك لرجل من أخصاء الحجاج بعد موت الحجاج أبلغ الحجاج قعر جهنم فقال يا أمير المؤمنين يجئ الحجاج يوم القيامة بين أبيك عبدالملك وبين أخيك هشام بن عبدالملك فضعه في النار حيث شئت
ومن غريب الإتفاق ما حكاه بعضهم قال مات رجل فلما وضع على مغتسله استوى قاعدا وقال نظرت بعيني هاتين وأهوى بيديه إلى عينيه الحجاج وعبدالملك في النار يسحبان بأمعائهما ثم عاد ميتا كما كان
والحجاج متأصل في الظلم فقد رأيت بعضهم حكى أنه يقال في المثل أظلم من ابن الجلندي وهو المشار إليه بقوله تعالى { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا } وإنه من أجداد الحجاج بينه وبينه سبعون جدا
واستحلف الحجاج رجلا في أمر قال لا والذي أنت بين يديه غدا أذل مني بين يديك اليوم فقال والله إني يومئذ لذليل
وأول من ضرب الدراهم في الإسلام الحجاج بأمر عبدالملك بن مروان وكتب

عليها { قل هو الله أحد الله الصمد } أي على أحد وجهي الدراهم { قل هو الله أحد } وعلى وجهه الثاني { الله الصمد }
ولم توجد الدراهم الإسلامية إلا في زمن عبدالملك بن مروان وكانت الدراهم قبل ذلك رومية وكسروية وفي زمن الخليفة المستنصر بالله وهو السابع والثلاثون من خلفاء بني العباس ضرب دراهم وسماها النقرة وكانت كل عشرة بدينار وذلك في سنة أربع وعشرين وستمائة
ولما دخل سليمان بن عبدالملك المدينة سأل هل بالمدينة أحد أدرك أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أبو حازم فأرسل إليه فلما دخل عليه سأله فقال يا أبا حازم مالنا نكره الموت فقال لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فكرهتم أن تنقلوا من عمران إلى خراب فقال له وكيف القدوم على الله قال أما المحسن فكغائب يقدم على أهله وأما المسئ فكآبق يقدم على مولاه فبكى سليمان وقال يا ليت شعري ما لنا عندالله قال اعرض عملك على كتاب الله تعالى فقال في أي مكان أجده فقال في قوله تعالى { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم } قال سليمان فأين رحمة الله قال قريب من المحسنين قال فأي عبادالله أكرم قال أولو المروءة
وجاء أعرابي إلى سليمان بن عبدالملك هذا فقال يا أمير المؤمنين إني أكلمك بكلام فاحتمله فإن وراءه إن قبلته ما تحب فقال سليمان هاته يا أعرابي فقال الأعرابي إني طلق لساني بما خرست عنه الألسن تأدية لحق الله إنه قد أكتنفك رجال قد أساءوا الإختيار لأنفسهم وابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم وخافوك في الله ولم يخافوا الله فيك فهم حرب للآخرة وسلم للدنيا فلا تأمنهم على ما استخلفك الله عليه فإنهم لن يبالوا بالأمانة وأنت مسئول عما اجترموا فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس عندالله عيبا من باع آخرته بدنيا غيره فقال له سليمان أنت ما أنت بأعرابي فقد سللت لسانك وهو سيفك قال أجل يا أمير المؤمنين لك لا عليك
ولما حج بالناس قال لولد عمه وولى عهده عمر بن عبدالعزيز ألا ترى هذا الخلق الذي لا يحصى عددهم إلا الله تعالى ولا يسع رزقهم غيره فقال يا أمير المؤمنين

هؤلاء رعيتك اليوم وهم غدا خصماؤك عندالله فبكى سليمان بكاء شديدا ثم قال بالله أستعين وقال يوما لعمر بن عبدالعزيز رضي الله تعالى عنه حين أعجبه ما صار إليه من الملك يا عمر كيف ترى ما نحن فيه فقال يا أمير المؤمنين هذا سرور لولا أنه غرور ونعيم لولا أنه عديم وملل لولا أنه هلك وفرح لو لم يعقبة ترح ولذات لو لم تقترن بآفات وكرامة لو صحبتها سلامة فبكى سليمان رحمه الله حتى اخضلت دموعه لحيته
وولاية عمر بن عبدالعزيز بشر بها جده لأمه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فعنه رضي الله تعالى عنه أنه قال إن من ولدي رجلا بوجهه شين و رواية علامة يملأ الأرض عدلا فكان ولده عبدالله يقول كثيرا ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر بن الخطاب في وجهه علامة يملأ الأرض عدلا وفي رواية عنه كان يقول يا عجبا يزعم الناس أن الدنيا لا تنقضى حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر قال بعضهم فإذا هو عمر بن عبدالعزيز لأن أمه ابنة عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه
ومما يؤثر عن سليمان رحمه الله تعالى أنه لما ولى الخلافة وقام خطيبا قال الحمد لله الذي ما شاء صنع وما شاء رفع ومن شاء وضع ومن شاء أعطى ومن شاء منع إن الدنيا دار غرور تضحك باكيا وتبكي ضاحكا وتخيف آمنا وتؤمن خائفا
وقال في خطبة من خطبه أيضا أيها الناس أين الوليد وأبو الوليد وجد الوليد أسمعهم الداعي وأسترد العواري واضمحل ما كان كائن لم يكن أذهب عنهم ثابت الحياة وفارقوا القصور واستبدلوا بلين الوطئ خشن التراب فهم رهناء فيه إلى يوم المآب فرحم الله عبدا مهد لنفسه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا
ولما ولى الخلافة أبو جعفر المنصور أراد أن يبني الكعبة على ما بناها ابن الزبير وشاور الناس في ذلك فقال له الإمام مالك بن أنس أنشدك الله أي بفتح الهمزة وضم الشين المعجمة أي أسألك بالله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره فتذهب هيبته من قلوب الناس فصرفه عن رأيه فيه قال وذكر الطبري في مناسكه أن الذي أراد ذلك ونهاه مالك هو الرشيد


أقول وكونه الرشيد هو الذي ذكره المقريزي واقتصر عليه ولأن المنصور مات محرما ببئر ميمونة لستة أيام خلون من ذي الحجة فلم يدخل مكة
وقد يقال يجوز أن يكون دخل المدينة قبل سيره إلى مكة واستشار الناس في المدينة فقال له الإمام مالك ما تقدم وأن الرشيد أيضا أراد ذلك واستشار الإمام مالكا فأشار عليه بما ذكر ثم رأيت في تاريخ ابن كثير في زمن المهدى بن المنصور استشار الإمام مالكا في ردها أي الكعبة على الصفة التي بناها ابن الزبير فقال له إني أخشى أن تتخذها الملوك لعبة
ورأيت في كلام بعضهم أن المنصور حج وأنه لما قضى الحج والزيارة توجه إلى زيارة بيت المقدس ولعل هذا كان في حجة غير هذه التي مات فيها
ثم رأيت في تاريخ ابن كثير أن المنصور حج وهو خليفة أربع حجات غير الحجة التي مات فيها وكذا في القرى لقاصد أم القرى للطبري وذكر أنه مات في الحجة الخامسة قبل يوم التروية بيومين وأنه أحرم في بعض حججه من بغداد
وقد ذكر الشيخ الصفوي أن المنصور بلغه أن سفيان الثوري ينقم عليه في عدم إقامة الحق فلما توجه المنصور إلى الحج وبلغه أن سفيان بمكة أرسل جماعة أمامه وقال لهم حيثما وجدتم سفيان خذوه واصلبوه فنصبوا الخشب ليصلبوا سفيان عليه وكان سفيان بالمسجد الحرام رأسه في حجر الفضيل بن عياض ورجلاه في حجر سفيان ابن عيينة فقيل له خوفا عليه بالله لا تشمت بنا الأعداء قم فاختف فقام ومشى حتى وقف بالملتزم وقال ورب هذه الكعبة لا يدخلها يعنى مكة المنصور وكان وصل إلى الحجون فزلقت به راحلته فوقع عن ظهرها ومات من فوره فخرج سفيان وصلى عليه هذا كلامه
وقد يقال لا مخالفة بين هذا وبين ما تقدم أنه مات ببئر ميمونة لأنه يجوز أن يكون المراد بوصوله إلى الحجون وصول خيله وركبه فليتأمل
ثم رأيت في تاريخ ابن كثير أن المنصور لما خرج للحج وجاوز الكوفة بمراحل أخذه وضعه الذي مات فيه وأفرط به الإسهال ودخل مكة فنزل بها وتوفى ولعل هذا

لا يخالف ما سبق لأنه يجوز أنه أطلق مكة على المحل القريب منها وأنه من إنطلاق بطنه زلقت به فرسه
قيل وآخر ما تكلم به المنصور اللهم بارك لي في لقائك ومما يؤثر عنه أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه والله أعلم
وتقدم أن قصيا لما أمر قريشا أن تبنى حول الكعبة بيوتها فبنيت بيوتها من جهاتها الأربع وتركوا قد المطاف واستمر الأمر على ذلك زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر رضي الله تعالى عنه فلما ولى عمر رضي الله تعالى عنه رأى أن يوسع حول الكعبة فاشترى دورا وهدمها ووسع حول الكعبة وبنى جدارا قصيرا على ذلك وجعل فيه أبوابا ثم وسعه عثمان ثم عبدالله بن الزبير
ثم إن عبدالملك بن مروان رفع الجدارن وسقفه بالساج ثم إن الوليد بن عبدالملك نقص ذلك ونقل إليه الأساطين الرخام وسقفه بالساج المزخرف وأزر المسجد بالرخام ثم زاد فيه المنصور ورخم الحجر ثم زاد فيه المهدي أولا وثانيا حتى صارت الكعبة في وسط المسجد
وفي أيام المعتضد أدخلت داره الندوة في المسجد وتسمى مكة فاران وتسمى قرية النمل لكثرة نملها أو لأن الله سلط فيها النمل على العماليق لما أظهروا فيها الظلم حتى أخرجهم من الحرم كما تقدم ولها أسماء كثيرة قد أفردها صاحب القاموس بمؤلف
أقول وسيأتي عن الإمام النووي أنه قال ليس في البلاد أكثر أسماء من مكة والمدينة والله أعلم
قال وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه خلقت الكعبة أي موضعها قبل الأرض بألفي سنة كانت حشفة على الماء عليها ملكان يسبحان فلما أراد الله تعالى أن يخلق الأرض دحاها منها فجعلها في وسط الأرض انتهى
وسئل الجلال السيوطي رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } هل كانت أيام ثم موجودة قبل خلق السموات والأرض


فأجاب بأن خلق السموات والأرض وخلق الأيام كان دفعة واحدة من غير تقديم لأحدهما على الآخر واستند في ذلك لمأثور التفسير
وفي الحديث إن الله حرم مكة قبل أن يخلق السموات والأرض الحديث وحينئذ فقوله صلى الله عليه وسلم إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حرم مكة معناه أظهر حرمتها & باب ما جاء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحبار اليهود وعن الرهبان من النصارى وعن الكهان من العرب على ألسنة الجان وعلى غير ألسنتم وما سمع من الهواتف ومن بعض الوحوش ومن بعض الأشجار وطرد الشياطين من استراق السمع عند مبعثه بكثرة تساقط النجوم وما وجد من ذكره صلى الله عليه وسلم وذكر صفته في الكتب القديمة وما وجد فيه إسمه مكتوبا من النبات والأحجار وغيرهما
قال ابن إسحاق وكانت الأحبار من يهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب زمانه أما الأحبار من يهود ورهبان من النصارى فلما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه وأما الكهان من العرب فجاءهم به الشياطين فيما تسترق به من السمع إذ كانت لا تحجب عن ذلك كما حجبت عند الولادة والمبعث وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره ولا تلقى العرب لذلك بالا حتى بعثه الله تعالى ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرونها فعرفوها وهذا فيه تصريح بأن الملائكة كانت تذكره صلى الله عليه وسلم في السماء قبل وجوده
فأما أخبار الأحبار من اليهود فمنها ما تقدم ذكره ومنها ماجاء عن سلمة بن سلامة وكان من أصحاب بدر قال كان لنا جارا من يهود بني عبدالأشهل فذكر أي عند

قوم أصحاب الأوثان القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار فقالوا له ويحك يا فلان أو ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم قال نعم والذي يحلف به وليود أي الشخص أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه بأن ينجو من تلك النار غدا فقالوا له ويحك وما آية ذلك قال نبي يبعث من نحو هذه البلاد وأشار بيده إلى مكة واليمن قالوا ومن يراه فنظر إلى وأنا من أحدثهم سنا فقال إن يستنفد أي يستكمل هذا الغلام عمره يدركه قال سلمة والله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو أي ذلك اليهودي بين أظهرنا فآمنا به وكفر بغيا وحسدا فقلنا له ويحك يا فلان ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت قال بلى ولكن ليس به
ومن ذلك ما جاء عن عمرو بن عنبسة السلمي رضي الله تعالى عنه قال رغبت عن آلهة قومى في الجاهلية أي ترك عبادتها قال فلقيت رجلا من أهل الكتاب من أهل تيماء أي وهي قرية بين المدينة والشام فقلت إني امرؤ ممن يعبد الحجارة فينزل الحي ليس معهم إله فيخرج الرجل منهم فيأتي بأربعة أحجار فيعين ثلاثة لقذره أي يستنجى بها ويجعل أحسنها إلها يعبده ثم لعله يجد ما هو أحسن منه شكلا قبل أن يرتحل فيتركه ويأخذ غيره وإذا نزل منزلا سواه ورأى ما هو أحسن منه تركه وأخذ ذلك الأحسن فرأيت أنه إله باطل لا ينفع ولا يضر فدلني على خير من هذا قال يخرج من مكة رجل يرغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها فإذا رأيت ذلك فاتبعه فإنه يأتي بأفضل الدين فلم يكن لي همة منذ قال لي ذلك إلا مكة آتى فأسأل هل حدث حدث فيقال لا ثم قدمت مرة فسألت فقيل لي حدث رجل يرغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها فشددت راحلتي ثم قدمت منزلي الذي كنت أنزله بمكة فسألت عنه فوجدته مستخفيا ووجدت قريشا عليه أشداء فتلطفت له حتى دخلت عليه فسألته أي شيء أنت قال نبي قلت من نباك قال الله قلت وبم أرسلك قال بعبادة الله وحده لا شريك له وبحقن الدماء وبكسر الأوثان وصلة الرحم وأمان السبيل فقلت نعم ما أرسلت به قد آمنت بك وصدقتك أتأمرني أن أمكث معك أو أنصرف فقال ألا ترى كراهة الناس ما جئت به فلا تستطيع أن تمكث كن في أهلك فإذا

سمعت بي قد خرجت مخرجا فاتبعني فكنت في أهلي حتى خرج صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فسرت إليه فقدمت المدينة فقلت يا نبي الله أتعرفني قال نعم أنت السلمى الذي أتيتني بمكة
ومن ذلك ما حدث به عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه قالوا إنما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى لنا وهداه ما كنا نسمع من أحبار يهود كنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا قد تقارب زمان نبي يبعث الآن يقتلكم قتل عاد وإرم أي يستأصلكم بالقتل فكان كثيرا ما نسمع ذلك منهم فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله عز وجل وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا ففي ذلك نزلت هذه الآيات في البقرة { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين }
ومن ذلك ما حدث به شيخ من بني قريظة قال إن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له ابن الهيبان أي الجبان قدم إلينا قبل الإسلام بسنين فحل بين أظهرنا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلى الخمس أفضل منه أي لا أظن أحدا من غير المسلمين لأن المسلمين يصلون الخمس فلا أصلية لا زائدة فأقام عندنا فكنا إذا قحط المطر أي احتبس قلنا له اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا فيقول لا والله حتى تقدموا بين يدي نجواكم صدقة فنقول له كم فيقول صاعا من تمر ومدين من شعير فنخرجها ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقي لنا فوالله ما يبرح من محله حتى يمر السحاب ونسقى قد فعل ذلك غير مرة أي لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا بل أكثر من ذلك ثم حضرته الوفاة عندنا فلما عرف أنه ميت قال يا معشر يهود ما ترينه أخرجني من أهل الخمر بالتحريك وبإسكان الميم الشجر الملتف والخمير إلى أرض البؤس والجوع قلنا أنت أعلم قال فإنما قدمت هذه الأرض أتوكف أي أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه أي أقبل وقرب كأنه لقربه أظلهم أي ألقى عليهم ظله وهذه البلد مهاجره وكنت أرجو أن يبعث فاتبعه فقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وبسبى الذرارى والنساء ممن خالفه فلا يمنعكم ذلك منه فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم

وحاصر بين قريظة قال لهم نفر من هدل بفتح الهاء وفتح الدال المهملة وقيل بسكونها إخوة بني قريظة وهم ثعلبة بن سعية وأسد بن سعية ويقال أسيد بالتصغير وأسد بن عبيد وكانوا شبانا أحداثا يا بني قريظة والله إنه لهو بصفته فنزلوا وأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم كما سيأتي
قال ومن ذلك خبرالعباس بن عبدالمطلب رضي الله تعالى عنه قال خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب فيه أبو سفيان بن حرب فورد كتاب حنظلة بن أبي سفيان إن محمدا قائم في أبطح مكة يقول أنا رسول الله أدعوكم إلى الله ففشا ذلك في مجالس أهل اليمن فجاءنا حبر من اليهود فقال بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال قال العباس فقلت نعم قال نشدتك الله هل كان لإبن أخيك صبوة قلت لا والله ولا كذب ولا خان وما كان اسمه عند قريش إلا الأمين قال هل كتب بيده فاردت أن أقول نعم فخشيت من أبي سفيان أن يكذبني ويرد علي فقلت لا يكتب فوثب الحبر وترك رداءه وقال ذبحت يهود وقتلت يهود قال العباس فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان يا أبا الفضل إن يهود تفزع من ابن أخيك فقلت قد رأيت لعلك أن تؤمن به قال لا أومن به حتى أرى الخيل في كداء أي بالمد قلت ما تقول قال كلمة جاءت على فمي إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلا تطلع على كداء قال العباس فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ونظر أبو سفيان إلى الخيل قد طلعت من كداء فقلت يا أبا سفيان تذكر تلك الكلمة قال إي والله إني لأذكرها انتهى
أي ومن ذلك ما جاء عن أمية بن أبي الصلت الثقفي قال لأبي سفيان إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا فكنت أظن أني هو وكنت أتحدث بذلك ثم ظهر لي أنه من بني عبد مناف فنظرت فلم أجد فيهم من هو متصف بأخلاقه إلا عتبة بن ربيعة إلا أنه قد جاوز الأربعين ولم يوح إليه فعرفت أنه غيره قال أبو سفيان فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم قلت لأمية فقال أمية أما إنه حق فاتبعه فقلت له فأنت ما يمنعك قال الحياء من نساء ثقيف إني كنت أخبرهن أني هو ثم أصير تبعا لفتى من بني عبد مناف وسيأتي ذلك بأبسط مما هنا
وأما أخبار الرهبان من النصارى فمنها ما تقدم ذكره قال ومنها خبر طلحة بن عبدالله رضي الله تعالى عنه قال حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته

يقول سلوا أهل هذا الموسم هل فيكم أحد من أهل الحرم فقلت نعم أنا قال هل ظهر أحمد قلت ومن أحمد قال ابن عبدالله بن عبدالمطلب هذا شهره الذي يخرج فيه أي الذي يبعث فيه وهو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم ومهاجره إلى نخلة وحرة وسباخ فإياك أن تسبق إليه قال طلحة فوقع في قلبي ما قال الراهب فلما قدمت مكة حدثت أبا بكر بذلك فخرج أبو بكر حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فسر بذلك وأسلم طلحة فأخذ نوفل بن العدوية أبا بكر وطلحة رضي الله تعالى عنهما فشدهما في حبل واحد فلذلك سميا القرينين
أقول يحتمل أن هذا الراهب هو بحيرا ويحتمل أن يكون نسطورا لأن كلا منهما كان ببصرى كما تقدم في سفره ويحتمل أن يكون غيرهما وهو أولى لما تقدم أن كلا من بحيرا ونسطورا لم يدرك البعثة والله أعلم
أي ومنها ما حدث به سعيد بن العاص بن سعيد قال لما قتل أبي العاص يوم بدر كنت في حجر عمى أبان بن سعيد وكان يكثر السب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج تاجرا إلى الشام فمكث سنة ثم قدم فأول شيء سأل عنه أن قال ما فعل محمد قال له عمي عبدالله بن سعيد هو والله أعز ما كان وأعلاه فسكت ولم يسبه كما كان يسبه ثم صنع طعاما وأرسل إلى سراة بني أمية أي أشرافهم فقال لهم إني كنت بقرية فرأيت بها راهبا يقال له بكاء لم ينزل إلى الأرض منذ أربعين سنة أي من صومعته فنزل يوما فاجتمعوا ينظرون إليه فجئت فقلت إن لي حاجة فقال ممن الرجل فقلت إني من قريش وإن رجلا هناك خرج يزعم أن الله أرسله قال ما إسمه فقلت محمد قال منذ كم خرج فقلت عشرين سنة قال ألا أصفه لك قلت بلى فوصفه فما أخطأ في صفته شيئا ثم قال لي هو والله نبي هذه الأمة والله ليظهرن ثم دخل صومعته وقال لي اقرأ عليه السلام وكان ذلك في زمن الحديبية أي والحديبية سيأتي أنها كانت سنة ست فالعشرين تقريب
أي ومنها ما حدث به حكيم بن حزام بالزاي رضي الله تعالى عنه قال دخلنا الشام لتجارة قبل أن أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأرسل إلينا ملك الروم فجئناه فقال من أي العرب أنتم من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال حكيم فقلت يجمعني وإياه الأب الخامس فقال هل أنتم صادقي فيما أسألكم عنه

فقلنا نعم فقال أنتم ممن اتبعه أم ممن رد عليه فقلنا ممن رد عليه وعاداه فسألنا عن أشياء مما جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه ثم نهض واستنهضنا معه فأتى محلا في قصره وأمر بفتحه وجاء إلى ستر فأمر بكشفه فإذا صورة رجل فقال أتعرفون من هذه صورته قلنا لا قال هذه صورة آدم ثم تتبع أبوابها ففتحها ويكشف عن صور الأنبياء ويقول أما هذا صاحبكم فنقول لا فيقول لنا هذه صورة فلان حتى فتح بابا وكشف عن صورة فقال أتعرفون هذا قلنا نعم هذا صورة محمد بن عبدالله صاحبنا قال أتدرون متى صورت هذه الصور قلنا لا قال منذ أكثر من ألف سنة وإن صاحبكم لنبي مرسل فاتبعوه ولوددت أني عبده فأشرب ما يغسل من قدميه
ووقع نظير ذلك لجبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه وأنه رأى صورة أبي بكر آخذة بعقب تلك الصورة وإذا صورة عمر آخذة بعقب صورة أبي بكر فقال من ذا الذي آخذ بعقبه قلنا نعم هو ابن أبي قحافة قال فهل تعرف الذي آخذ بعقبه قلت نعم هو عمر بن الخطاب قال أشهد أن هذا رسول الله وأن هذا هو الخليفة بعده وأن هذا هو الخليفة من بعد هذا
ومنها ما حدث به سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية يقال لها جي بفتح الجيم وتشديد الياء أي وفي لفظ من قرية من قرى الأهواز يقال لها رامهرمز وفي لفظ ولدت برامهرمز وبها نشأت وأما ابي فمن أصبهان وكان أبي دهقان قريته أي كبير أهل قريته أي وفي لفظ كنت من أبناء أساورة فارس وكنت أحب خلق الله تعالى إلى أبي لم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار بفتح القاف وكسر الطاء المهملة ويروى بفتحها بمعنى قاطن أي خادمها الذي يوقدها لا يتركها تخبا أي تطفأ ساعة وكانت لأبي ضيعة عظيمة فشغل في بنيان له يوما فقال لي يا بني إني قد شغلت في بنيان هذا اليوم فاذهب إليها وأمرني فيها ببعض ما يريد ثم قال لي ولا تحتبس عني إن احتبست عني كنت أهم إلي من ضيعتي وشغلتني عن كل شيء من أمري فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته فلما

سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ماذا يصنعون فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت والله هذا خير من الذي نحن عليه فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها ثم قلت لهم أين أهل هذا الدين قالوا بالشام فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله فلما جئته قال أي بني أين كنت ألم أكن عهدت إليك ما عهدت قلت يا أبت مررت بالناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس قال أي بني ليس في ذلك الدين خير دينك ودين آبائك خير منه فقلت له كلا والله إنه لخير من ديننا قال فخافني أي خاف مني أن أهرب فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته وبعثت إلى النصارى فقلت لهم إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبرونى فقلت لهم إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة فأخبروني بهم فأخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي ثم ق قدمت معهم إلى الشام فلما قدمتها قلت من أجل هذا الدين علما قالوا الأسقف في الكنيسة والأسقف بتخفيف الفاء وتشديدها هو عالم النصارى ورئيسهم في الدين فجئته فقلت له إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك فأخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك قال ادخل فدخلت معه فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها فإذا جمعوا إليه أشياء منها اكتنزها لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع ثم مات فاجتمعت النصارى ليدفنوه فقلت لهم إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا فقالوا لي وما أعلمك بذلك فقلت أنا أدلكم على كنزه فأريتهم موضعه فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا وفي رواية وجدوا ثلاثة قماقم فيها نحو نصف أردب فضة فلما رأوها قالوا والله لا ندفنه أبدا فصلبوه ورموه بالحجارة أي ولم يصلوا عليه صلاتهم مع أن هذا الراهب كان يصوم الدهر وكان تقيا عن الشهوات ومن ثم قال في الفتوحات المكية أجمع أهل كل ملة على أن الزهد في الدنيا مطلوب وقالوا إن الفراغ من الدنيا أحب لكل عاقل خوفا على نفسه من الفتنة التي حذرنا الله تعالى منها بقوله { أنما أموالكم وأولادكم فتنة } هذا كلامه


قال الشيخ عبدالوهاب الشعراني رضي الله تعالى عنه ومن فوائد الرهبان أنهم لا يدخرون قوت الغد ولا يكنزون فضة ولا ذهبا
قال ورأيت شخصا قال لراهب انظر لي هذا الدينار هو من ضرب أي الملوك فلم يرض وقال النظر إلى الدنيا منهى عنه عندنا
قال ورأيت الرهبان مرة وهم يسحبون شخصا ويخرجونه من الكنيسة ويقولون له أتلفت علينا الرهبان فسألت عن ذلك فقالوا رأوا على عاتقه نصفا مربوطا فقلت لهم ربط الدرهم مذموم فقالوا نعم عندنا وعند نبيكم صلى الله عليه وسلم هذا كلامه
وعند ذلك جاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه فما رأيت رجلا لا يصلى الخمس أرى أنه أفضل منه أي لا أظن أحدا غير المسلمين أفضل منه ولا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ونهارا منه فأحببته حبا شديدا لم أحبه شيئا قبله فأقمت معه زمانا حتى حضرته الوفاة فقله له يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا من قبلك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصني قال أي بني والله ما أعلم أحدا على ما كنت عليه لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه فلما مات وغيب أي دفن لحقت بصاحب الموصل فأخبرته خبرى وما أمرني به صاحبي فقال أقم عندي فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبه فأقمت مع خير رجل فلما احتضر قلت له يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصى بي وبم تأمرني قال يا بني والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنت عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي فقال أقم عندي فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه فأقمت مع خير رجل فوالله ما لبث أن نزل به الموت فلما احتضر أي حضرته الملائكة لقبض روحه قلت له يا فلان إن فلانا أوصى بي إلى فلان ثم إن فلانا أوصى بي إليك فإلى من توصى بي وإلى من تأمرني قال يا بني والله ما أعلم بقى أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم فإنه على مثل ما نحن عليه فإن أحببت فأته فلما مات وغيب أي دفن لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري فقال أقم عندي

فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم فاكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة ثم نزل به أمر الله تعالى فلما احتضر قلت له يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصى بي وبم تأمرني قال أي بني والله ما أعلم أصبح ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظل أي أقبل قرب زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ثم مات وغيب
أقول وهذا السياق يدل على أن الذين اجتمع بهم من النصارى على دين عيسى أربعة وفي كلام السهيلي أنهم ثلاثون وفي النور أنهم بضعة عشر وأن هذا أظهر والله أعلم
قال سلمان ثم مر بي نفر من كلب تجار فقلت لهم احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنمي هذه فقالوا نعم فأعطيتهموها أي أعطيتهم إياها وحملوني معهم حتى إذا بلغوا بي وادي القرى وهو محل من أعمال المدينة المنورة ظلموني فباعوني من رجل يهودي فمكثت عنده فرأيت النخل فرجوت أن تكون البلدة التي وصف لي صاحبي ولم يحق عندي أي لم أتحقق ذلك فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة فابتاعني منه فحملني إلى المدينة فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها أي تحققتها بصفة صاحبي فأقمت بها
وبعث رسول الله صلى اله عليه وسلم وأقام بمكة ما أقام لا اسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق أي نخل لسيدي أعمل له فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال يا فلان قاتل الله بني قيلة أي وهما الأوس والخزرج لأن قيلة أمهما فقد جاء إن الله أمدنى بأشد العرب ألسنا وأدرعا بابنى قيلة الأوس والخزرج والله إنهم الآن لمجتمعون بقبا بالمد والقصر وربما قيل قباة بتاء التأنيث والقصر على رجل قدم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي فلما سمعتها أخذتني العرواء وهي الحمى النافض أي الرعدة والبرحاء الحمى الصالب حتى ظننت أني ساقط على سيدي فنزلت عن

النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك ما تقول فغضب سيدي ولكمني لكمة شديدة ثم قال مالك ولهذا أقبل على عملك فقلت لا شيء إنما أردت أن أثبته فيما قال وقد كان عندي شيء جمعته أي وهو محتمل لأن يكون تمرا ولأن يكون رطبا فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فدخلت عليه فقلت له إني قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم فقر بته إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه كلوا وأمسك يده فلم يأكل فقلت في نفسي هذه واحدة أي ومن ثم لما أخذ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما وهو طفل تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فمه قال له النبي صلى الله عليه وسلم كخ كخ أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة رواه مسلم
وروى أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي ثم أرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها ووجد صلى الله عليه وسلم تمرة فقال لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها وقال إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس وفي رواية إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد والراجح من مذهبنا حرمة الصدقتين عليه صلى الله عليه وسلم وحرمة صدقة الفرض دون النفل على آله وقال الثوري لا تحل الصدقة لآل محمد لا فرضها ولا نفلها ولا لمواليهم لأن مولى القوم منهم بذلك جاء الحديث
قال سلمان ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا هو أيضا يحتمل أن يكون تمرا ولأن يكون رطبا
وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئته فقلت إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذا هدية أكرمتك بها فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه فقلت في نفسي هاتان ثنتان أي ومن ثم روى مسلم كان إذا أتى بطعام سأل عنه فإن قيل هدية أكل منها وإن قيل صدقة لم يأكل منها
قال سلمان ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد وقد تبع

جنازة رجل من أصحابه أي وهو كلثوم بن الهدم الذي نزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء لما قدم المدينة
وقيل هو أول من دفن به وقيل أول من دفن به أسعد بن زرارة وقيل أول من دفن به عثمان بن مظعون
وجمع بأن أول من دفن به من المهاجرين عثمان أي وقد مات في ذي الحجة من السنة الثانية من الهجرة وأول من دفن به من الأنصار كلثوم أو أسعد أي وفي الوفيات لابن زبر مات كلثوم ثم من بعده أبو أمامة أسعد بن زرارة في شوال من السنة الأولى من الهجرة ودفن بالبقيع هذا كلامه ولم يذكر الوقت الذي مات فيه كلثوم
وفي النور عن الطبري أنه مات بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة بأيام قليلة وأول من مات من الأنصار البراء بن معرور مات قبل قدومه المدينة مهاجرا بشهر ولما حضره الموت أوصى بأن يدفن ويستقبل به الكعبة ففعلوا به ذلك ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى على قبره هو وأصحابه وكبر أربعا ولم أقف على محل دفنه
وقولهم إن أول من دفن بالبقيع كلثوم يدل على أن البراء لم يدفن بالبقيع إلا أن يراد الأولية بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة والظاهر أن هذه أول صلاة صليت على القبر
قال سلمان وكان عليه الصلاة والسلام عليه شملتان وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم ابتدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي فألقى الرداء عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله وأبكي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول فتحولت بين يديه فقصصت عليه حديثي قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه أي وفي شواهد النبوة لما جاء سلمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم النبي صلى الله عليه وسلم كلامه فطلب ترجمانا فأتى بتاجر من يهود كان يعرف الفارسية والعربية فمدح سلمان النبي صلى الله عليه وسلم وذم اليهود بالفارسية فغضب اليهودي وحرف الترجمة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم إن سلمان يشتمك فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفارسي جاء ليؤدينا فنزل جبريل وترجم عن كلام سلمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أي الذي ترجمه له جبريل لليهودي فقال اليهودي يا محمد

إن كنت تعرف الفارسية فما حاجتك إلي فقال صلى الله عليه وسلم ما كنت أعلمها من قبل والآن عملني جبريل أو كما قال فقال اليهودي يا محمد قد كنت قبل هذا أتهمك والآن تحقق عندي أنك رسول الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل علم سلمان العربية فقال قل له ليغمض عينيه ويفتح فاه ففعل سلمان فتفل جبريل في فيه فشرع سلمان يتكلم بالعربي الفصيح وهذا السياق يدل على أن ذلك كان عند مجيئه في المرة الثالثة وحينئذ يشكل مجيئه أولا وثانيا وقوله ما تقدم بالعربية إلا أن يقال ذاك لقلته سهل عليه أن يعبر عنه بالعربية يخلاف حكاية حاله لكثرته لم يحسن أن يعبر عنه بالعربية
قال وقد اختلفت الروايات عن سلمان في الشيء الذي جاء به للنبي صلى الله عليه وسلم أولا وثانيا فالرواية الأولى المتقدمة ظاهرها يقتضى أنه تمر أي وفيه من أين أن ظاهرها ذلك بل هي محتملة وقد جاء التصريح بكونه تمرا في الأولى والثانية ففي بعض الروايات فسألت سيدي أن يهب لي يوما ففعل فعملت في ذلك اليوم على صاع أو صاعين من تمر وجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأيته لا يأكل الصدقة سألت سيدي أن يهب لي يوما آخر فعملت فيه على ذلك أي على صاع أو صاعين من تمر ثم جئت به النبي صلى الله عليه وسلم فقبله وأكل منه
أي والذي في كلام السهيلي قال سلمان كنت عبدا لإمرأة فسألت سيدتي أن تهب لي يوما الحديث
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون عني بسيدته زوجة سيده لأنه يقال لها سيدة في المتعارف بين الناس أو أن المرأة هي التي اشترته ويؤيده ما يأتي وزوج تلك المرأة يقال له في المتعارف بين الناس سيد قال وقيل إن الذي جاء به أولا وثانيا رطب
وفي رواية احتطبت حطبا فبعته واشتريت بذلك طعاما والطعام خبز ولحم وفي رواية جئت بمائدة عليها بط وفي رواية عليها رطب وجمع بأنه أولا قدم الخبز واللحم الذي هو البط والتمر ثم قدم الرطب فلم يتحد المقدم وفي مسند الإمام أحمد أن المرات ثلاث وأن المقدم فيها متحد


أقول تقديم الرطب في المرة الثانية يخالفه ما تقدم أنه في المرة الثانية كان تمرا والله أعلم
ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد فكان أول مشاهده الخندق كما سيأتي وكان بعد ذلك يقال له سلمان الخير وكان معدودا من أخصائه صلى الله عليه وسلم قال سلمان ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب يا سلمان فكاتبت صاحبي على ثلثمائة نخلة أي ودية على وزن فعيلة وهي النخلة الصغيرة التي يقال لها الفسيلة أحييها له بالتفقير بالفاء ثم القاف أي الحفر أي ومن ثم قيل للبئر الفقير أي احفر لها واغرسها بتلك الحفرة وتصير حية بتلك الحفرة أي وأتعهدها إلى أن تثمر والودية والفسيلة هي النخلة الصغيرة التي جرت العادة بأن تنقل من المحل الذي تنبت فيه إلى محل آخر لكن في كلام بعضهم إذا خرجت النخلة من النواة قيل لها غريسة ثم يقال لها ودية ثم فسيلة ثم إشاءة فإذا فاتت اليد فهي جبارة ويقال للنخلة الطويلة عوانة بلغة عمان
وفي الحديث إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم فليغرسها وعلى أربعين أوقية أي من ذهب كما سيأتي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينوا أخاكم فأعانوني بالنخل الرجل بستين والرجل بعشرين ودية والرجل بخمسة عشر والرجل يعين بقدر ما عنده حتى اجتمعت لي ثلثمائة ودية قال وفي رواية أنه كوتب على أن يغرس لهم خمسائة فسيلة أي يحفر لها ويغرسها أي ويتعهدها إلى أن تثمر وعلى أربعين أوقية
قال سلمان فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب يا سلمان ففقر أي بالفاء وفي رواية فنقر أي بالنون أي احفر لها فإذا فرغت فائتني أنا أضعها بيدي ففقرت وفي رواية فنقرتها وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت جئته صلى الله عليه وسلم فأخبرته فخرج معي إليها فجعلنا نقرب إليه الودى فيضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ما مات منها ودية واحدة فأديت النخل وبقى على المال فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة أي وفي رواية مثل بيضة الحمامة من ذهب من بعض المعادن ولعل هذه البيضة كانت مترددة بين بيضة الدجاجة وبين بيضة الحمامة أي أكبر من بيضة الحمامة وأصغر من بيضة الدجاجة فاختلف فيها التشبيه فقال صلى الله عليه وسلم

ما فعل الفارسي المكاتب فدعيت له فقال خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان أي تكون بعضا مما عليك
وحينئذ قد يتوقف في جواب سلمان بقوله قلت وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي لأن النبي يؤدي بعضه وإن قل ذلك البعض إلا أن يقال العادة قاضية بأن ذلك البعض لا يقبل إلا إذا كان له وقع بالنسبة لكله
وقد أشار صلى الله عليه وسلم للرد على سلمان بأن هذا الذي قلت فيه إنه لا يحسن أن يكون بعضا مما عليك يوفى به الله عنك جميع ما عليك حيث قال خذها فإن الله سيؤدي بها عنك فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم أي وبقى عندي مثل ما أعطيتهم قال وهذا أي سؤال سلمان وجوابه صلى الله عليه وسلم كالصريح في أن الأواقي التي كاتب عليها كانت ذهبا لا فضة
وقد جاء أي مما يدل على ذلك في بعض الروايات أن سلمان لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم وأين تقع هذه مما علي فقلبها صلى الله عليه وسلم على لسانه ثم قال خذها فأوفهم منها
وأيضا أي مما يدل على ذلك أيضا أن المعلوم أن قدر بيضة الدجاجة من الذهب يعدل أكثر من أربعين أوقية من الفضة أي فلا يحسن قول سلمان وأين تقع هذه مما علي وقد صرح بذلك أي بكونها ذهبا البلاذري والقاضي عياض في الشفاء فقالا على أربعين أوقية من ذهب وإلى القصة أشار صاحب الهمزية بقوله ** ووفى قدر بيضة من نضار ** دين سلمان حين حان الوفاء ** ** كان يدعى قنا فأعتق لما ** أينعت من نخيله الأقناء ** ** أفلا تعذرون سلمان لما ** أن عرته من ذكره العرواء **
أي ووفى قدر بيضة من بيض الدجاج أو الحمام من ذهب دين سلمان وهو أربعون أوقية من ذهب حين قرب حلول الدين وتقدم أنه وفي دينه منها وبقى عنده منها قدر ما أعطاهم
وسبب هذا الدين على سلمان أنه كان يدعى قنا أي أرق بالباطل كما تقدم فكوتب على ذلك وعلى أن يغرس تلك النخيل ويتعهدها إلى أن تثمر وأعتق بأداء هذا الدين حين أينعت العراجين من نخيله التي غرسها أي غرست له أفلا ترون لسلمان عذرا

يمنعكم من إيذائه حين أن غشيته قوة الحمى من أجل سماع ذكره صلى الله عليه وسلم قال سلمان وشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ثم لم يفتني معه مشهد
وعن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى سلمان أبي كان سببا لشرائه أن مكاتبته من قوم اليهود بكذا وكذا درهما وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل يعمل فيها سلمان حتى تدرك فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل كله إلا نخلة غرسها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فاطعم النخل كله إلا تلك النخلة التي غرسها عمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرسها قالوا عمر فقلعها وغرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فأطعمت من عامها
وذكر البخاري أن سلمان رضي الله تعالى عنه غرس بيده ودية واحدة وغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرها فعاشت كلها إلا التي غرسها سلمان قال ويجوز أن يكون كل من سلمان وعمر غرس هذه النخلة أحدهما قبل الآخر انتهى
أقول وهذا الحائط الذي غرس فيه سلمان من حوائط بني النضير وكان يقال له المنبت وقد آل إليه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي
ولا يخفى أن قول صاحب الهمزية كان يدعى قنا أنه لم يرق حقيقة وقد تقدم ذلك وفيه أنه لو لم يرق حقيقة لما أقره على الرق وأمره صلى الله عليه وسلم بالمكاتبة وأدى عنه وكونه فعل ذلك تطييبا لخاطر ساداته بعيد فليتأمل
فإن قيل إذا رق حقيقة كيف جاز له صلى الله عليه وسلم أن يأمر أصحابه أن يأكلوا مما جاء به صدقة ويأكل هو وهم مما جاء به هدية والرقيق لا يملك وإن ملكه سيده على الأصح عندنا معاشر الشافعية بل وعند باقي الأئمة
قلنا يجوز أن يكون الرقيق كان في صدر الإسلام يملك ما ملكه له سيده ثم نسخ ذلك على أن بعض أصحابنا ذهب إلى صحته وفي كلام السهيلي وذكر أو عبيد أن حديث سلمان حجة على من قال إن العبد لا يملك هذا كلامه وأنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم رقه حينئذ لأن الأصل في الناس الحرية ولعدم تحقق رق سلمان وعدم مجئ مكاتبته على قواعد أئمتنا لم يستدلوا على مشروعية الكتابة بقصة سلمان
وفي كلام السهيلي أن في خبر سلمان من الفقه قبول الهدية وترك سؤال المهدي

وكذلك الصدقة وفي الحديث من قدم إليه الطعام فليأكل ولا يسأل والله أعلم
وعن سلمان رضي الله تعالى عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره بالقصة المتقدمة زاد أن صاحب عمورية قال له أئت كذا وكذا من أرض الشام فإن بها رجلا بين غيضتين يخرج كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزا يعترضه ذوو الأسقام فلا يدعو لأحد منهم إلا شفى فاسأله عن هذا الدين فهو يخبرك به
قال سلمان فخرجت حتى جئت حيث وصفه لي فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفى وغلبوني عليه فلم أخلص حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخلها إلا منكبه فتناولته فقال من هذا والتفت إلى فقلت يرحمك الله أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم فقال إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم قد أظلك نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فإنه يحملك عليه ثم دخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن كنت صدقتني لقد لقيت عيسى بن مريم والغيضة الشجر الملتف
قال السهيلى هذا الحديث مقطوع وفيه رجل مجهول ويقال إن الرجل هو الحسن بن عمارة وهو ضعيف بإجماع منهم وإن صح هذا الحديث فلا نكارة في متنه
فقد ذكر الطبري أن المسيح عليه الصلاة والسلام نزل بعد ما رفع وأمه وأمرأة أخرى أي كانت مجنونة فأبرأها المسيح عند الجذع الذي فيه الصليب يبكيان فأهبط إليهما فكلمهما وقال لهما علام تبكيان فقالا عليك فقال إني لم أقتل ولم أصلب ولكن الله رفعني وكرمني وأخبرهما أن الله أوقع شبهه على الذي صلب وأرسل إلى الحواريين أي قال لأمه ولتك المرأة أبلغا الحواريين أمري أن يلقوني في موضع كذا ليلا فجاء الحواريون ذلك الموضع فإذا الجبل قد اشتعل نورا لنزوله فيه ثم أمرهم أن يدعوا الناس إلى دينه وعبادة ربهم ووجههم إلى الأمم وإذا جاز أن ينزل مرة جاز أن ينزل مرارا لكن لانعلم أنه هو أي حقيقة حتى ينزل النزول الظاهر فيكسر الصليب ويقتل الخنزير كما جاء في الصحيح هذا كلامه
ويروى أنه إذا نزل تزوج امرأة من جذام قبيلة باليمن ويولد له ولدان يسمى أحدهما

محمدا والآخر موسى يمكث أربعين سنة وقيل خمسا وأربعين وقيل سبع سنين كما في مسلم وقيل ثمان سنين وقيل تسعا وقيل خمسا أي وجمع بين كون مدة مكثه أربعين سنة أو خمسا وأربعين سنة وبين كونها سبع سنين أي وما بعد ذلك بأن المراد بالأول مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده والسبعة أي وما بعدها من الأقوال يكون بعد نزوله ويدفن إذا مات في روضة النبي صلى الله عليه وسلم قال وقيل في حجرته صلى الله عليه وسلم أي عند قبره الشريف وقيل في بيت المقدس أنتهى أي وقيل يدفن معه صلى الله عليه وسلم في قبره ويؤيده ما ورد ويدفن معي في قبري فأقوم أنا وعيسى من قبر واحد بين أبي بكر وعمر
أقول وكما يقتل عيسى عليه الصلاة والسلام الخنزير يقتل الدجال فقد جاء ينزل عيسى حكما مقسطا يحكم بشرعنا يقتل الدجال ونزوله يكون عند صلاة الفجر فيصلى خلف المهدي بعد أن يقول له المهدي تقدم يا روح الله فيقول له تقدم فقد أقيمت لك وفي رواية ينزل بعد شروع المهدي في الصلاة فيرجع المهدي القهقري ليتقدم عيسى فيضع يده بين كتيفيه ويقول له تقدم فإذا فرغ من الصلاة أخذ حربته وخرج خلف الدجال فيقتله عند باب لد الشرقي وورد أن المهدي يخرج مع عيسى فيساعده على قتل الدجال وقد جاء أن المهدي من عترة النبي صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة قيل من ولد الحسين وقيل من ولد الحسن وقيل من ولد عمه العباس
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أمه أم الفضل مرت به صلى الله عليه وسلم فقال إنك حامل بغلام فإذا ولدتيه فائتيني به قالت فلما ولدته أتيته به فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى وألبأه أي أسقاه اللبأ من ريقه وسماه عبدالله وقال اذهبي بأبي الخلفاء فأخبرت العباس فأتاه فذكر له فقال هو ما أخبرتك هذا أبو الخلفاء حتى يكون منهم السفاح حتى يكون منهم المهدي أي الخليفة وهو أبو الرشيد بدليل قوله حتى يكون منهم من يصلى بعيسى ابن مريم أي وهو المهدي الذي يأتي آخر الزمان اسمه محمد بن عبدالله لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد وفي رواية إلا ليلة واحدة يطول الله ذلك حتى يبعث وظهوره يكون بعد أن يكسف القمر في أول ليلة من رمضان وتكسف الشمس في النصف منه مثل ذلك لم يوجد منذ خلق الله السموات والأرض عمره عشرون سنة وقيل أربعون سنة ووجهه كوكب درى على خده الأيمن خال أسود يخرج

في زمان الدجال وينزل في زمانه عيسى ابن مريم وأما ما ورد لا مهدي إلا عيسى بن مريم فلا ينافي ذلك لجواز أن يكون المراد لا مهدي كاملا معصوما إلا عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام
فقد جاء لن تهلك أمة أنا أولها وعيسى بن مريم آخرها والمهدي من أهل بيتي في وسطها وعن العباس رضي الله تعالى عنه قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أنظر هل ترى في السماء من شيء قلت نعم قال ما ترى قلت الثريا قال أما إنه سيملك هذه الأمة بعددها من صلبك أي وقد اختلف الناس في عددها المرئى فقيل سبعة أنجم وقيل تسعة
وجمعنا بينهما بأن الأول يكون هو المرئى لغالب الناس ولو غير حديد البصر والثاني لمن يكون حديد البصر منهم وأما المرئى له صلى الله عليه وسلم فقيل كان يرى أحد عشر نجما وقيل أثني عشر نجما
وجمعنا بينهما بحمل الأول على ما إذا لم يمعن النظر والثاني على ما إذا أمعن النظر وحينئذ يقتضى هذا أن تكون الخلفاء من بني العباس اثني عشر
وعن سعيد بن جبير سمعت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول يكون منا ثلاثة أهل البيت السفاح والمنصور والمهدي ورواه الضحاك عن ابن عباس مرفوعا والمهدي في هذه الرواية يحتمل أن المراد به أبو الرشيد ويحتمل أن يكون المنتظر
وروى أبو نعيم بسند ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم خرج فتلقاه العباس فقال ألا أسرك يا أبا الفضل قال بلى يا رسول الله قال إن الله فتح بي هذا الأمر وبذريتك يختمه وفي رواية ويختمه بولدك
وقد أفردت ترجمة المهدي المنتظر بالتأليف في مجلد حافل سماه مؤلفه الفواصل عن الفتن القواصم
وقد رويت قصة سلمان رضي الله تعالى عنه على غير هذا الوجه الذي تقدم فعنه قال كان لي أخ أكبر مني وكان يتقنع بثوبه ويضعد الجبل يفعل ذلك غير ما مرة متنكرا فقلت له أما إنك تفعل كذا وكذا فلم لا تذهب بي معك قال أنت غلام وأخاف أن يظهر منك شيء فقلت لا تخف قال إن في هذا الجبل قوما لهم عبادة وصلاح يذكرون الله ويذكرون الآخرة ويزعمون أنا على غير دين قلت فاذهب بي معك إليهم قال

حتى أستامرهم فاستأمرهم فقالوا جئ به فذهبت معه فانتهيت إليهم فإذا هم ستة أو سبعة وكأن الروح قد خرجت منهم من العبادة يصومون النهار ويقومون الليل يأكلون الشجر وما وجدوا فصعدنا إليهم فحمدوا الله تعالى وأثنوا عليه وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء حتى خلصوا إلى عيسى ابن مريم قالوا ولد بغير ذكر وبعثه الله رسولا وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموت وخلق الطير وإبراء الأعمى والأبرص فكفر به قوم وتبعه قوم ثم قالوا يا غلام إن لك ربا وإن لك معادا وإن بين ذلك جنة ونارا لهما تصير وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى الله بما يصنعون وليسوا على دين ثم انصرفنا ثم عدنا إليهم فقالوا مثل ذلك وأحسن فلزمتهم ثم اطلع عليهم الملك فأمرهم بالخروج من بلاده فقلت ما أنا بمفارقكم فخرجت معهم حتى قدمنا الموصل فلما دخلوا حفوا بهم ثم أتاهم رجل من كهف جبل فسلم وجلس فحفوا به فقال لهم أين كنتم فأخبروه فقال ما هذا الغلام معكم فأثنوا علي خيرا وأخبروه بإتباعي إياهم ولم أر مثل إعظامهم له فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر من أرسله الله من رسله وأنبيائه وما لقوا وما صنع بهم حتى ذكر عيسى بن مريم ثم وعظهم وقال اتقوا الله والزموا ما جاء به عيسى ولا تخالفوا يخالف بكم ثم أراد أن يقوم فقلت ما أنا بمفارقك فقال يا غلام إنك لا تستطيع ان تكون معي إني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد قلت ما أنا بمفارقك فتبعته حتى دخل الكهف فما رأيته نائما ولا طاعما إلا راكعا وساجدا إلى الأحد الآخر فلما أصبحنا خرجنا واجتمعوا إليه فتكلم نحو المرة الأولى ثم رجع إلى كهفه ورجعت معه فلبثت ما شاء الله أن يخرج في كل يوم أحد ويخرجون إليه ويعظهم ويوصيهم فخرج في أحد فقال مثل ما كان يقول ثم قال يا هؤلاء إني قد كبر سني ورق عظمي وقرب أجلي وإني لا عهد لي بهذا البيت يعني بيت المقدس منذ كذا وكذا سنة فلا بد لي من إتيانه فقلت ما أنا بمفارقك فخرج وخرجت معه حتى أتيت إلى بيت المقدس فدخل وجعل يصلى وكان فيما يقول لي يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج من جبال تهامة علامته أن يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب فأما أنا فشيخ كبير لا أحسبني أدركه فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه فقلت وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه قال وإن أمرك ثم خرج من بيت المقدس وعلى بابه مقعد فقال له ناولني

يدك فناوله يده فقال له قم باسم الله فقام كانما نشط من عقال فقال لي المقعد يا غلام احمل على ثيابي حتى أنطلق فحملت عليه ثيابه فذهب الراهب وذهبت في أثره أطلبه كلما سألت عنه قالوا أمامك حتى لقيني ركب من كلب فسألتهم فلما سمعوا لغتي أناخ رجل بعيره وحملني عليه فجعلني خلفه حتى أتوا بي بلادهم فباعوني فاشترتني إمرأة من الأنصار فجعلتني في حائط لها أي بستان وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرت به فأخذت شيئا من تمر حائط ثم أتيته فوجدت عنده أناسا فوضعته بين يديه فقال ماهذا قلت صدقة قال للقوم كلوا ولم يأكل هو ثم لبثت ما شاء الله ثم أخذت مثل ذلك ثم أتيته فوجدت عنده أناسا فوضعته بين يديه فقال ما هذا فقلت هدية قال بسم الله وأكل وأكل القوم فقلت في نفسي هذه من آياته ويحتاج للجمع بين هذه الرواية وما تقدم على تقدير صحتهما
وفي الدر المنثور أن امرأة من جهينة اشترته وصار يرعى غنما لها بينما هو يوما يرعى إذ أتاه صاحب له فقال له أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبي فقال له سلمان أقم في الغنم حتى آتيك فهبط سلمان إلى المدينة فاشترى بدينار ببعضه شاة فشواها وببعضه خبزا ثم أتاه به فقال ما هذا قال سلمان هذه صدقة قال لا حاجة لي بها فأخرجها فأكلها أصحابه ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزا ولحما فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا قال هذه هدية قال فاقعد فكل فقعد وأكلا جميعا منها فدرت خلفه ففطن بي فأرخى ثوبه فإذا الخاتم في ناحية كتفه الأيسر فتبينته ثم درت حتى جلست بين يديه فقلت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وهذه الرواية تخالف ما تقدم فليتأمل ولينظر كيف الجمع
ونقل بعضهم الإجماع على أن سلمان عاش مائتين وخمسين سنية وكان حبرا عالما فاضلا زاهدا متقشفا وكان يأخذ من بيت المال في كل سنة خمسة آلاف وكان يتصدق بها ولا يأكل إلا من عمل يده وكان له عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها
قال بعضهم دخلت عليه وهو أمير على المدائن وهو يعمل الخوص فقلت له لم تعمل هذا وأنت أمير وهو يجرى عليك رزق فقال إني أحب أن آكل من عمل يدي وربما اشتري اللحم وطبخه ودعا المجذومين فأكلوا معه


وأول مشاهدة الخندق كما تقدم قيل وشهد بدرا وأحدا قبل أن يعتق أي وهو مكاتب فيكون أول مشاهده الخندق بعد عتقه والله أعلم
وأما أخبار الكهان لا عن ألسنة الجان فكثيرة منها ما تقدم في ليلة ولادته صلى الله عليه وسلم وفي أيام رضاعه
قال ومنها أيضا خبر عمرو بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه قال والله لقد علمت أن محمدا رسول الله قبل أن يبعث فقيل له وكيف ذاك قال فزعنا إلى كاهن لنا في أمر نزل بنا فقال الكاهن أقسم بالسماء ذات الإبراج والأرض ذات الأدراج والريح ذات العجاج إن هذا لا مراج لعله من أجيج النار وهو التهابها ولقاح ذي نتاج قالوا وما نتاجه قال نتاجه ظهور نبي صادق بكتاب ناطق وحسام فالق قالوا وأين يظهر وإلى ماذا يدعو قال يظهر بصلاح ويدعو إلى فلاح ويعطل القداح وينهى عن الراح والسفاح وعن كل أمر قباح قالوا ممن هو قال من ولد الشيخ الأكرم حافر زمزم وعزه سرمد وخصمه مكمد انتهى
ومنها خبر قس بن ساعدة الإيادي وهو أول من قال البينة على المدعى واليمين على من أنكر وأول من اتكأ على عصا أو قوس أو سيف عند الخطبة
وقيل إن أول من تكلم بأن البينة على المدعى واليمين على من أنكر داود عليه الصلاة والسلام وأن ذلك فصل الخطاب
ورد بأنه لم يثبت عنه أنه تكلم بغير لغته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيكم يعرف القس بن ساعدة الإيادي قالوا كلنا يا رسول الله نعرفه قال فما فعل قالوا هلك قال ما أنساه بعكاظ على جمل أحمر وهو يقول أيها الناس اجمعوا واسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا مهاد موضوع وسقف مرفوع ونجوم تمور وبحار لا تغور أقسم قس قسما حاتما لأن كان في الأمر رضا ليكونن سخطا إن الله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون أرضوا بالمقام فقاموا أم تركوا هناك فناموا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيكم يروى شعره فأنشدوه عليه الصلاة والسلام

** في الذاهبين الأولين ** من القرون لنا بصائر ** ** لما رأيت مواردا ** للموت ليس لها مصادر ** ** ورأيت قومي نحوها ** تسعى الأصاغر والأكابر ** ** لا يرجع الماضي إلى ** ولا من الباقين غابر ** ** أيقنت أنى لا محا ** لة حيث صار القوم صائر **
وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قدم الجارود ابن عبدالله وكان سيدا في قومه وقيل له الجارود لأنه أغار على قوم من بني بكر بن وائل فجردهم أي أخذ جميع أموالهم وإلى ذلك الإشارة بقول الشاعر ** ودسناهم بالخيل من كل جانب ** كما جرد الجارود بكر بن وائل **
فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا جارود هل في جماعة وفد عبدالقيس من يعرف لنا قسا قالوا كلنا نعرفه يا رسول الله قال الجارود وأنا بين يدي القوم كنت أقفو أي أتبع أثره كان من أسباط العرب أي من ولد ولدهم شيخا عمر سبعمائة سنة أي وقيل ستمائة سنة أدرك من الحواريين سمعان فهو أول من تأله أي تعبد من العرب أي ترك عبادة الأصنام وأول من قال أما بعد أي وقيل أول من قال ذلك كعب بن لؤي كما تقدم وقيل سحبان بن وائل وقيل يعقوب وقيل يعرب بن قحطان وقيل داود وهو فصل الخطاب
ورد بأنه لم يثبت عنه أنه تكلم بغير لغته أي وبعد لفظة عربية وفصل الخطاب الذي أوتيه هو فصل الخصومة أي وهذا يؤيد ما تقدم عنه أنه أول من قال البينة على المدعى واليمين على من أنكر وتقدم ما فيه وجمع بأن الأولية بالنسبة لداود حقيقية ولغيره إضافية فلكعب بن لؤي بالنسبة للعرب ولغيره بالنسبة لقبيلته وقس أول من كتب من فلان إلى فلان قال الجارود كأني أنظر إليه يقسم بالرب الذي هو له ليبلغن الكتاب أجله وليوفين كل عامل عمله ثم أنشأ يقول ** هاج للقلب من جواه ادكار ** وليال خلالهن نهار ** ** وجبال شوامخ راسيات ** وبحار مياههن غزار ** ** ونجوم تلوح في ظلم الليل ** تراها في كل يوم يوم تدار ** ** والذي قد ذكرت دل على الله ** نفوسا لها هدى واعتبار **


فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلك يا جارود والرسل بكسر الراء التؤدة فلست أنساه بسوق عكاظ أي وهو سوق بين بطن نخلة والطائف كان سوقا لثقيف وقيس عيلان كما تقدم على جمل أورق أي يضرب لونه إلى السواء وهو يتكلم بكلام ما أظن أني أحفظه وفي لفظ تكلم بكلام له حلاوة لا أحفظه الآن فقال أبو بكر يا رسول الله فإني أحفظه كنت حاضرا ذلك اليوم بسوق عكاظ فقال في خطبته يا أيها الناس اسمعوا وعوا وإذا وعيتم فانتفعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت أت مطر ونبات وأرزاق وأقوات وآباء وأمهات وأحياء وأموات جمع وأشتات وآيات بعد آيات إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا ليل داج أي مظلم وسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا أقسم قس فسما حاتما لا حنثا فيه ولا آثما إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه ونبيا قد حان حينه وأظلكم زمانه فطوبى لمن آمن به فهداه وويل لمن خالفه فعصاه ثم قال تبا لأرباب الغفلة من الأمم الخالية والقرون الماضية يامعشر إياد هي قبيلة من اليمن أين الآباء والأجداد وأين المريض والعواد وأين الفراعنه الشداد أين من بنى وشيد وزخرف ونجد أي من زين وطول وغره المال والولد أين من بغى وطغى وجمع فأوعى وقال أنا ربكم الأعلى ألم يكونوا أكثر منكم أموالا وأطول منكم آجالا وأبعد منكم آمالا طحنهم التراب بكلكله أي بصدره ومزقهم بتطاوله فتلك عظامهم بالية وبيوتهم خاوية عمرتها الذئاب العاوية كلا بل هو الله الواحد المعبود ليس بوالد ولا مولود ثم أنشأ يقول الأبيات المتقدمة
أي وفي رواية لما قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه وسلم قال يا معشر وفد إياد ما فعل قس بن ساعدة الإيادي قالوا هلك يا رسول الله قال لقد شهدته يوما بسوق عكاظ على جمل أحمر يتكلم بكلام معجب موفق لا أجدني أحفظه الآن فقام امرؤ أعرابي من أقاصي القوم فقال أنا أحفظه يا رسول الله فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كان يقول يا معشر الناس اجتمعوا فكل من مات فات وكل شيء آت آت ليل داج وسماء ذات أبراج وبحر عجاج نجوم تزهر وجبال مرسية وأنهار مجرية الحديث


وفي رواية أين الصعب ذو القرنين ملك الخافقين وأذل الثقلين وعمر ألفين ثم كان ذلك كلمحة عين
قال وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قس بن ساعدة كان يخطب قومه بسوق عكاظ فقال سيأتيكم حق من هذا الوجه وأشار بيده إلى نحو مكة قالوا له وما هذا الحق قال رجل أبلج أحور من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص وعيش ونعيم لا ينفدان فإذا دعاكم فأجيبوه ولو علمت أني أعيش إلى ة مبعثه لكنت أول من يسعى إليه وقد رويت هذه القصة من طرق متعددة
قال الحافظ ابن كثير هذه الطرق على ضعفها كالمتعاضدة على إثبات أصل القصة وقال الحافظ ابن حجر طرق هذا الحديث كلها ضعيفة وهو يرد قول ابن الجوزي في موضوعاته حديث قس بن ساعدة من جميع جهاته باطل
أقول ذكر في النور أن في قصة قس ما يرشد إلى التعدد مرتين مرة حفظ صلى الله عليه وسلم كلامه وكان قس على جمل أحمر والثانية التى لم يحفظ فيها كلامه كان قس على جمل أورق قال لكن لا أدري أي المرتين كانت أولا هذا كلامه
وقد يقال النسيان جائز عليه صلى الله عليه وسلم فيجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم نسى كلام قس بعد الإخبار به أولا ويدل لذلك قوله لا أظن أني أحفظه الآن أو قبل الإخبار به فيكون خبره صلى الله عليه وسلم متأخرا عن خبر أبي بكر فلا دلالة في ذلك التعدد ووصف الجمل بأنه أحمر ووصفه بأنه أورق لا يدل على التعدد لأنه يجوز أن يكون شديد الحمرة تميل إلى السواد وهو الأورق فأخبر عنه مرة بأنه أحمر ومرة بأنه أورق وهذا السياق يدل على تعدد مجئ وفد عبدالقيس مرة جاءوا وحدهم ومرة جاءوا مع سيدهم الجارود وقد جاء رحم الله قسا إنه كان على دين أبي إسماعيل بن إبراهيم والله أعلم
ومن ذلك خبر نافع الجرشي نسبة إلى جرش بضم الجيم وفتح الراء وبالشين المعجمة قبيلة من حمير تسمى به بلدهم أن بطنا من اليمن كان لهم كاهن في الجاهلية فلما ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر في العرب جاءوا إلى كاهنهم واجتمعوا

إليه في أسفل جبل فنزل إليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس فرفع رأسه إلى السماء طويلا ثم قال أيها الناس إن الله أكرم محمدا وأصطفاه وطهر قلبه وحشاه ومكثه فيكم أيها الناس قليل
وأما أخبار الكهان على ألسنة الجان فكثيرة أيضا
منها خبر سواد بن قارب رضي الله تعالى عنه وكان يتكهن في الجاهلية وكان شاعرا ثم أسلم فعن محمد بن كعب القرظي قال بينا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ذات يوم جالسا إذ مر به رجل فقيل له يا أمير المؤمنين أتعرف هذا المار قال ومن هذا قالوا سواد بن قارب الذي أتاه رئيه أي تابعه من الجن الذي يتراءى له أتاه بظهور النبي صلى الله عليه وسلم أي بعد أن قال عمر رضي الله تعالى عنه على المنبر أي منبر النبي صلى الله عليه وسلم أيها الناس أفيكم سواد بن قارب فلم يجبه أحد فلما كان السنة المقبلة ولعل ذلك كان في زمن المجئ للزيارة من الآفاق قال أيها الناس أفيكم سواد بن قارب قال بعضهم يا أمير المؤمنين ما سواد بن قارب قال إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئا عجيبا قال البراء فبينا نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب فارسل إليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال له أنت سواد بن قارب قال نعم قال أنت الذي أتاك رئيك بظهور النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم قال فأنت على ما كنت عليه من كهانتك فغضب سواد بن قارب وقال ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت يا أمير المؤمنين فقال له سبحان الله ما كنا عليه من الشرك أي من عبادة الأصنام أعظم مما كنت عليه من كهانتك أي وفي رواية أن عمر رضي الله تعالى عنه قال اللهم غفرا قد كنا في الجاهلية على شر من هذا نعبد الأصنام والأوثان حتى أكرمنا الله برسوله صلى الله عليه وسلم وبالإسلام
أقول وفيه أن المتبادر أن غضب سواد إنما هو بسبب ما فهمه من نسبته إلى الكهانة بعد الإسلام لا قبلها بدليل قوله ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت وجواب سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه يدل على أنه فهم أن غضب سواد بسبب نسبته للكهانة قبل الإسلام فلذلك قال سبحان الله متعجبا منه
وفي كلام السهيلي أن عمر رضي الله تعالى عنه مازح سوادا رضي الله تعالى عنه فقال له ما فعلت كهانتك يا سواد فغضب وقال له سواد رضي الله تعالى عنه قد كنت أنا وأنت

على شر من هذا من عبادة الأصنام وأكل الميتات أفتعيرني بأمر قد تبت منه فقال عمر رضي الله تعالى عنه اللهم غفرا فليتأمل والله أعلم ثم قال لسواد أخبرني ما نبأ رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي رواية قال يا سواد حدثنا ببدء إسلامك كيف كان قال نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئيى فضربني برجله وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤى بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته ثم أنشأ يقول ** عجبت للجن وتطلابها ** وشدها العيس بأقتابها ** ** تهوى إلى مكة تبغى الهدى ** ما صادق الجن ككذابها ** ** فارحل إلى الصفوة من هاشم ** ليس قدماها كأذنابها **
فقلت دعنى أنام فإني أمسيت ناعسا فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته ثم أنشأ يقول ** عجبت للجن وتخبارها ** وشدها العيس بأكوارها ** ** تهوى إلى مكة تبغى الهدى ** ما مؤمن الجن ككفارها ** ** فارحل إلى الصفوة من هاشم ** بين روابيها وأحجارها **
فقلت دعنى أنام فإني أمسيت ناعسا فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته ثم أنشأ يقول ** عجبت للجن وتحساسها ** وشدها العيس بأحلاسها ** ** تهوى إلى مكة تبغي الهدى ** ما خير الجن كأنحاسها ** ** فارحل إلى الصفوة من هاشم ** وارم بعينيك إلى راسها **
فقمت فقلت قد امتحن الله قلبي فرحلت ناقتي ثم أتيت المدينة وفي رواية حتى أتيت مكة وهي كما قال البيهقي أقرب إلى الصحة من الأولى أي لأن الجن إنما جاءت إليه صلى الله عليه وسلم للإيمان به في مكة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله وفي لفظ والناس حوله وفي لفظ والناس عليه كعرف الفرس فلما

رآني قال مرحبا بك يا سواد بن قارب قد علمنا ماجاء بك قلت يا رسول الله قد قلت شعرا فاسمع مقالتي يا رسول الله فقال هات فأنشأت أي ابتدأت أقول أتاني نجي بعد هدء ورقدة وفي لفظ ** أتاني رئيى بعد ليل وهجعة ** ولم يك فيما قد تلوت بكاذب ** ** ثلاث ليال قوله كل ليلة ** أتاك رسول من لؤى بن غالب **
فشمرت من ذيل الإزار وفي لفظ عن ساقي الإزار ** ووسطت بي الذعلب الوجناء بين الساسب ** ** فأشهد أن الله لا رب غيره ** وأنك مأمون على كل غائب ** ** وأنك أدنى المرسلين وسلية ** إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب ** ** فمرنا بما يأتيك ياخير مرسل ** وإن كان فيما جاء شيب الذوائب ** ** وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ** سواك بمغن عن سواد بن قارب **
وفي رواية ** وكن لي شفيعا يوم لا ذوا قرابة ** بمغن فتيلا عن سواد بن قارب **
قال ففرح النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رؤى الفرح في وجوههم أي وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال أفلحت يا سواد فرأيت عمر رضي الله تعالى عنه التزمه وقال لقد كنت اشتهي أن أسمع هذا الحديث منك فهل يأتيك رئيك اليوم قال منذ قرأت القرآن فلا ونعم العوض كتاب الله تعالى من الجن أي وهذا السياق يدل على أن سيدنا عمر لم يكن حاضرا عند النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره سواد
ولما مات صلى الله عليه وسلم وخشى سواد على قومه الردة قام فيهم خطيبا فقال يا معشر دوس من سعادة القوم أن يتعظوا بغيرهم ومن شقائهم أن لا يتعظوا إلا بأنفسهم وإنه من لم تنفعه التجارب ضربه ومن لم يسعه الحق لم يسعه الباطل وإنما تسلمون اليوم بما أسلمتم به أمس ولا ينبغي لأهل البلاء إلا أن يكونوا أذكر من أهل العافية للعافية ولست أدري لعله يكون للناس جولة فإن لم تكن فالسلامة منها الأناة والله يحبها فأحبوها فأجابه القوم بالسمع والطاعة
أي ومن ذلك أن امرأة كانت كاهنة بالمدينة يقال لها حطيمة كان لها تابع من الجن

فجاءها يوما فوقف على جدارها فقالت له مالك لا تدخل تحدثنا ونحدثك فقال إنه قد بعث نبي بمكة يحرم الزنا فحدثت بذلك فكان أول من خبر تحدث به المدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما ما سمع من جوف الأصنام فكثير أيضا
فمنها أي غير ما تقدم في ليلة ولادته صلى الله عليه وسلم خبر عباس بن مرداس قال كان لمرداس السلمى وثن يعبده يقال له ضمار بكسر الضاد المعجمة وميم مخففة بعدها ألف ثم راء مهملة فلما حضرت مرداسا الوفاة قال لعباس ولده أي بني أعبد ضمارا فإنه ينفعك ويضرك فبينا عباس يوما عند ضمار إذ سمع من جوف ضمار مناديا يقول ** من للقبائل من سليم كلها ** أودى ضمار وعاش أهل المسجد ** ** إن الذي ورث النبوة والهدى ** بعد ابن مريم من قريش مهتد ** ** أودى ضمار وكان يعبد مدة ** قبل الكتاب إلى النبي محمد **
فحرق عباس ضمارا ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ أن عباس بن مرداس كان في لقاح له نصف النهار إذ طلع عليه راكب على نعامة بيضاء وعليه ثياب بيض فقال له يا عباس ألم تر أن السماء قد تعب أحراسها وأن الحرب قد حرقت أنفاسها وأن الخيل وضعت أحلاسها وأن الذي نزل عليه البر والتقوى صاحب الناقة القصواء فقال عباس فراعني ذلك فجئت وثنا لنا يقال له الضمار كنا نعبده وتكلم من جوفه فكنست ما حوله ثم تمسحت به فإذا صائح يصيح من جوفه ** قل للقبائل من قريش كلها ** هلك الضمار وفاز أهل المسجد ** ** هلك الضمار وكان يعبد مدة ** قبل الصلاة على النبي محمد ** ** إن الذي ورث النبوة والهدى ** بعد ابن مريم من قريش مهتد **
قال عباس فخرجت مع قومي بني حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فدخلت المسجد فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم وقال يا عباس كيف إسلامك فقصصت عليه القصة فقال صدقت وأسلمت أنا وقومي
ومن ذلك خبر مازن بن الغضونة قال كنت أسدن أي أخدم صنما بقرية بعمان أي بالتخفيف تدعى سمائل وسمال يقال له بادر وفي لفظ باحر بالحاء المهملة فعترنا

ذات يوم عنده عتيرة وهي الذبيحة مطلقا وقيل في رجب خاصة فسمعنا صوتا من جوف الصنم يقول يا مازن اسمع تسر ظهر خير وبطن شر بعث نبي من مضر بدين الله الكبر فدع نحيتا من حجر تسلم من حر سقر قال مازن ففزعت لذلك وقلت إن هذا لعجب ثم عترت بعد أيام عتيرة أي ذبحت ذبيحة لذلك الصنم فسمعت صوتا من الصنم يقول ** أقبل إلى أقبل ** تسمع مالا تجهل ** ** هذا نبي مرسل ** جاء بحق منزل ** ** آمن به كي تعدل ** عن حر نار تشعل ** ** وقودها بالجندل **
فقلت إن هذا لعجب وإنه لخير يراد بي
أقول ورأيت في بعض السير تقديم هذه الأبيات على ما قبلها وأن مازنا قال ثم سمعت صوتا أبين من الأول وهو يقول يا مازن اسمع إلى آخره والله أعلم
قال مازن فينا نحن كذلك إذ قدم رجل من أهل الحجاز قلنا له ما الخبر وراءك قال قد ظهر رجل يقال له أحمد يقول لمن أتاه أجيبوا داعي الله فقلت هذا نبأ ما سمعته فنزلت إلى الصنم فكسرته جذاذا وركبت راحلتي وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرح لي الإسلام وأسلمت وقلت ** كسرت بادرا جذاذا وكان لنا ** ربا نطيف به ضلا بتضلال ** ** بالهاشمي هدانا من ضلالتنا ** ولم يكن دينه شيئا على بالي ** ** يا راكبا عمرا وإخوتها ** أنى لما قال ربي بادر قالى **
عنى بعمرو وإخوتها بين خطامة وهي بطن من طيئ وهذه الأبيات ساقطة في أسد الغابة قال مازن فقلت يا رسول الله إني مولع بالطرب أي مغرم به وبشرب الخمر وبالهلوك أي الفاجرة من النساء التي تتمايل وتتثنى عند جماعها وقيل الساقطة على الرجال أي لشدة شبقها وألحت أي دامت علينا سنون أي أعوام القحط والجدب فذهبن بالأموال وهزلن الذرارى والعيال وليس لي ولد فادع الله أن يذهب عني ما أجد ويأتيني بالحيا ويهب لي ولدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن وبالحرام الحلال وبالخمر ريا لا إثم فيه وبالعهر أي الزناعفة

الفرج وأته بالحيا أي المطر وهب له ولدا قال مازن فأذهب الله عني ما كنت أجده وتعلمت شطر القرآن وحججت حجيجا وأخصبت عمان يعني قريته وما حولها من قرى عمان وتزوجت أربع حرائر ووهب الله لي حيان يعني ولده وأنشأت أقول ** إليك رسول الله حنت مطيتي ** تجوب الفيافي من عمان إلى العرج ** ** لتشفع لي يا خير من وطئ الحصا ** فيغفر لي ذنبي وأرجع بالفلج ** أي بالفوز والظفر المطلوب ** إلى معشر خالفت في الله دينهم ** ولا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي ** أي بالشين والجيم أي لا شكلهم شكلي و لا طريقهم طريقي ** وكنت أمرأ بالعهر والخمر مولعا ** شبابي حتى آذن الجسم بالنهج ** أي البلاء ** فبدلني بالخمر خوفا وخشية ** وبالعهر إحصانا فحصن لي فرجي ** ** فأصبحت همى في الجهاد وينتي ونيتي ** فلله ما صومي ولله ما حجي **
قال مازن فلما رجعت إلى قومي أنبوني أي عنفوني ولاموني وشتموني وأمروا شاعرهم فهجاني فقلت إن هجوتهم فإنما أهجوا نفسي وتنحيت عنهم وأتيت مسجدا أتعبد فيه وكان لا يأتي هذا المسجد مظلوم فيتعبد فيه ثلاثا ويدعو على من ظلمه إلا استجيب له ولا دعا ذو عاهة من برص أو غيره إلا عوفى ثم إن القوم ندموا وطلبوا مني الرجوع إليهم فأسلموا كلهم وضعف هذا الحديث
وأما ما سمع من أجواف الذبائح فمنه ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال كنا يوما في حي من قريش يقال لهم آل ذريح بالحاء المهملة وقد ذبحوا عجلا لهم والجزار يعالجه إذ سمعنا صوتا من جوف العجل ولا نرى شيئا يا آل ذريح أمر نجيح صائح يصيح بلسان فصيح يشهد أن لا إله إلا الله أي والمراد بالذريح العجل الذي ذبح لأنه ملطخ بالدم الأحمر لقولهم أحمر ذريحى أي شديد الحمرة والذي في البخاري يقول يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله والمراد بالجليح العجل المذبوح أيضا لأنه قد جلح أي كشف عنه جلده
وأما ما سمع من الهواتف ولم يجئ على ألسنة الكهان ولا سمع من جوف

الأصنام ولا من جوف الذبائح فكثير من ذلك ما حدث به بعضهم وذكره النبي صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله لقد رأيت من قس عجبا خرجت أطلب بعيرا لي حتى إذا عسعس الليل أي أدبر وكاد الصبح أن يتنفس هتف بي هاتف يقول ** يا أيها الراقد في الليل الأحم ** أي بالحاء المهملة يعنى الأسود ** قد بعث الله نبيا بالحرم ** ** من هاشم أهل الوفاء والكرم ** يجلو دجنات الليالي والبهم ** أي الظلمات والأمور المشكلة فأدرت طرفي فما رأيت شخصا فأنشأت أقول ** يا أيها الهاتف في داجى الظلم ** أهلا وسهلا بك من طيف ألم ** ** بين هداك الله في لحن الكلم ** من ذا الذي تدعو إليه يغتنم **
فإذا أنا بنحنحة وقائل يقول ظهر النور وبطل الزور وبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحبور أي السرور صاحب النجيب الأحمر أي الكريم من الإبل والتاج والمغفر والوجه الأزهر أي الأبيض المشرب بالحمرة والحاجب أي الجبين الأقمر أي الأبيض والطرف الأحور أي شديد سواده صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله فذاك محمد المبعوث إلى الأسود والأحمر أهل المدر والوبر أي العجم والعرب ثم أنشأ يقول ** الحمد لله الذي ** لم يخلق الخلق عبث ** ** أرسل فينا أحمدا ** خير نبي قد بعث ** ** صلى الله عليه ما ** حج له ركب وحث **
وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** وتغنت بمدحه الجن حتى ** أطرب الإنس منه ذاك الغناء **
أي أظهرت الجن أوصافه صلى الله عليه وسلم الجميلة في صورة الغناء الذي تألفه النفس ولا تصبر منها عند سماعه فتسمع لغيره حتى أطرب الإنس ذاك الغناء الذي سمعوه من الجن قال فلاح الصباح وإذا بالفنيق يشقشق والفنيق بفتح الفاء وكسر النون وسكون المثناة تحت ثم قاف الفحل الكريم من الإبل ويشقشق بشينين معجمتين وقافين أي يهدر إلى النوق فملكت خطامه وعلوت سنامه حتى إذا لغب بالغين المعجمة والموحدة أي تعب فنزل في روضة خضراء فإذا أنا بقس بن

ساعدة في ظل شجرة وبيده قضيب من أراك ينكت به الأرض والنكت بالمثناة فوق وهو يقول ** يا ناعي الموت والملحود في جدث ** أي قبر ** ** علهيم من بقايا بزهم خرق ** أي والبز الثياب ** ** دعهم فإن لهم يوما يصاح به ** فهم إذا انتبهوا من نومهم فرقوا ** أي خافوا حتى يعودا بحال غير حالهم ** خلقا جديدا كما من قبله خلقوا ** ** منهم عراة ومنهم في ثيابهم ** منها الجديد ومنها المنهج الخالق **
والمنهج من الثياب الذي أخذ في البلى قال فدنوت منه فسلمت عليه فرد علي السلام فإذا بعين خرارة أي لمائها خرير أي صوت في الأرض خوارة أي ضعيفة ومسجد بين قبرين وأسدين عظيمين يلوذان به وإذا بأحدهما قد سبق الآخر إلى الماء فتبعه الآخر يطلب الماء فضربه بالقضيب الذي في يده وقال ارجع ثكلتك أمك أي فقدتك حتى يشرب الذي قبلك فرجع ثم ورد بعده فقلت له ما هذان القبران قال هذان قبرا أخوين كانا لي يعبدان الله عز وجل معي في هذا المكان لا يشركان بالله شيئا أي اسم أحدهما سمعون والآخر سمعان فأدركهما الموت فقبرتهما وها أنا بين قبريهما حتى ألحق بهما ثم نظر إليهما وأنشد أبيانا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله قسا إني أرجو أن يبعثه الله أمة وحده أي واحدا يقوم مقام جماعة كما تقدم وقد أشار إلى ذلك صاحب الأصل بقوله ** وعنه أخبر قس قومه فلقد ** حلى مسامعهم من ذكره شنفا **
ولما مات قس قبر عندهما وتلك القبور الثلاثة بقرية يقال لها روحين من أعمال حلب وعليها بناء والناس يزورونهم وعليهم وقف ولهم خدام ومن ذلك ما ذكره الواقدي بإسناد له قال كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يحدث أن قوما من خثعم كانوا عند صنم لهم جلوسا وكانوا يتحاكمون إلى أصنامهم فبينا الخثعميون عند صنم لهم إذا سمعوا هاتفا يهتف ويقول ** يا أيها الناس ذوو الأجسام ** ومسندو الحكم إلى الأصنام ** ** أما ترون ماأرى أمامي ** من ساطع يجلو دجى الظلام ** ** ذاك نبي سيد الأنام ** من هاشم في ذروة السنام ** **

** مستعلن بالبلد الحرام ** جاء يهد الكفر بالإسلام ** أكرمه الرحمن من إمام **
قال أبو هريرة فأمسكوا ساعة حتى حفظوا ذلك ثم تفرقوا فلم يمض بهم ثالثهم حتى فجأهم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد ظهر بمكة أي جاءهم ذلك بغتة فما أسلم الخثعميون حتى استأخر إسلامهم ورأوا عبرا عند أصنامهم
وأما خبر زمل بن عمرو العذري قال كان لبني عذرة وهي قبيلة من اليمن صنم يقال له خمام بالخاء المعجمة المضمومة وتخفيف الميم وكانوا يعظمونه وكان في بني هند بن حرام بالحاء المهملة المفتوحة والراء وكان سادنه أي خادمه رجلا يقال له طارق قال في النور لا أعلم له ترجمة ولا إسلاما وكانوا يعترون أي يذبحون الذبائح عنده فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم سمعنا صوتا يقول يا بني هند بن حرام ظهر الحق وأودى خمام أي هلك ورفع الشرك الإسلام قال زمل ففزعنا لذلك وهالنا أي أفزعنا فمكثنا أياما ثم سمعنا صوتا يقول يا طارق يا طارق بعث النبي الصادق بوحي ناطق صدع صدعة بأرض تهامة لناصريه السلامة ولخاذليه الندامة هذا الوداع مني إلى يوم القيامة فوقع الصنم لوجهه
فإن كان ذلك الصوت من جوف الصنم ويرشد إليه قوله هذا الوداع مني إلى يوم القيامة فهو من غير هذا النوع وإن لم يكن فهو من هذا النوع قال زمل فابتعت أي اشتريت راحلة ورحلت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم مع نفر من قومي وأنشدته إليك يا رسول الله أعلمت نصها النص هو الغاية في السير
** أكلفها حزنا وقوزا من الرمل ** والحزن ما ارتفع من الأرض **
والقوز بالقاف والزاي التل الصغير ** لأنصر خير الناس نصرا موزرا ** أي قويا وأعقد حبلا من حبالك في حبلي **
والحبل العهد الميثاق ** وأشهد أن الله لا شيء غيره ** أدين له أي أخضع وأضيع ما أثقلت قدمي نعلي **
ومن هذا النوع خبر تميم الداري أي ويكنى أبارقية اسم ابنة له لم يولد له غيرها روى عنه صلى الله عليه وسلم قصة الجساسة مع الدجال على المنبر فقال حدثني تميم الداري وذكر القصة قال بعضهم وهذا أولى ما يخرجه المحدثون في رواية الكبار


وقد يكون من ذلك ما ذكر أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه مر يوما على ابنته عائشة رضي الله تعالى عنها فقال هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء كان يعلمناه وذكر أن عيسى ابن مريم كان يعلمه أصحابه ويقول لو كان على أحدكم جبل دين ذهبا قضاه الله عنه قال نعم يقول اللهم فارج الهم كاشف الغم مجيب دعوة المضطرين رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما أنت ترحمني فارحمني برحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال كان علي دين وكنت له كارها فقلته فلم ألبث إلا يسيرا حتى قضيته
قال تميم الداري رضي الله تعالى عنه كنت بالشام حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت إلى بعض حاجاتي فأدركني الليل فقلت أنا في جوار عظيم هذا الوادي فلما أخذت مضجعي إذا مناد ينادي لا اراه عذ بالله فإن الجن لا تجير أحدا على الله فقلت أيم تقوله وأيم بتشديد الياء وبإسكانها وفتح الميم فيهما أي أيما شيء تقول فقال قد خرج رسول الأميين رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا خلفه بالحجون أي وهو مقبرة مكة التي يقال لها المعلاة كما تقدم وأسلمنا وأتبعناه وذهب كيد الجن ورميت بالشهب فانطلق إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأسلم فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب فسألت راهبه وأخبرته فقال صدقوك نجده يخرج من الحرم أي مكة ومهاجره الحرم أي المدينة وهو خير الأنبياء فلا تسبق إليه قال تميم فطلبت الشخوص أي الذهاب حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت
أقول وهذا يدل ظاهرا على أن تميما الداري أسلم بمكة قبل الهجرة فهو مما الكلام فيه بل رأيت في تتمة الخبر فسرت إلى مكة فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان مستخفيا فآمنت به
ورأيت بعضهم قال وهذه الرواية غلط لأن تميما الداري إنما أسلم سنة تسع من الهجرة والله أعلم
قال ومن ذلك ما حدث به سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه أن رجلا من بني تميم حدث عن بدء إسلامه قال إني لأسير برمل عالج ذات ليلة إذ غلبني النوم فنزلت عن راحلتي وأنختها ونمت وتعوذت قبل نومي فقلت أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن فرأيت في منامي رجلا بيده حربة يريد أن يضعها في نحر ناقتي فانتبهت فزعا

فنظرت يمينا وشمالا فلم أر شيئا فقلت هذا حلم ثم عدت فتعوذت فرأيت مثل ذلك وإذا بناقتي ترعد ثم غفوت فرأيت مثل ذلك فانتبهت فرأيت ناقتي تضطرب فالتفت فإذا أنا برجل شاب كالذي رأيته في منامي بيده حربة ورجل شيخ يمسك بيده يرده عن ناقتي وبينهما نزاع
فبينما هما يتنازعان إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش فقال الشيخ للفتى قم فخذ أيها شئت فداء لناقة جارى الإنسى فقام الفتى وأخذ منها ثورا وانصرف ثم التفت إلى الشيخ وقال يا فتى إذا نزلت واديا من الأودية فخفت هوله فقل أعوذ بالله رب محمد من هول هذا الوادي و لاتعذ بأحد من الجن فقد بطل أمرها فقلت له ومن محمد قال نبي عربي لا شرقي ولا غربي فقلت أين مسكنه قال يثرب ذات النخل فركبت ناقتي وحثثت السير حتى أتيت المدينة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثني قبل أن أذكر له منه شيئا ودعاني إلى الإسلام فأسلمت وهذا السياق يدل على أن هذه القصة بعد الهجرة لا عند المبعث الذي الكلام فيه
ونظير هذا ما حدث به بعض الصحابة قال خرجت في طلب إبل لي وكنا إذا نزلنا بواد قلنا نعوذ بعزيز هذا الوادي فتوسدت ناقتي وقلت أعوذ بعزيز هذا الوادي فإذا هاتف يهتف بي ويقول ** ويحك عذ بالله ذي الجلال ** منزل الحرام والحلال ** ** ووحد الله ولا تبال ** ما كيد ذي الجن من الأهوال ** ** إذ يذكر الله على الأحوال ** وفي سهول الأرض والجبال ** ** وصار كيد الجن في سفال ** إلا النبي وصالح الأعمال ** ** فقلت له يا أيها القائل ما تقول ** أرشد عندك أم تضليل ** ** فقال هذا رسول الله ذو الخيرات ** جاء بيس وحاميمات ** ** وسور بعد مفصلات ** يأمر بالصلاة والزكاة ** ** ويزجر الأقوام عن هنات ** قد كن في الإسلام منكرات **
فقلت أما لو كان من يؤدي إبلي هذه إلى أهلي لأتيته حتى أسلم فقال إذا أؤديها فركبت بعيرا منها ثم قدمت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وفي رواية فوافيت الناس يوم الجمعة وهم في الصلاة فإني أنيخ راحلتي إذ خرج إلى أبو ذر فقال لي

يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ادخل فدخلت فلما رآني قال ما فعل الرجل وفي لفظ ما فعل الشيخ الذي ضمن لك أن يؤدي إبلك أما إنه قد أداها سالمة وقد قص الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ما كان عليه الناس قبل بعثته من أن الإنسان إذا نزل منزلا مخوفا قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه بقوله سبحانه وتعالى { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال } أي يستغيذون برجال من الجن أي حين ينزلون في أسفارهم بمكان مخوف يقول كل رجل أعوذ بسيد هذا المكان من شر سفهائه { فزادوهم رهقا } أي زادوا الجن أي ساداتهم بإستعاذتهم بهم طغيانا فيقولون سدنا الإنس والجن
أي ومن ذلك ما حكاه وائل بن حجر الحضرمي ويكنى أبا هنيدة كان قيلا من أقيال حضرموت وكان أبوه من ملوكهم قال وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بشر أصحابه بقدومي فقال يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضرموت راغبا في الله عز وجل وفي رسوله وهو بقية أبناء الملوك قال وائل فما لقيني أحد من الصحابة إلا قال بشرنا بك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومك بثلاث فلما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم رحب بي وأدناني من نفسه وقرب مجلسي وبسط لي رداءه فاجلسني عليه وقال اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده ثم صعد المنبر وأقامني بين يديه ثم قال أيها الناس هذا وائل بن حجر أتاكم من أرض بعيدة من حضرموت راغبا في الإسلام فقلت يا رسول الله بلغني ظهورك وأنا في ملك عظيم فمن الله علي أن رفضت ذلك كله وآثرت دين الله قال صدقت اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده
قال وسبب وفودي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لي صنم من العقيق فبينما أنا نائم في الظهيرة إذ سمعت صوتا منكرا من المخدع الذي به الصنم فأتيت الصنم وسجدت بين يديه وإذا قائل يقول ** واعجبا لوائل بن حجر ** يخال يدرى وهو ليس يدرى ** ** ماذا يرجى من نحيت صخري ** ليس بذي نفع ولا ذي ضر ** ** لو كان ذا حجر أطاع أمري **
قال فقلت أسمعت أيها الهاتف الناصح فماذا تأمرني فقال

** ارحل إلى يثرب ذات النخل ** تدين دين الصائم المصلى ** ** محمد النبي خير الرسل **
ثم خر الصنم لوجهه فاندقت عنقه فقمت إليه فجعلته رفاتا ثم سرت مسرعا حتى أتيت المدينة فدخلت المسجد الحديث
وفيه أنه إن كان الصوت من جوف الصنم فهو من غير هذا النوع ولوائل هذا حديث مع معاوية تركناه لطوله
وأما ما سمع من بعض الوحوش فمنه ما حدث به أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال بينا راع يرعى بالجزيرة إذ عرض الذئب لشاة من شياهه فحال الراعي بين الذئب وبين الشاة فأقعى الذئب على ذنبه فقال ألا تتقي الله تحول بيني وبين رزق ساقه الله إلي فقال الراعي أعجب من ذئب يكلمني بكلام الإنس فقال الذئب ألا أخبرك بأعجب مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين
وفي رواية بيثرب يحدث الناس بأنباء ما قد سبق وفي لفظ يخبركم بما مضى وما هو كائن بعدكم فساق الراعي شياهه فأتى المدينة فغدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه بما قال الذئب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الراعي إن من أشراط الساعة كلام السباع للإنس والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يكلم الرجل شراك نعله أي وهو أحد سيورها الذي يكون على وجهها كما تقدم وعذبة سوطه أي طرفه وقيل أحد سيوره ويخبره بما فعل أهله أي وفي لفظ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودى بالصلاة جامعة ثم خرج فقال للأعرابي أخبرهم فأخبرهم
وفي رواية أن راعي الغنم كان يهوديا وفي رواية أن الذئب قال له أنت أعجب مني واقفا على غنمك وتركت نبيا لم يبعث الله قط أعظم منه قدرا وقد فتحت له أبواب الجنة وأشرف أهلها على أصحابه ينظرون قتالهم وما بينك وبينه إلا هذا الشعب فتصير في جنود الله تعالى فقال له الراعي من لي بغنمي فقال الذئب أنا أرعاها حتى ترجع فأسلم إليه غنمه ومضى إليه صلى الله عليه وسلم وأسلم وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عد إلى غنمك تجدها بوفرها فوجدها كذلك وذبح للذئب شاة منها وفيه أن هذا وما تقدم من خبر سعيد بن جبير كما علمت بعد الهجرة لا عند المبعث الذي الكلام فيه


قال في النور هذا الراعي لا أعرف اسمه قال وكلم الذئب غير واحد فانظرهم في تعليقي على البخاري
أقول ذكر في حياة الحيوان عن ابن عبدالبر كلم الذئب من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثلاثة رافع بن عميرة وسلمة بن الأكوع ووهبان بن أوس
وأما ما سمع من بعض الأشجار فقد روى عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قيل له هل رأيت قبل الإسلام شيئا من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم بينا أنا قاعد في ظل شجرة في الجاهلية إذ تدلى على غصن من أغصانها حتى صار على رأسي فجعلت أنظر إليه وأقول ما هذا فسمعت صوتا من الشجرة هذا النبي يخرج في وقت كذا وكذا فكن أنت من أسعد الناس به والله أعلم
وأما تساقط النجوم وطرد الجن بها عن استراق السمع فقد قال ابن إسحاق لما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد فيها فرموا بالنجوم فعرف الجن أن ذلك لأمر حدث من الله في العباد يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين بعثه يقص عليه خبرهم إذ حجبوا { وأنا لمسنا السماء } أي طلبنا استراق السمع منها { فوجدناها ملئت حرسا شديدا } أي ملائكة أقوياء يمنعون عنها { وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } لخلوها عن الحرس والشهب { فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } أي أرصد له ليرمى به أي ومن يخطف الخطفة منهم بخفة حركته يتبعه شهاب ثاقب يقتله أي أو يحرق وجهه أو يخبله قبل أن يلقيها إلى الكاهن وذلك لئلا يلتبس أمر الوحي بشيء من خبر الشياطين مدة نزوله وبعد انقضائه وموته صلى الله عليه وسلم لئلا تدخل الشبهة على ضعفاء العقول فربما توهموا عود الكهانة التي سببها استراق السمع وأن أمر رسالته صلى الله عليه وسلم تم فاقتضت الحكمة حراسة السماء في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد موته ومن ثم قال لا كهانة بعد اليوم
وقد حدث بعضهم قال إن أول العرب فزع للرمى بالنجوم حين رمى بها ثقيف وإنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية وكان أدهى العرب وأنكرها رأيا أي أدهاها رأيا وكان ضريرا وكان يخبرهم بالحوادث فقالوا له يا عمرو ألم تر أي تعلم ما حدث في السماء من الرمى بهذه النجوم فقال بلى فانظروا فإن كانت معالم النجوم أي

النجوم المشهورة التي يهتدي بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء هي التي يرمى بها فهو والله طي هذه الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي فيها وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها فهو لأمر أراد الله بهذا الخلق أي والنوء وبالنون والهمز هنا ما يحصل عند سقوط نجم في المغرب وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ثلاثة عشر يوما وحقيقة النوء سقوط النجم وطلوع رقيبه في المدة المذكورة
وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها أو إلى الطالع منها فتقول مطرنا بنوء كذا وسيأتي الكلام على ذلك في غزوة الحديبية
وفي لفظ فأمر أراد الله ونبي يبعث في العرب فقد تحدث بذلك لا يقال قد رجمت الشياطين بالنجوم قبل ذلك وذلك عند مولده صلى الله عليه وسلم لأنا نقول المراد رجمت الآن بأكثر مما كان قبل ذلك أو صارت تصيب ولا تخطئ
ومن ثم حدث بعضهم قال لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أي قرب زمن بعثه رجمت الشياطين بنجوم لم تكن ترجم بها قبل فأتوا عبد ياليل بن عمرو وهو بمثناتين تحتيتين وكسر اللام الأولى الثقفي وكان أعمى فقالوا إن الناس قد فزعوا وقد أعتقوا رقيقهم وسيبوا أنعامهم فقال لهم لا تعجلوا وانظروا فإن كانت النجوم التي تعرف أي وهي التي يهتدي بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء فهي عند فناء الناس وإن كانت لا تعرف فهي من حدث فنظروا فإذا نجوم لا تعرف فقالوا هذا من حدث
أي وقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال النجوم أمنة السماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما يوعدون وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمته لأمتي فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون فلم يلبثوا حتى سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم
وفي لفظ فما مكثوا إلا يسيرا حتى قدم الطائف أبو سفيان بن حرب فقال ظهر محمد بن عبدالله يدعى أنه نبي مرسل
وهذا قد يخالف ما يأتي عن ابن عمر لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين من خبر السماء بالشهب ولا مانع من تكرر سؤال ثقيف مرة لعمرو بن أمية ومرة لعبد يا ليل بن عمرو وأن كلا منهما كان أعمى ويحتمل إتحاد الواقعة


ووقع الإختلاف في اسم الذي سألوه فسماه بعضهم عمرو بن أمية وبعضهم سماه عبد ياليل بن عمرو هذا كما ترى إنما كان عند المبعث وبه يعلم ما في قول الماوردي الذي نقله عن شيخ بعض شيوخنا النجم الغيطي في معراجه وأقره
وسببه أي رمى النجوم أن الله تعالى لما أراد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم رسولا كثر انقضاض الكوكب قبل مولده ففزع أكثر العرب منها وفزعوا إلى كاهن لهم ضرير وكان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها فقال انظروا البروج الإثنى عشر فإن انقض منها شيء فهو ذهاب الدنيا وإن لم ينقض منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم فإنه يقتضى أن المراد ببعثه ولادته فكان يتعين إسقاط قوله قبل مولده لما علمت أن هذا أي كثرة تساقط النجوم إنما كان عند بعثه ونبوته لا عند ولادته ومنه خبر أبي لهب أو لهيب بن مالك أي من بني لهب فإن بني لهب فزعوا لفزع ثقيف قال حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت عنده الكهانة فقلت بأبي وأمي نحن أول من عرف حراسة السماء ومنع الجن من استراق السمع وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن يقال له خطر بالخاء المعجمة والطاء المهملة والراء ابن مالك قال في النور لا أعرف له ترجمة ولا إسلاما وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائتا سنة وثمانون سنة وكان من أعلم كهاننا فقلنا له يا خطر هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمى بها فإنا قد فزعنا لها وخفنا سوء عاقبتها فقال ائتوني بسحر أي قبيل الفجر أخبركم الخبر الخير أم ضرر أم لأمن أو حذر قال فانصرفنا عنه يومنا فلما كان من الغد في وجه السحر أتيناه فإذا هو قائم على قدميه شاخص في السماء بعينيه فناديناه يا خطر يا خطر فأومأ إلينا أن أمسكوا فأمسكنا فانقض نجم عظيم من السماء وصرخ الكاهن رافعا صوته أصابه أصابه جمع وصب كجمل وجمال فالهمزة بدل من الواو خامره عقابه عاجله عذابه أحرقه شهابه زايله جوابه أي زال عنه جوابه يا ويله ما حاله بلبله بلباله البلبال الغم عاوده خباله تقطعت حباله وغيرت أحواله ثم أمسك طويلا ثم قال يا معشر بني قحطان أخبركم بالحق والبيان أقسم بالكعبة والأركان والبلد المؤتمن السدان أي الخدام قد منع السمع عتاة الجان بثاقب كون ذا سلطان من أجل مبعوث عظيم الشان يبعث بالتنزيل والفرقان وبالهدى

وفاضل القرآن تبطل به عبادة الأوثان قال فقلنا له ويلك يا خطر إنك لتذكر أمرا عظيما فماذا ترى لقومك فقال ** أرى لقومي ما أرى لنفسي ** أن يتبعوا خير نبي الإنس ** ** برهانه مثل شعاع الشمس ** يبعث في مكة دار الحمس ** بمحكم التنزيل غير اللبس **
والحمس بضم الحاء المهملة وإسكان الميم والسين المهملة هم قريش وما ولدت من غيرها فإنهم كانوا لا يزوجون بناتهم لأحد من أشراف العرب إلا على شرط أن يتحمس أولادهم فإن قريشا من بين قبائل العرب دانوا بالتحمس ولذلك تركوا الغزو لما في ذلك من استحلال الأموال والفروج ومالوا للتجارة ومن ثم يقال قريش الحمس سموا بذلك لتشددهم في دينهم لأن الحماسة هي الشدة فقلنا له يا خطر ومن هو فقال والحياة والعيش إنه لمن قريش ما في حكمه طيش أي عدول عن الحق من قولهم طاش السهم عن الهدف إذا عدل عنه ولا في خلقه هيش أي ليس في طبيعته وسجيته قول قبيح يكون في جيش وأي جيش من آل قحطان وآل أيش وآل قحطان هم الأنصار قال صلى الله عليه وسلم رحى الإيمان دائرة في ولد قحطان وآل أيش قبيلة من الجن المؤمنين ينسبون إلى أبيهم أيش شخص من كبير الجن وقيل أراد بهم المهاجرين أي ومن المهاجرين الذين يقال فيهم أيش لأنه يقال في مقام المدح فلان أيش على معنى أي شيء هو أي شيء عظيم لا يمكن أن يعبر عن عظمته وجلالته وروى بدل أيش ريش فقلنا له بين لنا من أي قريش فقال والبيت ذي الدعائم يعنى الكعبة والركن يعني الحجر الأسود والأحائم يعني بئر زمزم لأن الأحائم جمع أحوام والأحوام جمع أحوم وهو الماء في البئر وأراد بئر زمزم أو أن الأصل الحوائم ففيه قلب مكاني الأصل فواعل فصار أفاعل والحوائم هي الطير التي تحوم على الماء والمراد حمام مكة لهو نجل أي نسل هاشم من معشر أكارم يبعث بالملاحم يعني الحروب وقتل كل ظالم ثم قال هذا هو البيان أخبرني به رئيس الجان ثم قال الله أكبر جاء الحق وظهر وانقطع عن الجن الخبر ثم سكن وأغمى عليه فما أفاق إلا بعد ثلاثة أيام فقال لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله لقد نطق عن مثل نبوة أي وحي وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده أي مقام جماعة كما تقدم في نظيره


قال ومن ذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن نفر من الأنصام قالوا بينا نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بنجم فاستنار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به في الجاهلية أي قبل البعث قالوا يا رسول الله كنا نقول إذا رأينا برمى بها مات ملك ولد مولود مات مولود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ذلك كذلك ولكن الله سبحانه وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرا سمعته حمله العرش فسبحوا فسبح من تحتهم بتسبيحهم فسبح من تحت ذلك فلا يزال التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيسبحوا ثم يقول بعضهم لبعض لم سبحتم فيقولون قضى الله في خلقه كذا وكذا له الأمر الذي كان أي يكون في الأرض فيهبط به من سماء إلى سماء أي تقوله أهل كل سماء لمن يليهم حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم وإختلاس ثم يأتون به إلى الكهان فيحدثونهم فيخطئون بعضا ويصيبون بعضا
أي وفي البخاري إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كالسلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقو السمع فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمى بها إلى صاحبه فيحرقه الحديث وقولهم قال الحق أي ثم يذكرونه لما تقدم من قولهم قضى الله في خلقه كذا وكذا ولما يأتي وقوله صلى الله عليه وسلم يرمى بها في الجاهلية صريح في أنه كان يرمى بالنجوم للحراسة في زمن الفترة بينه صلى الله عليه وسلم وبين عيسى عليه الصلاة والسلام قبل مولده صلى الله عليه وسلم ويخالفه ما يأتي عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال إنهم ليسوا بشيء فقالوا يا رسول الله إنهم يحدثوننا أحيانا بالشيء يكون حقا قال تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة ثم إن الله تعالى حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها فانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة
أي وفي البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال إن الملائكة تتحدث في العنان أي الغمام بالأمر يكون في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن فيزيدونها مائة كذبة


وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه لم يرم بنجم منذ رفع عيسى عليه الصلاة والسلام حتى تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بها فلما رأت قريش أمرا لم تكن تراه فزعوا لعبد ياليل الحديث

أقول وهذا يفيد أنه لم يرم بها قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم أي قبل قربه الشامل لزمن الولادة فلا يخالف ما تقدم وأن النجوم كان يرمى بها قبل أن يرفع عيسى عليه الصلاة والسلام وذلك صادق بزمن آدم فمن بعده من الرسل وهو الموافق لقول الزهري الحجب وتساقط النجوم كان موجودا قبل البعث في سالف الأزمان أي في زمن الرسل لا في زمن الفترات بين الرسل لقول الكشاف وقول بعضهم ظاهر الأخبار يدل على أن الرجم للشياطين بالشهب كان في زمن غيره صلى الله عليه وسلم من الرسل وهو كذلك وعليه أكثر المفسرين حراسة لما ينزل من الوحي على الرسل وأما في الزمن الذي ليس فيه رسول أي وهو زمن الفترات بين الرسل فكانوا يسترقون السمع في مقاعد لهم ويلقون ما يسمعون للكهان أي لأن الله تعالى ذكر فائدتين في خلق النجوم فقال تعالى { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين } وقال تعالى { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد } وكونها إنما جعلت رجوما وحفظا ليس إلا عند قرب مبعثه صلى الله عليه وسلم خاصة دون بقية الرسل من أبعد البعيد
وحيث كان الغرض من الرمي بالنجوم منع الشياطين من استراق السمع اقتضى ذلك أنه لم يرم بها قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم ومنه زمن ولادته
ويوافق ذلك قول ابن إسحاق لما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر مبعثه حجبت الشياطين وقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين من خبر السماء رموا بالشهب فذكروا ذلك لإبليس فقال بعث أي لعله بعث نبي عليكم بالأرض المقدسة أي لأنها محل الأنبياء وهذا يدل على أن عند إبليس أن الرمى بالنجوم علامة على بعث الأنبياء فذهبوا ثم رجعوا فقالوا ليس بها أحد فخرج إبليس يطلبه بمكة أي لأنها مظنة ذلك بعد محل الأنبياء فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء منحدرا معه جبريل فرجع إلى أصحابه فقال بعث أحمد ومعه جبريل وفي رواية إن إبليس قال لما أخبروه بأنهم منعوا من خبر السماء إن هذا لحدث حدث في الأرض فائتوني من تربة كل أرض

فأتوه بذلك فجعل يشمها فلما شم تربة مكة قال من ههنا الحدث فمضوا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث
أقول قد يقال لا منافاة بين الروايتين لأنه يجوز أنهم لم يخبروه بمبعثه صلى الله عليه وسلم لما وجدوه فذهب أو ذهب بعد إخبارهم له بذلك للإستيقان وهذا يفيد أن الرمى بالنجوم إنما كان عند مبعثه أي عند تقارب زمنه لا قبل ذلك الذي منه زمن ولادته
وحينئذ يشكل حصول مثل ذلك لإبليس وجنوده عند مولده صلى الله عليه وسلم ومن ثم قدمنا أنه يجوز أن يكون من خلط بعض الرواة وهذه الرواية تدل على أن إبليس لم يكن عنده علم بأن سقوط النجم على الشياطين علامة على مبعث النبي صلى الله عليه وسلم والرواية التي قبلها تدل على ذلك كما علمت وكلتا الروايتين يدل على أنه لم يعلم عينه ولا محله والله أعلم وقد أشار صاحب الهمزية إلى أن حجب الشياطين كان عند مبعثه صلى الله عليه وسلم بقوله ** بعث الله عند مبعثه الشهب ** حراسا وضاق عنها الفضاء ** ** تطرد الجن عن مقاعد للسم ** مع كما يطرد الذئاب الرعاء ** ** فمحت آية الكهانة آيا ** ت من الوحي مالهن إنمحاء **
أي أرسل الله زمن إرساله صلى الله عليه وسلم الشعل من النار على الجن لأجل حراسة السماء منهم ولكثرة تلك الشعل ضاقت عنها المفازات حال كون تلك الشهب تطرد الجن عن أمكنة قريبة يقعدون فيها لأجل أن يسمعوا شيئا من الملائكة المتكلمين بما سيقع في الأرض من المغيبات وطرد تلك الشهب لأولئك الشياطين في الشدة كطرد الرعاة للذئاب عن الغنم إذا أرادت أن تعدو عليها فبسبب ذلك الطرد البالغ للجن عن خبر السماء محت آيات من الوحي آية الكهانة التي هي الإخبار بالأمور المغيبة ما لتلك الآيات من الوحي إنمحاء أي ذهاب بل هي باقية إلى يوم القيامة وفيه أنه لزم على كون الغرض من الرمى بالنجوم حفظ الوحى أن ذلك لا يكون إلا عند مبعثه صلى الله عليه وسلم ولا يكون قبل ذلك الذي منه وقت ولادته وأيضا لو كان ذلك موجودا قبل مبعثه واستمر إلى مبعثه لم تفزع العرب منه عند مبعثه
وأجيب عن الأول بأنه يجوز أن يكون الغرض الأصلي من الرمى بها حفظ الوحى فلا ينافى وجود ذلك قبل عند ولادته إرهاصا وتخويفا


وكان هذا السؤال الثاني هو الحامل لأبي بن كعب على دعوى أنه لم يرم بالنجوم منذ رفع عيسى عليه الصلاة والسلام حتى تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بها ومن ثم قال فلما رأت قريش أمرا لم تكن تراه فزعوا لعبد ياليل ويجاب بأنه يجوز أن يكون الرمى بالنجوم عند المبعث مخالفا للرمى بها قبله إما لفرط كثرتها وإما لأن الرمى بها بعد المبعث كان من كل جانب وقيل كان من جانب واحد وإما لأن الرمى بها صار لا يخطئ أبدا وقبل ذلك كان يخطئ تارة ويصيب أخرى فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه ومنهم من يخبله أي يصيره غولا يضل الناس في البراري وكان ذلك سبب فزع العرب لأنه كان قبل ذلك لم يكن من كل جانب ولم يكثر ويخطئ فيعود الشيطان إلى مكانه فيسترق السمع ويلقى ما يسترقه إلى كاهنه أي فلم تنقطع الكهانة قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم بالمرة بل كانت موجودة إلى زمن مبعثه صلى الله عليه وسلم وعند مبعثه انقطعت بالمرة ومن ثم قال لا كهانة اليوم وهذا كله على تسليم رواية ابن عباس أن النجوم رمى بها عند ولادته صلى الله عليه وسلم وحفظ الوحي بالرمى بالشهب لا يخالف ما حكاه في الإتقان عن سعيد بن جبير ما جاء جبريل بالقرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة وسيأتي عن الينبوع عن ابن جرير ما نزل جبريل بوحى قط إلا ونزل معه من الملائكة حفظة يحيطون به وبالنبي الذي يوحى إليه يطردون الشياطين عنهما لئلا يسمعوا ما يبلغه جبريل إلى ذلك النبي الذي يوحى إليه يطردون الشياطين عنهما لئلا يسمعوا ما يبلغه جبريل إلى ذلك النبي من الغيب الذي يوحيه إليه فيبلغوه إلى أوليائهم
وعن بعضهم قال سافرت عن زوجتي فخلفني عليها شيطان على صورتي وكلامي وسائر حالاتي التي تعرفها مني فلما قدمت من السفر لم تفرح بي ولم تتهيأ لي وكانت إذا قدمت من سفر تتهيأ لي كما تتهيا العروس فقلت لها في ذلك فقالت إنك لم تغب فبينما أنا كذلك وقد ظهر لي ذلك الشيطان وقال لي أنا رجل من الجن عشقت امرأتك وكنت آتيها في صورتك فلا تنكر ذلك فاختر إما أن يكون لك الليل ولي النهار أو لك النهار ولي الليل فراعني ذلك ثم اخترت النهار فلما كان في بعض الليالي جاءني وقال بت الليلة عند أهلك فقد حضرت نوبتي في استراق السمع من السماء فقلت أنت تسترق السمع فقال نعم هل لك أن تكون معي قلت نعم فلما جاء الليل أتاني وقال حول وجهك فحولت وجهي فإذا هو في صورة خنزير له جناحان فحملني على ظهره فإذا له معرفة كمعرفة الخنزير فقال لي استمسك بها فإنك ترى أمورا وأهوالا فلا

تفارقني تهلك ثم صعد حتى لصق بالسماء فسمعت قائلا يقول لا حول ولا قوة إلا بالله ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فهوى بي ووقع من وراء العمران فحفظت الكلمات فلما أصبحت أتيت أهلي فلما كان الليل جاء فقلتهن فاضطرب فلم أزل أقولهن حتى صار رمادا وإن لم يحمل وقوع ذلك في زمن الجاهلية وإلا كان كذبا لأنهم أجابوا عن إيراد أن القول بقدرة الجن على التصور يلزمه رفع الثقة بشيء فإن من رأى نحو ولده وزوجته احتمل أنه جنى فيشك بأن الله تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤدي إلى ما يترتب عليه ريبة في الدين فليتأمل
وقد جاء في فضل لا حول ولا قوة إلا بالله من كثرت همومه وغمومه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله والذي نفسي بيده إن لا حول ولا قوة إلا بالله شفاء من سبعين داء أدناها الهم والغم والحزن وفرق بين الغم والهم بأن الغم يعرض منه السهر والهم يعرض منه النوم
وفي حكمة آل داود العافية ملك خفى وهم ساعة هرم سنة وقال الأطباء الهم يوهن القلب وفيه ذهاب الحياة كما أن في الحزن ذهاب البصر وفي الحديث من كثر همه سقم بدنه فعلم أن النجوم على تسليم أنه كان يرمى بها قبل الولادة وبعدها إلى البعثة كانت قبل قرب زمن المبعث تصيب تارة ولا تصيب أخرى مع قلتها وعند البعثة تصيب ولا بد مع كثرتها وإن الكثرة هي سبب الفزع لا دوام الإصابة وإلا فمجرد دوام الإصابة لا يكون حاملا على الفزع لأنه لا يظهر لكل أحد بخلاف الكثرة ومجرد الكثرة لا يكون سببا لقطع الكهانة أو أنها قبل البعث كانت ترمى من جانب دون آخر وبعد البعثة رميت من جميع الجوانب وإليه الإشارة بقوله تعالى { ويقذفون من كل جانب دحورا } فكان ذلك سببا للفزع والمراد وجود ذلك مع دوام الإصابة ليكون سببا لقطع الكهانة وإلا فمجرد الرمى من كل جانب مع قلة الإصابة لا يكون سببا لقطع الكهانة ولما انقطعت الكهانة بعدم إخبار الجن قالت العرب هلك من في السماء فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة وصاحب الغنم ينحر كل يوم شاة حتى أسرعوا في أموالهم أي في إتلافها فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب أيها الناس أمسكوا على أموالكم فإنه لم يمت من في السماء ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي والشمس والقمر كذا في كلام بعضهم ولعله لا يخالف ما تقدم من أن أول العرب فزع للرمى بالنجوم ثقيف وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له

عمرو بن أمية ولرجل آخر يقال له عبدياليل لجواز أن يكون ما ذكر هنا صدر من بعضهم لبعض ثم اجتمعوا على عمرو وعبد ياليل والله أعلم
وظاهر القرآن والأخبار أن الذي يرمى به الشياطين المسترقون نفس النجم وإنه المعبر عنه بالكوكب وبالمصباح والشهاب وقيل الشهاب عبارة عن شعلة نار تنفصل من النجم أي كما قدمنا فأطلق عليها لفظ النجم ولفظ المصباح ولفظ الكوكب ويكون معنى { وجعلناها رجوما } جعلنا منها رجوما وهي تلك الشهب ومعنى كونها حفظا بإعتبار ما ينشأ عنها من تلك الشهب
وقالت الفلاسفة إن الشهب إنما هي أجزاء نارية تحصل في الجو عند إرتفاع الأبخرة المتصاعدة وإتصالها بالنار التي دون الفلك وقيل السحاب إذا اصطكت أجرامه تخرج نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود فقد حكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت قاله في الكشاف
ومما يؤيد أن الشعل منفصلة من النجوم ما جاء عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أن النجوم كلها كالقناديل معلقة في السماء الدنيا كتعليق القناديل بالمساجد مخلوقة من نور إنها معلقة بأيدي ملائكة ويعضد هذا القول قوله تعالى { إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت } أن انتثارها يكون بموت من كان يحملها من الملائكة وقيل إن هذا ثقب في السماء وقد وقع في سنة تسع وتسعين من القرن السادس أن النجوم ماجت وتطايرت تطاير الجراد ودام ذلك إلى الفجر وأفزع الخلق فلجئوا إلى الله تعالى بالدعاء قال بعضهم ولم يعهد ذلك إلا عند ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم
أقول قد وقع نظير ذلك في سنة إحدى وأربعين من القرن الثالث ماجت النجوم في السماء وتناثرت الكواكب كالجراد أكثر الليل كان أمرا مزعجا لم ير مثله ووقع في سنة ثلثمائة تناثر النجوم تناثرا عجيبا إلى ناحية المشرق والله أعلم
وأما ما جاء من ذكره صلى الله عليه وسلم أي ذكر اسمه وصفته أمته في الكتب القديمة أي كالتوراة المنزلة على موسى عليه الصلاة والسلام لست ليال خلون من رمضان اتفاقا والإنجيل المنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام لثنتى عشرة خلت من رمضان وقيل لثلاث عشرة وقيل لثمان عشرة والزبور المنزل على داود عليه الصلاة والسلام لثنتي عشرة وقيل لثلاث عشرة وقيل لثمان عشرة وقيل في ست خلت من رمضان

وصحف شعياء ويقال له أشعياء أو مزامير داود وصحف شيث فقد أنزلت عليه خمسون صحيفة وقيل ستون وصحف إبراهيم فقد أنزل عليه عشرون صحيفة وقيل ثلاثون أول ليلة من رمضان اتفاقا وفي كتاب شعيب ولم يذكر صحف إدريس وقد أنزلت عليه ثلاثون صحيفة
وذكر بعضهم أن موسى عليه الصلاة والسلام أنزل عليه قبل التوراة عشرون صحيفة وقيل عشر صحائف وهذا كما لا يخفى يزيد على ما اشتهر أن الكتب المنزلة مائة وأربعة كتب
وفي كلام بعضهم أتفقوا على أن القرآن أنزل لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان
وعن أبي قلابة أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان وحينئذ يكون من حكى الإتفاق في التوراة وصحف إبراهيم لم يطلع على هذا أو لم يعتد به فقد أشار إلى ذكره صلى الله عليه وسلم في جميع الكتب المنزلة الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله ** وفي كل كتب الله نعتك قد أتى ** يقص علينا ملة بعد ملة **
وهذا كما لا يخفى أبلغ من قول بعضهم ** ومن قبل مبعثه جاءت مبشرة ** به زبور وتوراة وإنجيل **
وقد اعترض على هذا القائل بعض الأغبياء بأن التوراة والإنجيل قد صحت بشارتهما به صلى الله عليه وسلم وأما الزبور فلا ندرى ولا نقول إلا ما نعلم ويرده ما ذكره الإمام السبكي وسنده قوله تعالى { وإنه لفي زبر الأولين } أي كتبهم فقد قال بعض المفسرين إن الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن الإضافة حيث لا عهد تحمل على العموم وسيأتي أيضا التصريح بوجود اسمه في الزبور وقد جاء إن اسمه في التوراة أحمد يحمده أهل السماء والأرض كما تقدم
وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } أن عبدالله بن سلام رضي الله تعالى عنه دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة إني باعث من ولد إسمعيل نبيا اسمه أحمد من آمن به فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون فأسلم سلمة وأبي مهاجر فأنزل الله الآية وفيها أيضا محمد واسمه فيها أيضا حمياطا وقيل أي يحمى الحرم من الحرام واسمه في التوراة أيضا قدمايا أي الأول السابق واسمه فيها أيضا ينديند واسمه أيضا أحيد وقيل أحيد أي يمنع نار جهنم عن أمته واسمه فيها أيضا طاب طاب أي طيب واسمه فيها ايضا كما

في الشفاء محمد حبيب الرحمن ووصف فيها بالضحوك أي طيب النفس وفيها محمد بن عبدالله ولده بمكة ومهاجرة إلى طابة وملكه بالشام والتوراة أي على فرض أن تكون اسما عربيا مأخوذة من التورية وهو كتمان السر بالتعريض لأن أكثرها معاريض من غير تصريح واسمه في الإنجيل المنحمنا والمنحمنا بالسريانية محمد
أي وما جاء عن سهل مولى خيثمة قال كنت يتيما في حجر عمي فأخذت الإنجيل فقرأته حتى مرت لي ورقة ملصقة بغراء ففتقتها فوجدت فيها وصف محمد صلى الله عليه وسلم فجاء عمي فلما رأى الورقة ضربني وقال مالك وفتح هذه الورقة وقراءتها فقلت فيها وصف النبي أحمد فقال إنه لم يأت بعد أي الآن
أي وفي الإنجيل اسمه حبنطا أي يفرق بين الحق والباطل ووصفه بأنه صاحب المدرعة وهي الدرع وفيه أيضا وصفه بأنه يركب الحمار والبعير وسيأتي أن راكب الحمار عيسى عليه الصلاة والسلام وراكب الجمل محمد صلى الله عليه وسلم وسيأتي الجواب وفي الإنجيل إن أحببتموني فاحفظوا وصيتي وأنا أطلب إلى ربي فيعطيكم بارقليط والبارقليط لا يجيئكم مالم أذهب فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة ولا يقول من تلقاء نفسه ولكنه ما يسمع يكلمهم به ويسوسهم بالحق ويخبرهم بالحوادث والغيوب أي وما جاء بذلك وأخبر بالحوادث والغيوب إلا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والبارقليط أو الفارقليط الحكيم والرسول قيل والإنجيل أي على فرض أن يكون إسما عربيا مأخوذ من النجل وهو الخروج ومن ثم سمى الولد نجلا لخروجه أو مشتق من النجل وهو الأصل يقال لعن الله أناجيله أي أصوله فسمى هذا الكتاب بهذا الإسم لأنه الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين وقيل من النجلة وهي سعة العين لأنه أنزل وسعة لهم أي لأن فيه تحليل بعض ما حرم عليهم
ومن ذلك ما جاء عن عطاء بن يسار قال لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك بالمتوكل ليس بفظ أي سيء الخلق ولا غليظ أي شديد القول ولا صخاب بالسين والصاد في الأسواق أي لا يصبح فيها وفي الحديث أشد الناس عذابا كل جعار نعار سخاب

في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء أي ملة إبراهيم التي غيرتها العرب وأخرجها عن إستقامتها بأن يقول لا إله إلا الله يفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا أي لا تفهم كأنها في غلاف قال عطاء ثم لقيت كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه فسألته فما أخطأ في حرف
أقول لكن في رواية كعب وأعطى المفاتيح ليبصرن الله به أعينا عورا وليسمع به آذانا صما ويقيم به ألسنة معوجة يعين المظلوم ويمنعه من أن يستضعف وفيها وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما
وعن بعض أحبار اليهود أنه قال على جميع ما وصف به صلى الله عليه وسلم في التوراة وقفت إلا هذين الوصفين وكنت أشتهي الوقوف عليها فجاءه شخص يطلب منه ما يستعين به وذكر له أنه لم يكن عنده ما يعينه به فقلت هذه دنانير ندفعها له وتكون على كذا من التمر ليوم كذا ففعل فجئته قبل الأجل بيومين أو ثلاثة فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ وقلت ألا تقضيني يامحمد في حقي إنكم يا بني عبدالمطلب مطل فقال لي عمر أي عدو الله تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وهم بي فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكون وتؤدة وتبسم ثم قال أنا وهو أحوج إلى غير هذا منك يا عمر أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة أي المطالبة أذهب وأوفه حقه وزده عشرين صاعا مكان مارعته أي خفته فأسلم اليهودي وذكر القصة
وفي التوراة لا يزال الملك في يهود إلى أن يجيء الذي إياه تنتظر الأمم أي لا يزال أمرهم ظاهرا إلى أن يجيء الذي تنتظره الأمم أي المرسل إليهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم لأنه المرسل لجميع الأمم
وما زعمه اليهود بأنه يوشع رد بنص التوراة في محل آخر إن الله ربكم يقيم نبيا من إخوتكم مثلي وقد قال لي إنه سوف يقيم نبيا مثلك من إخوتهم وأجعل كلمتي في فيه وأيما إنسان لم يطع كلامه أنتقم منه لأن قوله مثلي أي رسولا بكتاب مشتمل على الأحكام والشرائع وذكر المبدإ والمعاد لأن يوشع لم يكن له كتاب بل كان متابعا لسنة موسى عليه الصلاة والسلام في بني إسرائيل خاصة وأيضا يوشع منهم لا من إخوتهم فلو كان يوشع لقال منكم


وما زعمه النصارى إنه المسيح رد عليهم بنصوص الإنجيل التي منها إن الله يقيم لكم نبيا من إخوتكم لأن المسيح ليس من إخوتهم بل منهم لأنه من نسل داود ففي زبور داود سيولد ولد أدعى له أبا ويدعى لي ابنا وإخوة بني إسرائيل إنما هم أولاد إسمعيل الذي هو أخو إسحق وبنو إسرائيل منه وأيضا لو كان المسيح لم يحسن أن يخاطب بهذا اللفظ
وفي الإنجيل جاء الله من طور سينا وظهر بساعير وأعلن بفارن أي عرف الله بإرساله موسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم لأن ظهور نبوة موسى كان في طور سينا وتقدم أنه جبل بالشام قيل هو الذي بين مصر وإيليا وأنزلت التوراة عليه فيه وظهور نبوة عيسى كان في ساعير وهو جبل القدس لأن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يسكن بقرية بأرض الخليل يقال لها ناصرة وبإسمها سمى من اتبعه وأنزل عليه الإنجيل بها وظهور نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كان في فاران وهي مكة وأنزل عليه القرآن بها
وفي التوراة أن إسمعيل أقام بقرية فاران وإنما عبر في جانب موسى بالمجيء لأنه أول المشرعين لأن كتابه الذي هو التوراة أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع بخلاف ما قبله من الكتب فإنها لم تشتمل على ذلك وإنما كانت مشتملة على الإيمان بالله تعالى وتوحيده ومن ثم قيل لها صحف وإطلاق الكتب عليها مجاز ولما حصل بعيسى وبكتابه الذي هو الإنجيل نوع ظهور عبر في جانبه بالظهور الذي هو أقوى من المجيء ثم لما زاد الظهور بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم عبر عنه بالإعلان الذي هو أقوى من مجرد الظهور
وقد قيل في تفسير قوله تعالى { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } إنهم يجدون نعته { يأمرهم بالمعروف } وهو مكارم الأخلاق وصلة الأرحام { وينهاهم عن المنكر } وهو الشرك { ويحل لهم الطيبات } وهي الشحوم التي حرمت على بني إسرائيل والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام التي حرمتها الجاهلية { ويحرم عليهم الخبائث } التي كانت تستحلها الجاهلية من الميتة والدم ولحم الخنزير { ويضع عنهم إصرهم } من تحريم العمل يوم السبت وعدم قبول دية المقتول وأن يقطعوا ما أصابهم من البول والله أعلم


ومن ذلك ما جاء عن النعمان السبائي رضي الله تعالى عنه وكان من أحبار يهود باليمن قال لما سمعت بذكر النبي صلى الله عليه وسلم قدمت عليه وسألته عن أشياء ثم قلت له إن أبي كان يختم على سفر ويقول لاتقرأه على يهود حتى تسمع بنيى قد خرج بيثرب فإذا سمعت به فافتحه قال النعمان فلما سمعت بك فتحت السفر فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة وإذا فيه ما تحل وما تحرم وإذا فيه أنت خير الأنبياء وأمتك خير الأمم وإسمك أحمد صلى الله عليه وسلم وأمتك الحمادون أي يحمدون الله في السراء والضراء قربانهم دماؤهم أي يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بإراقة دمائهم في الجهاد وأناجيلهم في صدورهم أي يحفظون كتابهم لا يحضرون قتالا إلا جبريل معهم يتحنن الله عليهم كتحنن الطير على فراخه ثم قال لي يعني أباه إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به وصدقه فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع أصحابه حديثه فأتاه يوما فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يانعمان حدثنا فابتدأ النعمان الحديث من أوله فرؤى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ثم قال أشهد أني رسول الله
أقول والنعمان هذا قتله الأسود العنسي الذي ادعى النبوة وقطعه عضوا عضوا وهو يقول إن محمدا رسول الله وإنك كذاب مفتر على الله ثم حرقه بالنار أي ولم يحترق كما وقع للخيل
وقيل الذي أحرقه الأسود العنسي بالنار ولم يحترق ذؤيب بن كليب أو ابن وهب ولما بلغه صلى الله عليه وسلم ذلك قال لأصحابه فقال عمر الحمد لله الذي جعل في أمتنا مثل إبراهيم الخليل وهذا السفر يحتمل أن يكون ملخصا من التوراة وقوله إلا وجبريل معهم يدل على أن جبريل يحضر كل قتال صدر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم للكفار بل ظاهره كل قتال صدر حتى من جميع الأمة وفي رواية بعضهم نقلا عن سفر من التوراة لا يلقون أي أمته عدوا إلا وبين أيديهم ملائكة معهم رماح
وفي التوراة في صفة أمته صلى الله عليه وسلم زيادة على ما سبق يوضئون أطرافهم ويأتزرون في أوساطهم يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم
وقد جاء ائتزوا كما رأيت الملائكة أي ليلة الإسراء تأتزر أي مؤتزرة عند ربها إلى أنصاف سوقها


وقد جاء عليكم بالعمائم وأرخوها خلف ظهوركم فإنها سيما الملائكة وكلاهما أي الإتزار وأرخاء العذبة من خصائص هذه الأمة
وقد جاء إن العمائم تيجان المسلمين وفي رواية من سيما المسلمين أي علاماتهم المميزة لهم عن غيرهم
ويؤخذ من وصفهم بأنهم يوضئون أطرافهم أن الأمم السابقة كانوا لا يتوضئون ويوافقه قول الحافظ ابن حجر إن الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة ويوافقه ما رواه ابن مسعود مرفوعا يقول الله تبارك وتعالى افترضت عليهم أن يتطهروا في كل صلاة كما افترضت على الأنبياء أي أن يكونوا طاهرين أو أن هذا أي وجوب الطهر لكل صلاة كان في صدر الإسلام ولم ينسخ إلا في فتح مكة كما سيأتي
ويخالف كون الوضوء من خصائص هذه الأمة ما رواه الطبراني في الأوسط بسند فيه ابن لهيعة عن بريدة قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ واحدة واحدة فقال هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به ثم توضأ ثنتين ثنتين فقال هذا وضوء الأمم قبلكم ثم توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلى فإن هذا يفيد أن الوضوء كان للأمم السابقة لكن مرتين ولأنبيائهم كان ثلاثا وعليه فالخاص بهذه الأمة التثليث كوضوء الأنبياء أي كما اختصت هذه الأمة عمن عداها بالغرة والتحجيل
وعلى هذا يحمل قول ابن حجر الهيتمي إن الوضوء من خصائص هذه الأمة بالنسبة لبقية الأمم لا لأنبيائهم
وفي كلام ابن عبدالبر قيل إن سائر الأمم كانوا يتوضئون ولا أعرفه من وجه صحيح وفي كلام ابن حجر والذي من خصائصنا إما الكيفية المخصوصة أو الغرة والتحجيل هذا كلامه وهو يفيد أن كون الكيفية المخصوصة ومنها الترتيب من خصائصنا غير مقطوع به بل الأمر فيه على الإحتمال
ولا يخفى أن الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم هذا وضوء الأمم يدل على الترتيب فقد أستدل أئمتنا على وجوب الترتيب بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتوضأ إلا مرتبا باتفاق أصحابه ولو كان جائزا لتركه في بعض الأحايين وما اعترض به على دعوى الإتفاق

بأنه جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه وصف وضوءه صلى الله عليه وسلم فتوضأ فغسل وجهه ثم يديه ثم رجليه ثم مسح رأسه أجيب عنه بضعف هذه الرواية
وعلى تقدير صحتها يجوز أن يكون ابن عباس نسي مسح الرأس فذكره بعد غسل رجليه فمسحه ثم أعاد غسل رجليه والراوي عن ابن عباس لم يقف على إعادة ابن عباس غسل رجليه
وفي التوراة في صفة أمته صلى الله عليه وسلم دويهم في مساجدهم كدوي النحل وفي رواية أصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل رهبان بالليل ليوث بالنهار وإذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة وإن عملها كتبت له عشر حسنات وإذا هم أحدهم بسيئة فلم يعلمها لم تكتب وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأول أي وهو التوراة أو جنس الكتب السابقة والكتاب الآخر أي وهوالقرآن
وروى الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح قال الله تعالى لعيسى يا عيسى إني باعث من بعدك نبيا أمته إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا وإن أصابهم ما يكرهون صبروا وأحتسبوا ولا حلم ولا علم قال كيف يكون ذلك لهم ولاحلم ولاعلم قال أعطيهم من حلمي وعلمي وحينئذ يكون المراد ولا حلم ولا علم لهم كامل وأن الله تعالى يكمل علمهم وحلمهم من علمه وحلمه ويدل لذلك ما ذكره بعضهم أن هذه الأمة آخر الأمم فكان العلم والحلم الذي قسم بين الأمم كما شهد به حديث إن الله قسم بينكم أخلاقكم قد دق جدا فلم يدرك هذه الأمة إلا يسير من ذلك مع قصر أعمارهم فأعطاهم الله من حلمه وعلمه وجاء أنهم مسمون في التوارة صفوة الرحمن وفي الإنجيل حلماء علماء أبرار أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء
وفي الطبراني أن عمر قال لكعب الأحبار كيف تجدني يعني في التوراة قال خليفة قرن من حديد أمير شديد لا تخاف في الله لومة لائم وزاد عن جواب السؤال قوله ثم الخليفة من بعدك يقتله أمة ظالمون له ثم يقع البلاء بعد
وفي صحف شعياء اسمه صلى الله عليه وسلم ركن المتواضعين وفيها إني باعث نبيا أميا أفتح به آذنا صما وقلوبا غلفا وأعينا عميا مولده بمكة ومهاجرته بطيبة وملكه بالشام رحيما بالمؤمنين يبكى للبهيمة المثقلة ويبكى لليتيم في حجر الأرملة لو يمر إلى

جنب السراج لم يطفئه من سكينته ولو يمشي على القضيب الرعراع يعني اليابس لم يسمع من تحت قدميه إلى آخر الرواية فإن فيها طولا وقد ساقها الجلال السيوطي في الخصائص الكبرى وشعياء هذا كان بعد داود وسليمان وقبل زكريا ويحيى عليهم الصلاة والسلام
ولما نهى بني إسرائيل عن ظلمهم وعتوهم طلبوه ليقتلوه فهرب منهم فمر بشجرة فانفلقت له ودخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة ثوبه فأبرزها فلما رأوا ذلك جاءوا بالمنشار فوضعوه على الشجرة فنشروها ونشروه معها
وكان من جملة الرسل الذين عناهم الله تعالى بقوله { وقفينا من بعده } أي موسى { بالرسل } وهم سبعة وهو ثالث تلك الرسل السبعة أي وهو المبشر بعيسى وبمحمد صلى الله عليهما وسلم فقال يخاطب بيت المقدس لما شكا له الخراب وإلقاء الجيف فيه أبشر يأتيك راكب الحمار يعني عيسى وبعده راكب الجمل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وتقدم في وصفه صلى الله عليه وسلم أنه يركب الحمار والبعير
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون عيسى اختص بركوب الحمار بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كان يركبهما هذا تارة وهذا أخرى فليتأمل ومن جملتهم أرمياء قيل وهو الخضر والله أعلم
واسمه صلى الله عليه وسلم في الزبور حاط حاط والفلاح الذي يمحق الله به الباطل وفارق وفاروق أي يفرق بين الحق والباطل وهو كما تقدم معنى فارقليط أو بارقليط بالفاء في الأول والموحدة في الثاني
وقيل معناه الذي يعلم الأشياء الخفية وفي الينبوع ومن الألفاظ التي رضوها لأنفسهم يعنى النصارى وترجموها على إختيارهم أن المسيح عليه الصلاة والسلام قال إني أسأل الله أن يبعث إليكم بارقليط آخر يكون معكم إلى الأبد وهو يعلمكم كل شيء ويفسر لكم الأسرار وهو يشهد لي كما شهدت له ويكون خاتم النبيين ولم يشهد له بالبراءة والصدق في النبوة بعده إلا محمد صلى الله عليه وسلم
وقد ذكر صاحب الدر المنظم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه يا عمر أتدري من أنا أنا الذي بعثني الله في التوراة لموسى وفي الإنجيل لعيسى وفي الزبور لداود ولا فخر أي لا أقول ذلك على سبيل الإفتخار بل على

سبيل التحدث بالنعمة يا عمر أتدري من أنا أنا اسمي في التوراة أحيد وفي الإنجيل البارقليط وفي الزبور حمياطا وفي صحف إبراهيم طاب طاب ولا فخر
وذكر صاحب كتاب شفاء الصدور في مختصره أن من فضائله صلى الله عليه وسلم ما رواه مقاتل بن سليمان قال وجدت مكتوبا في زبور داود إني أنا الله لا إله إلا أنا ومحمد رسولي ووصف في مزامير داود بأنه يقوى الضعيف الذي لاناصر له ويرحم المساكين ويبارك عليه في كل وقت ويدوم ذكره إلى الأبد وبالجبار ففيها تقلد أيها الجبار سيفك
فإن قيل قال الله تعالى { وما أنت عليهم بجبار } أجيب بأن الأول هو الذي يجبر الخلق إلى الحق والثاني هو المتكبر وفيها يا دواد سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد صادقا لا أغضب عليه أبدا ولا يعصيني أبدا وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر أي على فرض وقوع ذلك الذنب والمراد به خلاف الأولى من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين أي ما يعد حسنة بالنسبة لمقام الأبرار قد يعد سيئة بالنسبة لمقام المقربين لعلو مقامهم وارتفاع شأنهم وأمته مرحومة يأتون يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء
وفي بعض مزامير داود إن الله أظهر من صهيون إكليلا محمودا وصهيون اسم مكة والإكليل الإمام الرئيس وهو محمد صلى الله عليه وسلم
وفي صحف شيث أخوناخ ومعناه صحيح الإسلام وهذا يدل على أن مزامير داود نسخة مختلفة بالزيادة والنقص
وفي صحف إبراهيم اسمه يوذموذ وقيل إن ذلك في التوراة ولا مانع من وجوده فيهما وتقدم أنه في صحف إبراهيم اسمه طاب طاب ولا مانع من وجود الوصفين في تلك الصحف
وفي كتاب شعيب عليه السلام عبدي الذي يثبت شأنه أنزل عليه وحيي فيظهر في الأمم عدلي لا يضحك أي مع رفع الصوت ومن ثم قال ولا يسمع صوته في الأصوات لأن ضحكه كان ابتسم يفتح العيون العور والآذان الصم ويحيى القلوب الغلف وما لا أعطيه أحدا وفيه أيضا مشقح بالشين المعجمة والقاف والحاء المهملة أي زاهي يحمدالله حمدا جديدا أي مخترعا لم يسبقه إليه أحد يأتي من أقصى

الأرض لعل المراد به مكة به تفرح البرية وسكانها وهو ركن المتواضعين وهو نور الله الذي لا يطفأ سلطانه على كتفه وذكر البرية وسكانها إشارة لدولة العرب والمراد بسلطانه على كتفه خاتم النبوة لأنه علامة وبرهان على نبوته
أي وذكر ابن ظفر أن في بعض كتب الله المنزلة إني باعث رسولا من الأميين أسدده بكل جميل وأهب له كل خلق كريم وأجعل الحكمة منطقه والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والحق شريعته والعدل سيرته والإسلام ملته أرفع به من الوضيعة وأهدى به من الضلالة وأؤلف به بين قلوب متفرقة وأهواء مختلفة وأجعل أمته خير الأمم
وأما ما جاء مما يدل على وجوه اسمه الشريف أعنى لفظ محمد مكتوبا في الأحجار والنبات والحيوان وغير ذلك بقلم القدرة فكثير
من ذلك ما جاء عن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نقش خاتم سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله قال المراد فص خاتمه
فعن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه مرفوعا إن فص خاتم سليمان بن داوود كان سماويا أي من السماء ألقى إليه فوضعه في خاتمه أي وكان به انتظام ملكه وكان نقشه أنا الله لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي وحينئذ يكون ما تقدم عن حابر وما يأتي يجوز أن يكون روى بالمعنى وكان ينزعه إذا دخل الخلاء وإذا جامع وكان عند نزعه يتنكر عليه أمر الناس ولم يجد من نفسه ما كان يجده قبل نزعه
وفي أنس الجليل كان نقش خاتم سليمان لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد عبده ورسوله ووجد على بعض الحجارة القديمة مكتوب محمد تقي مصلح وسيد أمين وفي جامع مدينة قرطبة بالمغرب عمود أحمر مكتوب فيه بقلم القدرة محمد
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اقترف آدم الخطيئة قال يارب أسألك بحق محمد صلى الله عليه وسلم إلا غفرت لي قال وكيف عرفت محمدا وفي لفظ كما في الوفاء وما محمد ومن محمد قال لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق

إليك قال صدقت يا آدم ولولا محمد لما خلقتك أي وفي لفظ كما في الشفاء قال آدم لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت اسمه مع أسمك فأوحى الله تعالى إليه وعزتي وجلالي إنه لآخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك
وفي الوفاء عن ميسرة قلت يا رسول الله متى كنت نبيا قال لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وخلق العرش كتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء وكتب اسمي أي موصوفا بالنبوة أو بما هو أخص منها وهو الرسالة على ما هو المشهور على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد أي قبل أن تدخل الروح جسده فلما أحياه الله نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله تعالى أنه سيد ولدك فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا بإسمي إليه أي فقد وصف صلى الله عليه وسلم بالنبوة قبل وجود آدم
وفي أيضا عن سعيد بن جبير اختصم ولد آدم أي الخلق أكرم على الله تعالى فقال بعضهم آدم خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته وقال آخرون بل الملائكة لأنهم لم يعصوا الله عز وجل فذكروا ذلك ذلك لآدم فقال لما نفخ في الروح لم تبلغ قدمي حتى استويت جالسا فبرق لي العرش فنظرت فيه محمد رسول الله فذاك أكرم الخلق على الله عز وجل قيل وكان يكنى آدم بأبي محمد وبأبي البشر وظاهره أنه كان يكنى بذلك في الدنيا وتقدم أنه يكنى بأبي محمد في الجنة
ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب أيضا رضي الله تعالى عنه قال لكعب الأحبار رضي الله تعالى عنه أخبرنا عن فضائل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مولده قال نعم يا أمير المؤمنين قرأت أن إبراهيم الخليل وجد حجرا مكتوبا عليه أربعة أسطر الأول أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني والثاني أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسولي طوبى لمن آمن به واتبعه والثالث أنا الله لا إله إلا أنا الحرم لي والكعبة بيتي من دخل بيتي أمن من عذابي ولينظر الرابع
أي وذكر بعضهم أن في سنة أربع وخمسين وأربعمائة عصفت ريح شديدة بخراسان كريح عاد انقلب منها الجبال وفرت منها الوحوش فظن الناس أن القيامة قد قامت وابتهلوا إلى الله تعالى فنظروا فإذا نور عظيم قد نزل من السماء على جبل من تلك الجبال

ثم تأملوا الوحوش فإذا هي منصرفة إلى ذلك الجبل الذي سقط فيه ذلك النور فساروا معها إليه فوجدوا به صخرة طولها ذراع في عرض ثلاثة أصابع وفيها ثلاثة أسطر سطر فيه لا إله إلا أنا فاعبدون وسطر فيه محمد رسول الله القرشي وسطر ثالث فيه احذروا وقعة المغرب فإنها تكون من سبعة أو تسعة والقيامة قد أزفت أي قربت
وجاء أن آدم عليه الصلاة والسلام قال طفت السموات فلم أر في السموات موضعا إلا رأيت اسم محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبا عليه ولم أر في الجنة قصرا ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوب عليه ولقد رأيت اسمه صلى الله عليه وسلم على نحور الحور العين وورق آجام الجنة وشجرة طوبي وسدرة المنهى والحجب وبين أعين الملائكة وهذا الحديث قد حكم بعض الحفاظ بوضعه
أي وقد قيل إن أول شيء كتب القلم في اللوح المحفوظ بسم الله الرحمن الرحيم إني أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسولي من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر على نعمائي ورضي بحكمي كتبته صديقا وبعثته يوم القيامة من الصديقين وفي روية مكتوب في صدر اللوح المحفوظ لا إله إلا الله دينه الإسلام محمد عبده ورسوله فمن آمن بهذا أدخله الله الجنة
وفي رواية لما أمر الله القلم أن يكتب ما كان وما يكون كتب على سرادق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله يتأمل هذا فإنه إن كان المراد كما هو المتبادر أن القلم لما أمر أن يكتب ما ذكر كان أول شيء كتبه على سرادق العرش ما ذكر ثم تمم كتابة ما أمر به على ذلك كما كتب أول ما ذكر البسملة في اللوح المحفوظ ثم تمم كتابة ما أمر به يلزم أن يكون القلم كتب ما كان وما يكون في اللوح وعلى سرادق العرش
ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب أيضا رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إن آدم عليه الصلاة والسلام قال وجدت اسم محمد صلى الله عليه وسلم على ورق شجرة طوبى وعلى ورق سدرة المنتهى أي وعلى ورق قصب آجام الجنة ومن ثم قال السيوطي في الخصائص الكبرى من خصائصه صلى الله عليه وسلم كتابة اسمه الشريف مع اسم الله تعالى على العرش وفيها ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن ومكتوب اسمه صلى الله عليه وسلم على سائر ما في الملكوت أي من السموات والجنان وما فيهن


وفي الخصائص الصغرى له أيضا ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم كتابة اسمه الشريف على العرش وكل سماء والجنان وما فيها وسائر ما في الملكوت
أقول ولا يخالف هذا أي ما تقدم عن آدم ما جاء على تقدير صحته أن آدم لما نزل إلى الأرض استوحش فنزل جبريل عليه السلام فنادى بالأذان الله أكبر الله أكبر مرتين أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين قال آدم من محمد قال جبريل هو أخر ولدك من الأنبياء لجواز أن يكون آدم عليه السلام أراد أن يستثبت هل هو محمد الذي رأى اسمه مكتوبا وأخبر بأنه آخر الأنبياء من ذريته وأنه لولا ما خلقه واستشفع به أو غيره فليتأمل وإنما قلنا على تقدير صحته لأنه سيأتي في بدء الأذان أن في سند هذا الحديث مجاهيل
وذكر صاحب كتاب شفاء الصدور في مختصره عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال يا محمد وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت أرضي ولا سمائي ولا رفعت هذه الخضراء لا بسطت هذه الغبراء وفي رواية عنه ولا خلقت سماء ولا أرضا ولا طولا ولا عرضا
وبهذا يرد على من رد على القائل في مدحه صلى الله عليه وسلم ** لولاه ما كان لا فلك ولا فلك ** كلا ولا بان تحريم وتحليل **
بأن قوله لولاه ما كان لافلك ولا فلك مثل هذا يحتاج إلى دليل ولم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يدل على ذلك فيقال له بل جاء في السنة ما يدل على ذلك والله أعلم
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال غزونا الهند فوقعت في غيضة فإذا فيها شجر عليه ورق أحمر مكتوب عليه بالبياض لا إله إلا الله محمد رسول الله
وعن بعضهم رأيت في جزيرة شجرة عظيمة لها ورق كبير طيب الرائحة مكتوب عليه بالحمرة والبياض في الخضرة كتابة بينة واضحة خلقة ابتدعها الله تعالى بقدرته في الورقة ثلاثة أسطر الأول لا إله إلا الله والثاني محمد رسول الله والثالث إن الدين عند الله الإسلام
وعن بعض آخر قال دخلت بلاد الهند فرأيت في بعض قراها شجر ورد أسود ينفتح عن وردة كبيرة سوداء طيبة الرائحة مكتوب عليها بخط أبيض لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق عمر الفاروق فشككت في ذلك وقلت إنه معمول فعمدت إلى وردة

كبيرة لم تفتح فرأيت فيها كما رأيت في سائر الورق وفي البلد منها شيء كثير وأهل تلك البلد يعبدون الحجارة
ونقل ابن مرزوق في شرح البردة عن بعضهم قال عصفت بنا ريح ونحن في لجج بحر الهند فأرسينا في جزيرة فرأينا فيها وردا أحمر ذكي الرائحة مكتوب عليه بالأصفر براءة من الرحمن الرحيم إلى جنات النعيم لا إله إلا الله محمد رسول الله
أي ومن ذلك ما حكاه بعضهم قال رأيت في بلاد الهند شجرة تحمل ثمرا يشبه اللوز له قشران فإذا كسر خرج منه ورقة خضراء مطوية مكتوب عليها بالحمرة لا إله إلا الله محمد وسول الله كتابة جلية وهم يتبركون بتلك الشجرة ويستسقون بها إذا منعوا الغيث هذا وفي مزيل الخفاء الإقتصار على لا إله إلا الله أي وحينئذ لا يكون شاهدا على ما ذكرنا
أي ومن ذلك ما حكاه الحافظ السلفي عن بعضهم أن شجرة ببعض البلاد لها أوراق خضر وعلى كل ورقة مكتوب بخط أشد خضرة من لون الورق لا إله إلا الله محمد رسول الله وكان أهل تلك البلاد أهل أوثان وكانوا يقطعونها ويبقون أثرها فترجع إلى ما كانت عليه في أقرب وقت فأذابوا الرصاص وجعلوه في أصلها فخرج من حول الرصاص أربع فروع على كل فرع لا إله إلا الله محمد رسول اله فصاروا يتبركون ويستشفون بها من المرض إذا اشتد ويخلقونها بالزعفران وأجل الطيب
ومن ذلك أنه وجد في سنة سبع أو تسع وثمانمائة حبة عنب فيها بخط بارع بلون أسود محمد ومن ذلك ما ذكره بعضهم أنه اصطاد سمكة مكتوب على جنبها الأيمن لا إله إلا الله وعلى جنبها الأيسر محمد رسول الله قال فلما رأيتها ألقيتها في النهر إحتراما لها
وعن بعض آخر قال ركبت بحر الغرب ومعنا غلام معه سنارة فأدلاها في البحر فاصطاد سمكة قدر شبر بيضاء فنظرنا فإذا مكتوب بالأسود على أذنها الواحد لا إله إلا الله وفي قفاها وخلف أذنها الأخرى محمد رسول الله فقذفناها
وعن بعضهم أنه ظهرت له سمكة بيضاء وإذا على قفاها مكتوب بالأسود لا إله إلا الله محمد رسول الله
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا بطائر في فمه لوزة خضراء فألقاها فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فيها دودة

خضراء مكتوب عليها بالأصفر لا إله إلا الله محمد رسول الله ومن ذلك ما حكاه بعضهم أنه كان بطبرستان قوم يقولون لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا يقرون لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة وحصل منهم افتتان ففي يوم شديد الحر ظهرت سحابة شديدة البياض فلم تزل تنشأ حتى أخذت ما بين الخافقين وأحالت بين السماء والبلد فلما كان وقت الزوال ظهر في السحابة بخط واضح لا إله إلا الله محمد وسول الله فلم تزل كذلك إلى وقت العصر فتاب كل من كان افتتن وأسلم أكثر من كان بالبلد من اليهود والنصارى
ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال بلغني في قول الله تعالى { وكان تحته كنز لهما } قال كان ولوحا من ذهب وقيل لوح من رخام مكتوب فيه عجبا لمن أيقن بالموت أي بأنه يموت كيف يفرح عجبا لمن أيقن بالحساب اي أنه يحاسب كيف يغفل عجبا لمن أيقن بالقضاء أي أن الأمور بالقضاء والقدر كيف يحزن عجبا لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله
وروى البيهقي وغيره عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن الكنز الذي ذكره الله تعالى في كتابة لوح من ذهب فيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن أيقن بالقدر ثم ينصب أي يتعب عجبت لمن ذكر النار ثم يضحك عجبت لمن ذكر الموت ثم غفل لا إله إلا الله محمد رسول الله وفي لفظ لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي
وفي تفسير القاضي البيضاوي عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن بالرزق أي أن الله رازقه كيف ينصب أي يتعب وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله
أقول قد يقال يجوز أن يكون ما ذكر أولا في أحد وجهي ذلك اللوح وما ذكر ثانيا في الوجة الثاني أو أن بعض الرواة زاد وبعضهم نقص وبعضهم روى بالمعنى وحفظ ذلك الكنز لأجل صلاح أبيهما وكان تاسع أب لهما
وقد قال محمد بن المنكدر إن الله يحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وبقعته التي هو فيها والدويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله وستره
ويذكر أن بعض العلوية هم هرون الرشيد بقتله فلما دخل عليه أكرمه وخلى سبيله


فقيل له بماذا دعوت حتى نجاك الله فقال قلت يا من حفظ الكنز على الصبيين لصلاح أبيهما احفظني منه لصلاح آبائي كذا في العرائس والله أعلم
ومن ذلك ما جاء عن جابر رضي الله تعالى عنه قال مكتوب بين كتفي آدم محمد رسول الله خاتم النبيين
أي وذكر بعضهم أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولودا على أحد جنبيه مكتوب لا إله إلا الله وعلى الآخر محمد رسول الله أي ومن ذلك ما حكاه بعضهم قال ولد عندي في عام أربعة وسبعين وستمائة جدى أسود غرته بيضاء على شكل الدائرة وفيها مكتوب محمد بخط في غاية الحسن والبيان
وما حكاه بعضهم قال شاهدت ببلدة من بلاد إفريقية بالمغرب رجلا ببياض عينه اليمنى من أسفل مكتوب بعرق أحمر كتابة مليحة محمد رسول الله
وذكر الشيخ عبدالوهاب الشعراني نفعنا الله تعالى ببركته في كتابه لواقح الأنوار القدسية في قواعد السادة الصوفية وفي يوم كتابتي لهذا الموضع رأيت علما من أعلام النبوة وذلك أن شخصا أتاني برأس خروف شواها وأكلها وأراني فيها مكتوبا بخط إلهي على الجبين لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق يهدى به من يشاء يهدي به من يشاء قال الشيخ عبدالوهاب وتكرير ذلك لحكمة فإن الله لا يسهو هذا كلامه وقد يقال لعل الحكمة التأكيد لعلو مقام الهداية كيف وهو المجانب لمقام الضلالة والغواية
وعن الزهري قال شخصت إلى هشام بن عبدالملك فلما كنت بالبلقاء رأيت حجرا مكتوبا عليه بالعبرانية فأرشدت إلى شيخ يقرؤه فلما قرأه ضحك وقال أمر عجيب مكتوب عليه باسمك اللهم جاء الحق من ربك بلسان عربي مبين لا إله إلا الله محمد رسول الله وكتبه موسى بن عمران

& باب سلام الحجر والشجر عليه صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه
عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم على قبلي أن أبعث إني لأعرفه الآن قال جاء في بعض الروايات أن هذا الحجر هو الحجر الأسود أي وقيل غيره وأنه هو الذي في زقاق بمكة يعرف بزقاق الحجر أي ولعله غير الحجر الذي به أثر المرفق ذكر أنه صلى الله عليه وسلم اتكأ عليه بمرفقه وهوالذي يقال له زقاق المرفق وغير الحجر الذي به أثر الأصابع
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله تعالى كرامته بالنبوة كان إذا خرج لحاجة أي لحاجة الإنسان أبعد حتى لا يرى ببناء ويفضى إلى الشعاب وبطون الأودية فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال الصلاة والسلام عليك يا رسول الله وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا هو إلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله ** لم يبق من حجر صلب ولا شجر ** إلا وسلم بل هناه ما وهبا **
وإلى ذلك يشير أيضا صاحب الهمزية بقوله ** والجمادات أفصحت بالذي أخ ** رس عنه لأحمد الفصحاء **
أي والجمادات التي لا روح فيها نطقت بكلام فصيح لا تلعثم فيه أي بالشهادة له صلى الله عليه وسلم بالرسالة ولم تنطق به أهل الفصاحة والبلاغة وهم الكفار من قريش وغيرهم
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله
أقول وإلى تسليم الحجر قبل البعثة يشير الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله ** وما جزت بالأحجار إلا وسلمت ** عليك بنطق شاهد قبل بعثة **


وأما حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أوحى إلى جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله وما ذكره بعضهم أن الجن قالوا له صلى الله عليه وسلم بمكة من يشهد أنك رسول الله قال تلك الشجرة ثم قال لها من أنا فقالت رسول الله فليس من المترجم له
وفي الخصائص الصغرى وخص بتسليم الحجر وبكلام الشجر وبشهادتهما له بالنبوة وإجابتهما دعوته
وفي كلام السهيلي يحتمل أن يكون نطق الحجر والشجر كلاما مقرونا بحياة وعلم ويحتمل أن يكون صوتا مجردا غير مقترن بحياة وعلم وعلى كل هو علم من أعلام النبوة
وفي كلام الشيخ محيى الدين ابن العربي أكثر العقلاء بل كلهم يقولون عن الجمادات لا تعقل فوقفوا عند بصرهم والأمر عندنا ليس كذلك فإذا جاءهم عن نبي أو ولي أن حجرا كلمه مثلا يقولون خلق الله فيه العلم والحياة في ذلك الوقت والأمر عندنا ليس كذلك بل سر الحياة سار في جميع العالم
وقد ورد أن كل شيء سمع صوت المؤذن من رطب ويابس يشهد له ولا يشهد إلا من علم وأطال في ذلك وقال قد أخذ الله بأبصار الإنس والجن عن إدراك حياة الجماد إلا من شاء الله كنحن وأضرابنا فإنا لا نحتاج إلى دليل في ذلك لكون الحق تعالى قد كشف لنا عن حياتها عينا وأسمعنا تسبيحها ونطقها وكذلك إندكاك الجبل لما وقع التجلي إنما كان ذلك منه لمعرفته بعظمة الله عز وجل ولولا ما عنده من العظمة لما تدكدك والله أعلم & باب بيان حين المبعث وعموم بعثته صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله رحمه للعالمين وكافة للناس أجمعين وكان الله قد أخذ له الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به والتصديق له والنصر على من خالفه وأن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم أي فهم وأممهم من جملة أمته صلى الله عليه وسلم كما سيأتي عن السبكى


فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على رأس الأربعين قال وهذا هو المشهور بين الجمهور من أهل السير والعلم بالأثر وقيل بزيادة يوم وقيل بزيادة عشرة أيام وقيل بزيادة شهرين وقيل بزيادة سنتين وهو شاذ وأكثر منه شذوذا ما قيل إنه بزيادة ثلاث سنين وما قيل إنه بزيادة خمس سنين قال بعضهم والأربعون هي سن الكمال ونهاية بعث الرسل أي لا يرسلون دونها ومن ثم قال في الكشاف ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة هذا كلام الكشاف وأما ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث أو أربع وثلاثين سنة أي ومعلوم أنه دعا إلى الله قبل ذلك فهو قول شاذ حكاه وهب بن منبه عن النصارى أ هـأي وعليه جرى غير واحد من المفسرين بل قال في ينبوع الحياة لم يبلغني أن أحدا من المفسرين ذكر في مبلغ سنه إذ رفع أكثر من ثلاث وثلاثين سنة هذا كلامه
وفي الهدى وأما ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنه فهذا لا يعرف به أثر متصل يجب المصير إليه هذا كلامه ويوافق ما تقدم عن المفسرين وما في العرائس ولما تمت له يعنى عيسى عليه الصلاة والسلام ثلاثون سنة أوحى الله تعالى إليه أن يبرز لناس ويدعوهم ويضرب الأمثال لهم ويداوي المرضى والزمني والعميان والمجانين ويقمع الشياطين ويذلهم ويدحرهم ففعل ما أمر به وأظهر المعجزات فأحيا ميتا يقال له عازر بعد ثلاثة ايام من موته
وعبارة الجلال المحلي في قطعة التفسير أحيا عيسى عليه الصلاة والسلام أربعة عازر صديقا له وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح هذا كلامه وذكر البغوي قصة كل واحد فراجعه وكان عيسى عليه الصلاة والسلام يمشى على الماء ومكث في الرسالة ثلاث سنوات ثم رفع ويوافق ذلك أيضا قول ابن الجوزى وأما حديث وما من نبي إلا نبي بعد الأربعين فموضوع لأن عيسى عليه الصلاة والسلام نبئ ورفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة أي نبيء وهو ابن ثلاثين سنة ورفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة بل قيل نبىء وهو طفل فاشتراط الأربعين في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس بشيء هذا كلامة أي وفيه أن هذا بمجرده لا يدل على وضع الحديث ويوافقه أيضا قول القاضي البيضاوي ونبىء نوح وهو ابن خمسين سنة وقيل

أربعين ويوافقه أيضا قول بعضهم ومما يدل على أن بلوغ الأربعين ليس شرطا للنبوة وقصة سيدنا يحيى صلوات الله وسلامه عليه بناء على أن الحكم في قوله تعالى { وآتيناه الحكم صبيا } النبوة لا الحكمة وفهم التوراة كما قيل بذلك بل أحكم إليه عقله في صباه واستنبأه قيل كان ابن سنتين أو ثلاث
ولما ولى الخلافة المقتدر وهو غير بالغ صنف الإمام الصولي له كتابا فيمن ولى الأمر وهو غير بالغ واستدل على جواز ذلك بأن الله بعث يحيى بن زكريا نبيا وهو غير بالغ وذكر فيه كل من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم من الصبيان قال بعضهم وهو كتاب حسن فيه فوائد كثيرة
وكان ذبح يحيى قبل رفع عيسى عليهما الصلاة والسلام بسنة ونصف سنة
ومما يدل على ما تقدم عن الهدى أي من إنكار أن عيسى عليه الصلاة والسلام رفع وله ثلاث وثلاثون سنة قوله بعضهم الأحاديث الصحيحة تدل على أنه إنما رفع وهو ابن مائة وعشرين سنة من تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته لإبنته فاطمة رضي الله تعالى عنها أخبرني جبريل أنه لم يكن نبي إلا عاش نصف عمر الذل كان قبله وأخبرني أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة ولا أراني إلا ذاهبا على رأس الستين وفي الجامع الصغير ما بعث الله نبيا إلا عاش نصف ما عاش الذي قبله وعلى كون كل نبي عاش نصف ما عاش النبي الذي قبله يشكل أن نوحا كان أطول الأنيباء عمرا ومن ثم قيل له كبير الأنبياء وشيخ المرسلين وهو أول من تنشق عنه الأرض بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ثم رأيت أن الحافظ الهيتمي ضعف حديث ما بعث الله نبيا إلا عاش نصف ما عاش النبي الذي قبله وقال العماد بن كثير إنه غريب جدا وعن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك قام من الليل يصلى فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه أي ينتظرون فراغه من الصلاة لأن نزول { والله يعصمك من الناس } كان قبل هذا حتى إذا صلى وانصرف إليهم قال لهم لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي زاد في رواية لا أقولهن فخرا أما أولاهن فأرسلت إلى الناس كلهم عامة أي من في زمنه وغيرهم ممن تقدم أو تأخر أي وللشجر والحجر إلى آخر ما يأتي وكان من قبلي وفي لفظ وكان كل نبي إنما يرسل إلى قومه أي جميع أهل زمنه أو جماعة منهم خاصة ومن الأول نوح فإنه كان مرسلا لجميع من

كان في زمنه من أهل الأرض ولما أخبر بأنه لا يؤمن منهم إلا من آمن معه وهم أهل السفينة وكانوا ثمانين أربعين رجلا وأربعين امرأة
وفي عوارف المعارف أصحاب السفينة كانوا أربعمائة وقد يقال من الآدميين وغيرهم فلا مخالفة دعا على من عدا من ذكر بإستئصال العذاب لهم فكان الطوفان الذي كان به هلاك جميع أهل الأرض إلا من آمن ولو لم يكن مرسلا إليهم ما دعا عليهم بسبب مخالفتهم له في عبادة الأصنام لقوله تعالى { وما كنا معذبين } أي حتى في الدنيا { حتى نبعث رسولا }
وقد ثبت أن نوحا أول الرسل أي لمن يعبد الأصنام لأن عبادة الأصنام أول ما حدثت في قومه وأرسله الله إليهم ينهاهم عن ذلك وحينئذ لا يخالف كون أول الرسل آدم وأرسله الله تعالى إلى أولاده بالإيمان بالله تعالى وتعليم شرائعه وذكر بعضهم أنه كان مرسلا لزوجته حواء في الجنة لأن الله تعالى أمره أن يأمرها وينهاها في ضمن أخباره بأمره ونهيه بقوله تعالى { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة } وذلك عين الإرسال كما ادعاه بعضهم
فعلم أن عموم رسالة نوح عليه الصلاة والسلام لجيمع أهل الأرض في زمنه لا يساوي عموم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم لما علمت أن رسالته عامة حتى لمن يوجد بعد زمنه وحينئذ يسقط السؤال وهو لم يبق بعد الطوفان إلا مؤمن فصارت رسالة نوح عليه الصلاة والسلام عامة ويسقط جواب الحافظ ابن حجر عنه بأن هذا العموم الذي حصل بعد الطوفان لم يكن من أصل بعثته بل طرأ بعد الطوفان بخلاف رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قيل كان بين الدعوة والطوفان مائة عام وقد حققنا فيما سبق أن آدم ومن بعده دعا إلى الإيمان بالله تعالى وعدم الإشراك به إلا أن الإشراك به وعبادة الأصنام اتفق أنه لم يقع إلا زمن نوح ومن بعده
وأما قول اليهود أو بعضهم وهم العيسوية طائفة من اليهود أتباع عيسى الأصفهاني إنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث للعرب خاصة دون بني إسرائيل وإنه صادق ففاسد لأنهم إذا سلموا أنه رسول الله وأنه صادق لا يكذب لزمهم التناقض لأنه ثبت بالتواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله لكل الناس
أقول قال بعضهم ولا ينافيه قوله تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه }

لأنه لا يدل على اقتصار رسالته عليهم بل على كونه متكلما بلغتهم ليفهموا عنه أولا ثم يبلغ الشاهد الغائب ويحصل الإفهام لغير أهل تلك اللغة من الأعاجم بالتراجم الذين أرسل إليهم فهو صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الكافة وإن كان هو وكتابه عربيين كما كان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام مبعوثين لبني إسرائيل بكتابيهما العبراني أي وهو التوراة والسرياني وهو الإنجيل مع أن من جملتهم جماعة لا يفهمون بالعبرانية ولا بالسريانية كالأروام فإن لغتهم اليونانية والله أعلم
وأشار إلى الثانية من الخمس بقوله ونصرت بالرعب على العدو ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر أي أمامه وخلفه بملأ مني رعبا أي يقذف الرعب في قلوب أعدائه صلى الله عليه وسلم وجعل الغاية شهرا لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أي المحاربين له أكثر من شهر
أي وجاء أن سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام ذهب هو وجنده من الإنس والجن وغيرهما إلى الحرم وكان يذبح كل يوم خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة لأن مساحة جنده كانت مائة فرسخ قال لمن حضر من أشراف جنده هذا مكان يخرج منه نبي عربي يعطى النصر على جميع من ناوأه وتبلغ هيبته مسيرة شهر القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم ثم قالوا فبأي دين يا نبي الله يدين قال بدين الحنيفية فطوبى لمن آمن به قالوا كم بين خروجه وزماننا قال مقدار ألف عام
وأشار إلى الثالثة بقوله وأحلت لي الغنائم كلها وكان من قبلي أي من أمر الجهاد منهم يعطونها ويحرمونها أي لأنهم كانوا يجمعونها أي والمراد ما عدا الحيوانات من الأمتعة والأطعمة والأموال فإن الحيوانات تكون ملكا للغانمين دون الأنبياء ولا يجوز للإنبياء أخذ شيء من ذلك بسبب الغنيمة كذا في الوفاء وجاء في بعض الروايات وأطعمت أمتك الفىء ولم أحله لأمة قبلها أي والمراد بالفيء ما يعم الغنيمة كما أنه قد يراد بالغنيمة ما يعم الفيء هذا وفي بعض الروايات وكانت الأنبياء يعزلون الخمس فتجىء النار أي نار بيضاء مع السماء فتأكله أي حيث لا غلول وأمرت أن أقسمه في فقراء أمتي وفي تكملة تفسير الجلال السيوطي لتفسير الجلال المحلي أن ذلك لم يعهد في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام ولعله لم يكن ممن أمر بالجهاد فلا يخالف ما سبق


وأشار إلى الرابعة بقوله وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت أي تيممت حيث لا ماء وصليت فلا يختص السجود منها بموضع دون غيره وكان من قبلي لا يعطون ذلك أي الصلاة في أي محل أدركتهم فيه إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم أي ولم يكن أحد منهم يتيمم لأن التيمم من خصائصنا وفي رواية جابر ولم يكن أحد من الأنبياء يصلى حتى يبلغ محرابه
وجاء في تفسير قوله تعالى { واختار موسى قومه } الآيات من المأثور أن الله تعالى قال لموسى أجعل لكم الأرض مسجدا فقال لهم موسى إن الله قد جعل لكم الأرض مسجدا قالوا لا نريد أن نصلى إلا في كنائسنا فعند ذلك قال الله تعالى { فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } إلى قوله { المفلحون } أي وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وفيه أنه قيل إن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يسيح في الأرض يصلى حيث أدركته الصلاة ويحتاج إلى الجمع بين هذا وبين ما تقدم من قوله لم يكن أحد من الأنبياء يصلى حتى يبلغ محرابه إلا أن يقال لا يصلى مع أمته إلا في محرابه
وأما عيسى عليه الصلاة والسلام فخص بأنه كان يصلى حيث أدركته الصلاة وسيأتي في الخصائص الكلام على ذلك
وأشار إلى الخامسة بقوله قيل لي سل فإن كل نبي قد سأل فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله وهي لإخراج من في قلبه ذرة من الإيمان ليس له عمل صالح إلا التوحيد أي إخراج من ذكر من النار لأن شفاعة غيره صلى الله عليه وسلم تقع فيمن في قلبه أكثر من ذلك قاله القاضي عياض
أي وقد جاء في بيان من يشفع بإذن الله له في الشفاعة فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع وفي رواية ثم تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون والمؤمنون فيشفعهم الله عز وجل وقد جاء إن أول شافع جبريل ثم إبراهيم ثم موسى ثم يقوم نبيكم رابعا لا يقوم بعد أحد فيما يشفع فيه
وفي الحديث آتى تحت العرش فأخر ساجدا فيقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول يا رب أمتي يا رب أمتى فيقال انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من بر أو شعير من إيمان وفي لفظ حبة من خردل وفي لفظ أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل فأخرجه أي من النار فانطلق فأفعل أي أخرجه من النار وأدخله الجنة


وله صلى الله عليه وسلم شفاعة قبل هذه في إدخال أهل الجنة الجنة بعد مجاوزة الصراط ففي الحديث فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت ساجدا فيأذن الله لي في حمده وتمجيده ثم يقول ارفع رأسك يا محمد واشفع تشفع واسأل تعطه فأقول يا رب شفعني في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة فيأذن الله تعالى في الشفاعة إلى آخر ما تقدم
ومن هذا يعلم أن الشفاعة في الإخراج من النار إنما تكون منه صلى الله عليه وسلم وهو في الجنة فما تقدم من قوله آتى تحت العرش فأخر ساجدا إلى آخره إنما ذلك في الشفاعة في فصل القضاء فهذا خلط من بعض الرواه أي خلط الشفاعة في الموقف التي هي الشفاعة في فصل القضاء بالشفاعة بعد مجاوزة الصراط في دخول أهل الجنة الجنة وبالشفاعة بعد دخول الجنة في إخراج أهل التوحيد من النار والشفاعة في فصل القضاء هي المشار إليها في قوله صلى الله عليه وسلم وأعطيت الشفاعة فقد قال ابن دقيق العيد الأقرب أن اللام فيها للعهد والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف أي وهذا هو المقام المحمود الذي يحمده ويغبطه فيه الأولون والآخرون المعنى بقوله تعالى { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا }
وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه تجمع الناس في صعيد واحد فأول مدعو محمد صلى الله عليه وسلم فيقول لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك ولك وإليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت
وقد هاجب فتنة كبيرة ببغداد بسبب هذه الآية أعنى { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } فقالت الحنابلة معناه أن يجلسه الله تعالى على عرشه وقال غيرهم بل هي الشفاعة العظمى في فصل القضاء فدام الخصام إلى أن اقتتلوا فقتل كثيرون
وهذه الشفاعة إحدى الشفاعات الثلاث المعنية بقوله صلى الله عليه وسلم لي عند ربي ثلاث شفاعات وعدنيهن
وفي كلام بعضهم له صلى الله عليه وسلم تسع شفاعات أخر غير فصل القضاء جرى في إختصاصه ببعضها خلاف وهي الشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب ولا عقاب قال النووي وجماعة هي مختصة به صلى الله عليه وسلم والشفاعة في أناس استحقوا دخول النار فلا يدخلونها قال القاضي عياض وغيره ويشترك فيها من يشاء

الله تعالى والشفاعة في أخراج من أدخل النار من الموحدين وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان وهي مختصة به صلى الله عليه وسلم والشفاعة في إخراج من أدخل منهم النار وفي قلبه أزيد من ذرة من إيمان ويشاركه فيها الأنبياء والملائكة والمؤمنون وظاهر هذا السياق أن المراد بمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلى آخره عام في أمته وغيرهم من الأمم وهو يخالف قول بعضهم جاء في الصحيح فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله أي ومات على ذلك قال ليس ذلك لك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله
ولا يشكل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي وفي رواية ثلثي أمتي الجنة أي بلا حساب ولا عذاب وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا فاخترت الشفاعة وعلمت أنها أوسع لهم
لأنا نقول المراد بالذين تنالهم شفاعته صلى الله عليه وسلم ممن مات لا يشرك بالله شيئا خصوص أمته وأما من قيل له فيه ليس ذلك لك فهم الموحدون من الأمم السابقة فليتأمل مع ما سبق من شفاعة الأنبياء والملائكة والمؤمنين والشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وجوز النووي إختصاصها به صلى الله عليه وسلم والشفاعة في تخفيف العذاب عن بعض الكفار كأبي طالب وأبي لهب في كل إثنين بالنسبة لأبي لهب والشفاعة لمن مات بالمدينة الشريفة ولعل المراد أنه لا يحاسب
قد أوصل ابن القيم شفاعاته صلى الله عليه وسلم إلى أكثر من عشرين شفاعة وفي رواية أعطيت مالم يعطه أحد من الأنبياء نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض أي وفي لفظ وبينا أنا نائم رأيتني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت بين يدي ولا منافاة لأنه يجوز أنه أعطى ذلك يقظة بعد أن أعطيه مناما وسميت أحمد أي ومحمدا أي لأن أحد من الأنبياء لم يسم بذلك فهو من خصائصه صلى الله عليه وسلم بالنسبة للأنبياء كذا في الخصائص الصغرى وتقدم أن التسمية بأحمد من خصائصه صلى الله عليه وسلم على جميع الناس وفي وصفه صلى الله عليه وسلم نفسه بما ذكر وقول عيسى عليه الصلاة والسلام إني عبدالله الآية وقول سليمان عليه الصلاة والسلام { علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء } الآية هو الأصل في ذكر العلماء مناقبهم في كتبهم وهذا مأخوذ من قوله تعالى { وأما بنعمة ربك فحدث } ومن قوله صلى الله عليه وسلم


التحدث بنعمة الله شكر وتركه كفر قال الله تعالى { لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد }
صعد سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه المنبر فقال الحمدلله الذي صيرني ليس فوقي أحد ثم نزل فقيل له فقال في ذلك فقال إنما فعلت ذلك إظهارا للشكر
وعن سفيان الثوري رحمه الله من لم يتحدث ينعمة الله فقد عرضها للزوال
والحق في ذلك التفصيل وهو أن من خاف من التحدث بالنعمة وإظهارها الرياء فعدم التحدث بها وعدم إظهارها أولى ومن لم يخف ذلك فالتحدث بها وإظهارها أولى أي وفي الشفاء أنه أحمد المحمودين وأحمد الحامدين ويوم القيامة يحمده الأولون والآخرون لشفاعته لهم فحقيق أن يسمى محمدا وأحمد وتقدم أن هذا يوافق ما تقدم عن الهدى أن أحمد مأخوذ من الفعل الواقع على المفعول
وقد جاء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي وجعلت أمتي خير الأمم
قال القاضي البيضاوي وفي التسمية بالأسماء العربية تنويه إلى تعظيم المسمى هذا كلامه وفي رواية لما أسرى بي إلى السماء قربني ربي حتى كان بيني وبينه كقاب قوسين أو أدنى قيل لي قد جعلت أمتك آخر الأمم لأفضح الأمم عندهم أي بوقوفهم على أخبارهم ولا أفضحهم عند الأمم أي لتأخرها عنهم وعليه فالضمير في دنا يعود إليه صلى الله عليه وسلم فالضمير في دنا إلى آخره يعود إلى الله تعالى وهو معنى لطيف وفي رواية نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق وفي رواية نحن آخر الأمم وأول من يحاسب تنفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضى غرا محجلين من أثر الطهور وفي رواية من آثار الوضوء فتقول الأمم كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها هذا وفي رواية غرا من أثر السجود محجلين من أثر الوضوء وفي رواية فضلت على الأنبياء بست أي ولا مخالفة بين ذكر الخميس أولا وبين ذكر الست هنا لأنه يجوز أن يكون اطلع أولا على بعض ما اختص به ثم اطلع على الباقي هذا على اعتبار مفهوم العدد ثم أشار إلى بيان الست بقوله صلى الله

عليه وسلم أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأرسلت إلى الخلق كافة والخلق يشمل الإنس والجن والملك والحيوانات والنبات والحجر
قال الجلال السيوطي وهذا القول أي إرساله للملائكة رجحته في كتاب الخصائص وقد رجحه قبلي الشيخ تقي الدين السبكي وزاد أنه مرسل لجميع الأنبياء والأمم السابقة من لدن آدم إلى قيام الساعة ورجحه أيضا البارزي وزاد أنه مرسل إلى جميع الحيوانات والجمادات وأزيد على ذلك أنه أرسل إلى نفسه
وذهب جمع إلى أنه لم يرسل للملائكة منهم الحافظ العراقي في نكته على ابن الصلاح والجلال المحلي في شرح جمع الجوامع ومشيت عليه في شرح التقريب وحكى الفخر الرازي في تفسيره والبرهان النسفي في تفسيره فيه الإجماع هذا كلامه وبهذا الثاني أفتى والد شيخنا الرملي وعليه فيكون قوله صلى الله عليه وسلم أرسلت للخلق كافة وقوله تعالى { ليكون للعالمين نذيرا } من العام المخصوص أو الذي أريد به الخصوص
ولا يشكل عليه حديث سلمان إذا كان الرجل في أرض وأقام الصلاة صلى خلفه من الملائكة ما لا يرى طرفاه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده لأنه يجوز أن لا يكون ذلك صادرا عن بعثته إليهم ولا يشكل عليه ما ورد بعثت إلى الأحمر والأسود لما تقدم أن المراد بذلك العرب والعجم وفي الشفاء وقيل الحمر الإنس والسود الجان واستدل للقول الأول القائل بأنه أرسل للملائكة بقوله تعالى { ومن يقل منهم } أي من الملائكة { إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم } فهي إنذار للملائكة على لسانه صلى الله عليه وسلم في القرآن العظيم الذي أنزل عليه فثبت بذلك إرساله إليهم ودعوى الإجماع منازع فيها فهي دعوى غير مسموعة ثم رأيت الجلال السيوطي ذكر هذا الإستدلال وهو واضح وذكر تسعة أدلة أيضا وهي لا تثبت المدعى الذي هو أن الملائكة يكلفون بشرعه صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى على من رزق نوع فهم بالوقوف عليها
فعلم أنه صلى الله عليه وسلم مرسل لجميع الأنبياء وأممهم على تقدير وجوده في زمنهم لأن الله تعالى أخذ عليهم وعلى أممهم الميثاق على الإيمان به ونصرته مع بقائهم على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم فنبوته ورسالته أعم وأشمل وتكون شريعته في تلك

الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم لأن الأحكام والشرائع تختلف بإختلاف الأشخاص والأوقات قاله السبكي أي فجميع الأنبياء وأممهم من جملة أمته صلى الله عليه وسلم فقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه والذي نفسي بيده لو أن موسى عليه الصلاة والسلام كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني
وأخرج أحمد وغيره عن عبدالله بن ثابت قال جاء عمر رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا فسرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه لضللتم إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين
وفي النهر لأبي حيان إن عبدالله بن سلام أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم على السبت وأن يقرأمن التوراة في صلاته من الليل فلم يأذن له وكون جميع الأنبياء وأممهم من أمته صلى الله عليه وسلم فالمراد أمة الدعوة لا أمة الإجابة لأنها مخصوصة بمن آمن به بعد البعثة على ما تقدم ويأتي وبعثته صلى الله عليه وسلم رحمه حتى للكفار بتأخير العذاب عنهم ولم يعاجلوا بالعقوبة كسائر الأمم المكذبة وحتى للملائكة قال تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }
وقد ذكر في الشفاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل هل أصابك من هذه الرحمة شيء قال نعم كنت أخشى العاقبة فآمنت لثناء الله تعالى علي في القرآن بقوله عز وجل { ذي قوة عند ذي العرش مكين }
قال الجلال السيوطي إن هذا الحديث لم نقف له على إسناد فهو صلى الله عليه وسلم أفضل ما سائر المرسلين وجميع الملائكة المقربين وفي لفظ آخر فضلت على الأنبياء بست لم يعطهن أحد كان قبلي غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر وأحلت لي الغنائم وجعلت أمتي خير الأمم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأعطيت الكوثر ونصرت بالرعب والذي نفسي بيده إن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه وفي رواية فما من أحد إلا وهو تحت لوائي يوم القيامة ينتظر الفرج وإن معي لواء الحمد أنا أمشي ويمشي الناس معي حتى آتى باب الجنة الحديث


أقول قد سئلت عما حكاه الجلال السيوطي أنه ورد إلى مصر نصراني من الفرنج وقال لي شبهة إن أزلتموها أسلمت فعقد له مجلس بدار الحديث الكاملية ورأس العلماء إذ ذاك الشيخ عز الدين بن عبدالسلام فقال له النصراني والناس يسمعون أي أفضل عندكم المتفق عليه أو المختلف فيه فقال له الشيخ عز الدين المتفق عليه فقال له النصراني قد اتفقنا نحن وأنتم على نبوة عيسى واختلفنا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيلزم أن يكون عيسى أفضل من محمد فأطرق الشيخ عز الدين ساكتا من أول النهار إلى الظهر حتى أرتج المجلس واضطرب أهله ثم رفع الشيخ رأسه وقال عيسى قال لبني إسرائيل { ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } فيلزمك أن تتبعه فيما قال وتؤمن بأحمد الذي بشر به فأقام الحجة على النصراني وأسلم بأنه كيف أقام الحجة على كون محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من عيسى إذ غاية ما ذكر أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجبت بأنه حيث ثبت أن محمدا رسول الله وجب الإيمان به وبما جاء به ومما جاء به وأخبر به أنه أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
وقد سئل أبو الحسن الحمال بالحاء المهملة من فقهائنا معاشر الشافعية محمد وموسى أيهما أفضل فقال محمد فقيل له ما الدليل على ذلك فقال إنه تعالى أدخل بينه وبين موسى لام الملك فقال تعالى { واصطنعتك لنفسي } وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } فقرق بين من أقام بوصفه وبين من أقامه مقام نفسه والله أعلم
وفي رواية إذا كان يوم القيامة كان لي لواء الحمد وكنت إمام المرسلين وصاحب شفاعتهم وفي لفظ ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر وأنا أول شافع وأنا أول مشفع يوم القيامة ولا فخر وأنا أول من يحرك حلق الجنة أي حلق بابها فيفتح الله لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر أي وفي رواية آتى باب الجنة يوم القيامة فأستفتح أي بتحريك حلقة الباب أوقرعه بها لا بصوت فيقول الخازن أي وهو رضوان من أنت فأقول محمد وفي رواية أنا محمد فيقول بك أمرت لا أفتح وفي رواية أن لا أفتح لأحد قبلك زاد في رواية ولا أقوم لأحد بعدك لأفتح له فمن خصائصه صلى

الله عليه وسلم أن رضوان لايفتح إلا له ولا يفتح لغيره من الأنبياء وغيرهم وإنما يتولى ذلك غيره من الخزنة وهي خصوصية عظيمة نبه عليها القطب الخضري وكون الفاتح له صلى الله عليه وسلم الخازن لا ينافى ما قبله من كون الفاتح له الحق سبحانه وتعالى لما علم أن الخازن إنما فتح بأمر الله فهو الفاتح الحقيقي
وفي رواية أنا أول من يفتح له باب الجنة ولا فخر فآتى فآخذ بحلقة الجنة فيقال من هذا فأقول محمد فيفتح لي فيستقبلني الجبار جل جلاله فأخر له ساجدا أي فالكلام في يوم القيامة فلا يرد إدريس بناء على أن دخوله الجنة مترتب على فتح الباب غالبا لأن ذلك قبل يوم القيامة وفي يوم القيامة يخرج إلى الموقف فيكون مع أمته للحساب ولا ينافيه ماجاء أول من يقرع باب الجنة بلال من حمامة على تقدير صحته لأنه يجوز أن يكون يقرع الباب الأصلي لا حلقه أو الأول من الأمة والله أعلم
وفي الأوسط للطبراني بإسناد حسن حرمت الجنة على الأنبياء حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي وسيأتي أن هذا من جملة ما أوحى إليه المعراج الذي أشار إليه قوله تعالى { فأوحى إلى عبده ما أوحى } ولعل هذا هو المراد مما جاء في المرفوع عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حرمت الجنة على جميع الأمم حتى أدخلها أنا وأمتي وأن ظاهرها من أنه لا يدخلها أحد من الأنبياء إلا بعد دخول هذه الأمة ليس مرادا
وفي هاتين الروايتين منقبة عظيمة لهذه الأمة المحمدية وهي أنه لا يدخل أحد الجنة من الأمم السابقة ولو من صلحائها وعلمائها وزهادها حتى يدخل من كان يعذب في النار من عصاة هذه الأمة بناء على أنه لابد من تعذيب طائفة من هذه الأمة في النار ولا بعد في ذلك لأنه تقدم أن أول من يحاسب من الأمم هذه الأمة فيجوز أن الأمم لا يفرغ حسابهم ولا يأتون إلى باب الجنة إلا وقد خرج من كان يعذب من هذه الأمة في النار ودخل الجنة
وجاء إنه يدخلها قبله من أمته سبعون ألفا مع كل واحد سبعون ألفا لا حساب عليهم وذلك معارض لقوله صلى الله عليه وسلم أنا أول من يدخل الجنة إلا أن يقال أول من يدخل الجنة من الباب وهؤلاء السبعون ألفا ورد أنهم يدخلون من أعلى حائط الجنة فلا معارضة


ولا يعارض ذلك ما جاء أول من يدخل الجنة أبو بكر لأن المراد أول من يدخلها من رجال هذه الأمة غير الموالي
ولا يعارض ذلك ما تقدم عن بلال رضي الله تعالى عنه أنه أول من يقرع باب الجنة لأنه لا يلزم من القرع الدخول وعلى تسليم أن القرع كناية عن الدخول فالمراد من الموالي
ولا يعارض ذلك أيضا ما جاء أول من يدخل الجنة بنتى فاطمة كما لا يخفى لأن المراد أول من يدخلها من نساء هذه الأمة فالأولية إضافية
وجاء لأشفعن يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من حجر وشجر وعن أنس رض الله تعالى عنه فضلت على الناس بأربع بالسخاء والشجاعة وقوة البطش وكثرة الجماع أي فعن سلمى مولاته صلى الله عليه وسلم أنها قالت طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه التسع ليلته وتطهر من كل واحدة قبل أن يأتي الأخرى وقال هذا أطهر وأطيب
ومما يدل على قوة بطشه صلى الله عليه وسلم ما وقع له مع ركانة كما سيأتي وفي الخصائص الصغرى وكان أفرس العالمين فهو صلى الله عليه وسلم أجود بني آدم على الإطلاق كما أنه أفضلهم وأشجعهم وأعلمهم وأكملهم في جميع الأخلاق الجميلة والأوصاف الحميدة
قال ابن عبدالسلام من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أخبره بالمغفرة أي لما تقدم وتأخر ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك أي ولأنه لو وقع لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله بل ومما اختص به صلى الله عليه وسلم وقوع غفران نفس الذنب المتقدم والمتأخر كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في بيان ما اختص به عن الأنبياء وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر أي ولا ينافى ذلك قوله تعالى في حق داود { فغفرنا له ذلك } لأنه غفران لذنب واحد قال ابن عبد السلام بل الظاهر أنه لم يخبرهم أي بغفران ذنوبهم بدليل قولهم في الموقف نفسي نفسي لأني إلى آخره وعن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سمع بي من يهودي أو نصراني ثم لم يسلم دخل النار أي لأنه يجب عليه أن يؤمن به
أقول والذي في مسلم والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي

أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار أي من سمع بنبينا صلى الله عليه وسلم ممن هو موجود في زمنه وبعده إلى يوم القيامة ثم مات غير مؤمن بما أرسل به كان من أصحاب النار أي ومن جملة ما أرسل به أنه أرسل إلى الخلق كافة لا لخصوص العرب تأمل وإنما خص اليهود والنصارى بالذكر تنبيها على غيرها لأنه إذا كان حالهما ذلك مع أن لهم كتابا فغيرهم مما لا كتاب له كالمجوسي أولى لأن اليهود كتابهم التوراة والنصارى كتابهم الإنجيل لأن شريعة التوراة التي هي شريعة موسى يقال لها اليهودية أخذا من قول موسى عليه الصلاة والسلام { إنا هدنا إليك } أي رجعنا إليك فمن كان على دين موسى يسمى يهوديا وشريعة الإنجيل يقال لها النصرانية أخذا من قول عيسى عليه الصلاة والسلام { من أنصاري إلى الله } فمن كان على دين عيسى يسمى نصرانيا وكان القياس أن يقال له أنصاري وقيل النصراني نسبة إلى ناصرة قرية من قرى الشام نزل بها عيسى عليه الصلاة والسلام كما تقدم ولا مانع من رعاية الأمرين في ذلك وجاء في رواية وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة أي والأمم السابقة كانوا يصلون متفرقين كل واحد على حدته وإن أمته صلى الله عليه وسلم حط عنها الخطأ والنسيان وحمل ما لا تطيقه الذي أشارت إليه خواتيم سورة البقرة وإن شيطانه صلى الله عليه وسلم أسلم وفي الخصائص الصغرى وأسلم قرينه ومجموع تلك الخصال سبع عشرة خصلة قال الحافظ ابن حجر ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع
وذكر أبو سعيد النيسابوري في كتابه شرف المصطفى أنه عد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء فإذا هو ستون خصلة أي ومن ذلك أي مما اختص به صلى الله عليه وسلم في أمته أن وصف الإسلام خاص بها لم يوصف به أحد من الأمم السابقة سوى الأنبياء فقط فقد شرفت هذه الأمة المحمدية بأن وصفت بالوصف الذي كان يوصف به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو الإسلام على القول الراجح نقلا ودليلا لما قام عليه من الأدلة الساطعة قاله الجلال السيوطي رحمه الله

& باب بدء الوحي له صلى الله عليه وسلم
عن عائشة رضي الله تعالى عنها أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين أراد الله تعالى كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصالحة لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق أي وفي لفظ كفرق الصبح أي كضيائه وإثارته فلا يشك فيها أحد كما لا يشك أحد في وضوح ضياء الصبح ونوره وفي لفظ فكان لا يرى شيئا في المنام إلا كان أي وجد في اليقظة كما رأى فالمراد بالصالحة الصادقة وقد جاءت في رواية البخاري في التفسير أي ولا يخفى أن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم كلها صادقة وإن كانت شاقة كما في رؤياه يوم أحد
قال القاضي وغيره وإنما ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك الذي هو جبريل عليه الصلاة والسلام بالنبوة أي الرسالة فلا تتحملها القوى البشرية أي لأن القوى البشرية لا تتحمل رؤية الملك وإن لم يكن على صورته التي خلقه الله عليها ولا على سماع صوته ولا على ما يخبر به لا سيما الرسالة فكانت الرؤيا تأنيسا له صلى الله عليه وسلم والمراد بالملك جبريل لكن ذكر بعضهم أن من لطف الله تعالى بنا عدم رؤيتنا للملائكة أي على الصورة التي خلقوا عليها لأنهم خلقوا على أحسن صورة فلو كنا نراهم لطارت أعيننا وأرواحنا لحسن صورهم
وعن علقمة بن قيس أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام أي ما يكون في المنام حتى تهدأ قلوبهم ثم ينزل الوحي اه أي في اليقظة لأن رؤيا الأنيباء وحي وصدق وحق لا أضغاث أحلام ولا تخيل من الشيطان إذ لا سبيل له عليهم لأن قلوبهم نورانية فما يرونه في المنام له حكم اليقظة فجميع ما ينطبع في عالم مثالهم لا يكون إلا حقا ومن ثم جاء نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا
قول وحينئذ يكون في القول بأن من خصوصياته صلى الله عليه وسلم اجتماع أنواع الوحي الثلاثة له وعد منها الرؤيا في المنام وعد منها الكلام من غير واسطة وبواسطة جبريل نظر لما علمت أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعهم مشتركون في الرؤيا وموسى عليه الصلاة والسلام حصل له كل من الكلام بلا واسطة وبواسطة جبريل

وذكر بعضهم أن مدة الرؤيا ستة أشهر قال فيكون ابتداء الرؤيا حصل في شهر ربيع الأول وهو مولده صلى الله عليه وسلم ثم أوحى الله إليه في اليقظة أي في رمضان ذكره البيهقي وغيره
وجاء في الحديث الرؤيا الصادقة وفي البخاري الرؤيا الحسنة أي الصادقة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة قال بعضهم معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث أقام بمكة ثلاث عشرة سنة وبالمدينة عشر سنين يوحى إليه ومدة الوحي إليه في اليقظة ثلاث وعشرون سنة ومدة الوحي إليه في المنام أي التي هي الرؤيا ستة أشهر فالمراد خصوص رؤيته وخصوص نبوته صلى الله عليه وسلم وهذا القيل نقله في الهدى وأقره حيث قال كانت الرؤيا ستة أشهر ومدة النبوة ثلاثا وعشرين سنة فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا هذا كلامه وحينئذ يكون المعنى ورؤيتي جزء من ستة وأربعين جزءا من نبوتي ولا يخفى أن هذا لا يناسب الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح إذ هو يقتضى أن مطلق الرؤيا الصالحة جزء من مطلق النبوة الشامل لنبوته صلى الله عليه وسلم ونبوة غيره فليتأمل ولم أقف في كلام أحد على مشاركة أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام له صلى الله عليه وسلم في هاتين المدتين وحينئذ تحمل الخصوصية التي ادعاها بعضهم على هذا
ومما يدل على أن المراد مطلق الرؤيا ومطلق النبوة لا خصوص رؤياه ونبوته صلى الله عليه وسلم ما جاء في ذلك من الألفاظ التي بلغت خمسة عشر لفظا
ففي رواية أنها جزء من سبعين جزءا وفي رواية من أربعة وأربعين وفي رواية أنها جزء من خمسين جزءا من النبوة وفي رواية من تسعة وأربعين وفي أخرى أنها جزء من ستة وسبعين وفي أخرى من خمسة وعشرين جزءا وفي أخرى من ستة وعشرين جزءا وفي أخرى من أربعة وعشرين جزءا فإن ذلك بإعتبار الأشخاص لتفاوت مراتبهم في الرؤيا
وذكر الحافظ أبن حجر أن أصح الروايات مطلقا رواية ستة وأربعين ويليها رواية أنها جزء من سبعين جزءا
فعلم أن الرؤية المذكورة جزءمن مطلق النبوة أي كجزء منها من جهة الإطلاع على بعض الغيب فلا ينافى انقطاع النبوة بموته صلى الله عليه وسلم
ومن ثم جاء ذهبت النبوة أي لا توجد بعدي وبقيت المبشرات أي المرائى

التي كانت مبشرات الأنبياء بالنبوة بدليل ما في رواية لم يبق بعدي من المبشرات أي مبشرات النبوة إلا الرؤيا أي مجرد الرؤيا الخالية عن شي من مبشرات النبوة بدليل ما في لفظ لم يبق إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أي لنفسه أو ترى له
لا يقال الرؤيا الصادقة تكون من الكافر أو ترى له وهو خارج بالرجل الصالح وبالمسلم لأنا نقول لو فرض وقوع ذلك كان استدراجا وفيه أنها واقعة وظاهر سياق الحديث الحصر وكما تكون الرؤيا مبشرة بخير عاجل أو آجل تكون منذرة بشر كذلك قال بعضهم وقد تطلق البشارة التي هي الخبر السار على ما يشمل النذارة التي هي الخبر الضار بعموم المجاز بأن يراد بالبشارة ما يعود إلى الخير لأن النذارة ربما قادت إلى الخير
وفي الإتقان ومن المجاز تسمية الشيء بإسم ضده نحو { فبشرهم بعذاب أليم } اه أي وهي في هذه الآية للتهكم
وجاء رجل أي وهو أبو قتادة الأنصاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أرى في المنام الرؤيا تمرضني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا الحسنة من الله والسيئة من الشيطان فإذا رأيت الرؤيا تكرهها فاستعذ بالله من الشيطان واتفل عن يسارك ثلاث مرات فإنها لا تضرك أي وحكمة التفل احتقار الشيطان واستقذاره
وفي رواية إذا رأى أحدكم ما يكره فليعذ بالله من شرها ومن الشيطان كأن يقول أعوذ بالله من شر ما رأيت ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثا ولا يحدث بها أحدا فإنها لا تضره زاد في رواية وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه زاد في أخرى وليقم فليصل أي ليكون فعل ذلك سببا للسلامة من المكروه الذي رآه
وفي البخاري إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليتحدث بها أي ولا يخبر بها إلا من يحب وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان أي لا حقيقة لها وإنما هي تخيل يقصد به تخويف الإنسان والتهويل عليه فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره وفي الأذكار ثم ليقل اللهم إني أعوذ بك من عمل الشيطان وسيئات الأحلام وفي الحديث الرؤيا من الله والحلم من الشيطان
قيل في معناه لأن صاحب الرؤيا يرى الشيء على ما هو عليه بخلاف صاحب الحلم

فإنه يراه على خلاف ماهو عليه فإن الحلم مأخوذ من حلم الجلد إذا فسد والرؤيا قيل إنها أمثلة يدركها الرائي بجزء من القلب لم تستول عليه آفة النوم وإذا ذهب النوم عن أكثر القلب كانت الرؤيا أصفى وذكر الفخر الرازي أن الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها أي أثرها عن قرب والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين
والسبب فيه أن حكمة الله تعالى تقتضى أن لا يحصل الإعلام بوصول الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل
وأما الإعلام بالخير فإن يحصل متقدما على ظهوره بزمان طويل حتى تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حصول ذلك الخير أكثر وهذا جرى على ما هو الغالب وإلا فقد قيل لجعفر الصادق كم تتأخر الرؤيا فقال رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه كأن كلبا أبقع يلغ في دمه فكان أي ذلك الكلب الأبقع شمرا قاتل الحسين وكان أبرص فكان تأخير الرؤيا بعد خمسين سنة
وجاء عن عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة إذا خلوت سمعت نداء أن يا محمد يا محمد وفي رواية أرى نورا أي يقظة لا مناما وأسمع صوتا وقد خشيت أن يكون والله لهذا أمر وفي رواية والله ما أبغضت بغض هذه الأصنام شيئا قط ولا الكهان وإني لأخشى أن أكون كاهنا أي فيكون الذي يناديني تابعا من الجن لأن الأصنام كانت الجن تدخل فيها وتخاطب سدنتها والكاهن يأتيه الجني بخبر السماء وفي رواية وأخشى أن يكون بي جنون أي لمة من الجن فقالت كلا يا بن عم ماكان الله ليفعل ذلك بك فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث وفي رواية إن خلقك لكريم أي فلا يكون للشيطان عليك سبيل استدلت رضي الله تعالى عنها بما فيه من الصفات العلية والأخلاق السنية على أنه لا يفعل به إلا خيرا لأن من كان كذلك لا يجزي إلا خيرا
ونقل الماوردي عن الشعبي أن الله قرن إسرافيل عليه السلام بنبيه ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه يعلمه الشيء بعد الشيء ولا يذكر له القرآن فكان في هذه المدة مبشرا بالنبوة وأمهله هذه المدة ليتأهب لوحيه
وفيه أنه لو كان في تلك المدة مبشرا بالنبوة ما قال لخديجة ما تقدم إلا أن يقال ما تقدم إنما قاله لخديجة في أول الأمر ويدل لذلك ما قيل إنه صلى الله عليه وسلم مكث خمس عشرة سنة يسمع الصوت أحيانا ولا يرى شخصا وسبع سنين يرى نورا ولم ير شيئا غير ذلك وإن المدة التي بشر فيها بالنبوة كانت ستة أشهر من تلك المدة التي هي إثنان وعشرون سنة وهذا الشي الذي كان يعلمه له إسرافيل لم أقف على ما هو والله أعلم
وبعد ذلك حبب الله إليه صلى الله عليه وسلم الخلوة التي يكون بها فراغ القلب والإنقطاع عن الخلق فهي تفرغ القلب عن أشغال الدنيا لدوام ذكر الله تعالى فيصفوا وتشرق عليه أنوار المعرفة فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده وكان يخلو بغار حراء بالمد والقصر وهذا الجبل هو الذي نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله إلى يا رسول الله لما قال له ثبير وهو على ظهره أهبط عني فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب فكان صلى الله عليه وسلم يتحنث أي يتعبد به أي بغار حراء الليالي ذوات العدد ويروى أولات العدد أي مع أيامها وإنما غلب الليالي لأنها أنسب بالخلوة قال بعضهم وأبهم العدد لإختلافه بالنسبة إلى المدد فتارة كان ثلاث ليال وتارة سبع ليال وتارة شهر رمضان أو غيره
وفي كلام بعضهم ما قد يدل على أنه لم يختل صلى الله عليه وسلم أقل من شهر وحينئذ يكون قوله في الحديث الليالي ذوات العدد محمول على القدر الذي كان يتزود له فإذا فرغ زاده رجع إلى مكة وتزود إلى غيرها إلى أن يتم الشهر وكذا قول بعضهم فتارة كان ثلاث ليال وتارة سبع ليال وتارة شهرا ولم يصح أنه صلى الله عليه وسلم اختلى أكثر من شهر قال السراج البلقيني في شرح البخاري لم يجىء في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده عليه الصلاة والسلام هذا كلامه وسيأتي بيان ذلك قريبا
ثم إذا مكث صلى الله عليه وسلم تلك الليالي أي وقد فرغ زاده يرجع إلى خديجة رضي الله تعالى عنها فيتزود لمثلها أي قيل وكانت زوادته صلى الله عليه وسلم الكعك والزيت وفيه أن الكعك والزيت يبقى المدة الطويلة فيمكث جميع الشهر الذي يختلي فيه ثم رأيت عن الحافظ ابن حجر مدة الخلوة كانت شهرا فكان يتزود لبعض ليالي الشهر فإذا نفد ذلك الزاد رجع إلى أهله يتزود قدر ذلك ولم يكونوا في سعة بالغة من العيش وكان غالب أدمهم اللبن واللحم وذلك لا يدخر منه لغاية شهر لئلا يسرع الفساد إليه ولا سيما وقد وصف بأنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم من يرد عليه هذا كلامه وهو يشير فيه إلى ثلاثة أجوبه
========================
ج4. كتاب:السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون


المؤلف:علي بن برهان الدين الحلبي
الأول أنه لم يكن في سعة بحيث يدخر ما يكفيه شهرا من الكعك والزيت
الثاني أن غالب أدمهم كان اللحم واللبن وهو لا يدخر شهرا
الثالث أنه على فرض أن يدخر ما يكفيه شهرا أي من الكعك والزيت إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم فربما نفد ما ادخره
وإنما اختار الزيت للأدم لأن دسومته لا ينفر منها الطبع بخلاف اللبن واللحم ومن ثم جاء ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة وقوله ائتدموا من هذه الشجرة المباركة أي من عصارة ثمرة هذه الشجرة المباركة التي هي الزيتونة وهو الزيت وقيل لها مباركة لأنها لا تكاد تنبت إلا في شريف البقاع التي بورك فيها كأرض بيت المقدس حتى فجأه الحق وهو في غار حراء أي في اليوم والشهر المتقدم ذكره
وعن عبيد بن عمير رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء في كل سنة شهرا وكان ذلك مما تتحنث فيه قريش في الجاهلية أي المتألهين منهم أي وكان أول من تحنث فيه من قريش جده صلى الله عليه وسلم عبدالمطلب فقد قال ابن الأثير أول من تحنث بحراء عبدالمطلب كان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين ثم تبعه على ذلك من كان يتأله أي يتعبد كورقة بن نوفل وأبي أمية ابن المغيرة وقد أشار إلى تعبده صلى الله عليه وسلم صاحب الهمزية بقوله ** ألف النسك والعبادة والخل ** وة طفلا وهكذا النجباء ** ** وإذا حلت الهداية قلبا ** نشطت في العبادة الأعضاء **
أي ألف صلى الله عليه وسلم العبادة والخلوة في حال كونه طفلا ومثل هذا الشأن العلي شأن الكرام وإنما كان هذا شأن الكرام لأنه إذا حلت الهداية قلبا نشطت الأعضاء في العبادة لأن القلب رئيس البدن المعول عليه في صلاحه وفساده ولعل الخلوة في كلام صاحب الهمزية المراد بها مطلق اعتزاله للناس وأراد بطفلا زمن رضاعه صلى الله عليه وسلم عند حليمة
فقد تقدم عنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت لما ترعرع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الصبيان وهم يلعبون فيتجنبهم لا خصوص اعتزاله الناس في غار حراء فلا ينافى قوله طفلا ظاهر ما تقدم من أن خلوته صلى الله عليه وسلم بغار حراء كانت في زمن

تزوجه صلى الله عليه وسلم بخديجة رضي الله تعالى عنها فكان صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر يطعم من جاءه من المساكين أي لأنه كان من نسك قريش في الجاهلية أي في ذلك المحل أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين
وقد قيل إن هذا كان تعبده في غار حراء أي مع الإنقطاع عن الناس وإلا فمجرد إطعام المساكين لا يختص بذلك المحل إلا إن كان ذلك المحل صار في ذلك الشهر مقصودا للمساكين دون غيره
وقيل كان تعبده صلى الله عليه وسلم التفكر مع الإنقطاع عن الناس أي لا سيما إن كانوا على باطل لأن في الخلوة يخشع القلب وينسى المألوف من مخالطة أبناء الجنس المؤثرة في البنية البشرية ومن ثم قيل الخلوة صفوة الصفوة
وقول بعضهم كان يتعبد بالتفكر أي مع الإنقطاع عما ذكرنا وإلا فمجرد التفكر لا يختص بذلك المحل إلا أن يدعى أن التفكر فيه أتم من التفكر في غيره لعدم وجود شاغل به وقيل تعبده صلى الله عليه وسلم كان بالذكر وصححه في سفر السعادة وقيل بغير ذلك
ومن ذلك الغير أنه كان يتعبد قبل النبوة بشرع إبراهيم وقيل بشريعة موسى غير ما نسخ منها في شرعنا وقيل بكل ما صح أنه شريعة لمن قبله غير ما نسخ من ذلك في شرعنا
وفي كلام الشيخ محيى الدين بن العربي تعبد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته بشريعة إبراهيم حتى فجأه الوحي وجاءته الرسالة فالولي الكامل يجب عليه متابعة العمل بالشريعة المطهرة حتى يفتح الله له في قلبه عين الفهم عنه فيلهم معاني القرآن ويكون من المحدثين بفتح الدال ثم يصير إلى إرشاد الخلق وكان صلى الله عليه وسلم إذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة فيطوف بها سبعا أو ماشاء الله تعالى ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به ما أراد من كرامته صلى الله عليه وسلم وذلك شهر رمضان وقيل شهر ربيع الأول وقيل شهر رجب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله أي عياله التي هي خديجة رضي الله تعالى عنها إما مع أولادها أو بدونهم حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى فيها برسالته ورحم العباد بها وتلك الليلة ليلة سبع عشرة من ذلك الشهر وقيل رابع عشريه وقيل كان ذلك ليلة ثمان من ربيع الأول أي وقيل ليلة ثالثة


قال بعضهم القول بأنه في ربيع الأول يوافق القول بأنه بعث على رأس الأربعين لأن مولده صلى الله عليه وسلم كان في ربيع الأول على الصحيح أي وهو قول الأكثرين وقيل كان ذلك ليلة أو يوم السابع والعشرين من رجب
فقد أورد الحافظ الدمياطي في سيرته عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا وهو اليوم الذي نزل فيه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأول يوم هبط فيه جبريل هذا كلامه أي أول يوم هبط فيه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يهبط عليه قبل ذلك وسيأتي في بعض الروايات أن جبريل عليه السلام نزل في سحر تلك الليلة التي هي ليلة الإثنين ويجوز أن يكون كل من تلك الليالي كانت ليلة الإثنين فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال لا يفوتك صوم يوم الإثنين لأني ولدت فيه ونبئت فيه فلا مخالفة بين كونه نبىء في الليل وبين كونه نبيء في اليوم لأن السحر قد يلحق بالليل
وفي كلام بعضهم أتاه صلى الله عليه وسلم جبريل ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له بالرسالة يوم الإثنين لسبع عشرة خلت من رمضان في حراء فجاء بأمر الله تعالى وهذا القول أي أن البعث كان في رمضان قال به جماعة منهم الإمام الصرصري حيث قال ** وأتت عليه أربعون فأشرقت ** شمس النبوة منه في رمضان **
واحتجوا بأن أول ما أكرمه الله تعالى بنبوته أنزل عليه القرآن وأجيب بأن المراد بنزول القرآن في رمضان نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة في سماء الدنيا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءني وأنا نائم بنمط وهو ضرب من البسط وفي رواية جاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب أي كتابة فقال اقرأ فقلت ما أقرأ أي أنا أمي لا أحسن القراءة أي قراءة المكتوب أو مطلقا فغطني أو فغتني بالتاء بدل من الطاء به أي غمني بذلك النمط بأن جعله على فمه وأنفه قال حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ أي من غير هذا المكتوب فقلت ماذا أقرأ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أي تخلصا منه أن يعود لي بمثل ما صنع أي إنما استفهمت عما أقرؤه ولم أنف خوفا أن يعود لي بمثل ما صنع عند النفي أي وفي رواية فقلت والله ما قرأت

شيئا قط وما أدري شيئا أقرؤه أي لأني ما قرأت شيئا فهو من عطف السبب على المسبب قال { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } فقرأتها فانصرف عني وهببت أي استيقظت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتابا
أقول أي أستقر ذلك في قلبي وحفظته ثم لا يخفى أن كلام هذا البعض وهو أنه جاءه ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له يوم الإثنين محتمل لأن يكون أتاه بذلك النمط في ليلة السبت وليلة الأحد وسحر يوم الإثنين وهو نائم لا يقظة لقوله ثم هببت من نومي
ولا ينافي ذلك قوله ثم ظهر له بالرسالة أي أعلن له بما يكون سببا للرسالة الذي هو اقرأ الحاصل في اليقظة وحينئذ يكون تكرر مجيئه هو السبب في إستقرار ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا يبعده قوله في الليلة الثانية ما قرأت شيئا لأن المراد لم يتقدم لي قراءة قبل مجيئك إلى ولا يبعده أيضا قوله ما أدري ما أقرأ لأنه لم يستقر ذلك في قلبه لما علمت أن سبب الإستقرار التكرر فلم يستقر ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم في الليلة الأولى
وفي سيرة الشامي أن مجىء جبريل عليه السلام له صلى الله عليه وسلم بالنمط لم يتكرر وأنه كان قبل دخوله صلى الله عليه وسلم غار حراء وهذا السياق يدل على أنه كان بعده
وفي سفر السعادة ما يقتضى أنه جاء بالنمط يقظة في حرا ونصه فبينما هو في بعض الأيام قائم على جبل حرا إذ ظهر له شخص وقال أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله لهذه الأمة ثم أخرج له قطعة نمط من حرير مرصعة بالجواهر ووضعها في يده وقال اقرأ قال والله ما أنا بقارئ ولا أدري في هذه الرسالة كتابة أي لا أعلم ولا أعرف المكتوب فيها قال فضمني إليه وغطني حتى بلغ مني الجهد فعل ذلك بي ثلاثا وهو يأمرني بالقراءة ثم قال اقرأ باسم ربك هذا كلامه فليتأمل والله أعلم قال فخرجت أي من الغار أي وذلك قبل مجىء جبريل إليه صلى الله عليه وسلم باقرأ خلافا لما يقتضيه السياق حتى إذا كنت في شط من الجبل أي في جانب منه سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فوقفت أنظر إليه فإذا جبريل على

صورة رجل صاف قدميه أي وفي رواية واضعا إحدى رجليه على الأخرى في أفق السماء أي نواحيها يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني وأنصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة أي في الغار فجلست إلى فخذها مضيفا إليها أي مستندا إليها فقال يا أبا القاسم أين كنت فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلي
أقول وهذا يدل على أن خديجة رضي الله تعالى عنها كانت معه بغار حرا وهو الموافق لما تقدم من قوله ومعه أهله أي خديجة رضي الله تعالى عنها على ما تقدم
وقد يخالف ذلك ما روى أن خديجة رضي الله تعالى عنها صنعت طعاما ثم أرسلته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تجده بحراء فأرسلت في طلبه إلى بيت أعمامه وأخواله فلم تجده فشق ذلك عليها فبينما هي كذلك إذا أتاها فحدثها بما رأى وسمع فإن هذا يدل على أنها لم تكن معه صلى الله عليه وسلم بحرا
وقد يقال يجوز أن تكون خرجت معه أولا وأرسلت رسلها إليه صلى الله عليه وسلم وهي بحرا فلم تجده وأن الرسل أخطئوا محل وقوفه صلى الله عليه وسلم بالجبل الذي هو حرا ثم رجعت إلى مكة وأرسلت رسلها إليه صلى الله عليه وسلم بحراء لإحتمال عوده إليه ثم أرسلت إلى بيت أعمامه وأخواله لما لم تجده صلى الله عليه وسلم بحراء فإرسالها تكرر مرتين مع إختلاف محلها ويكون قوله وانصرفت راجعا إلى أهلي أي بمكة لا بحراء لأنه يجوز أن يكون بلغه رجوع خديجة رضي الله تعالى عنها إلى مكة
هذا على مقتضى الجمع وأما على ظاهر الرواية الأولى يكون رجوعه إلى أهله بحراء كما ذكرنا وهويدل على أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى شط الجبل كان من غار حراء كما ذكرنا لا من مكة الذي يدل عليه قول الشمس الشامي فخرج مرة أخرى إلى حراء قال فخرجت حتى أتيت الشط من الجبل سمعت صوتا إلى آخره فليتأمل والله أعلم
قال ثم حدثتها بالذي رأيت أي من سماع الصوت ورؤية جبريل وقوله له

يا محمد أنت رسول الله فقالت أبشر يا بن عمي واثبت فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ثم قامت فجمعت عليها ثيابها أي التي تتجمل بها عند الخروج
ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع أي رأى جبريل وسمع منه أنت رسول الله وأنا جيريل فقال ورقة قدوس قدوس بالضم والفتح والذي نفسي بيده لئن كنت صدقت يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي يأتي موسى الذي هو جبريل وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له يثبت والقدوس الطاهر المنزه عن العيوب وهذا يقال للتعجب أي وجاء بدل قدوس سبوح سبوح وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي تعبد فيها الأوثان جبريل أمين الله بينه وبين رسله أي لأن هذا الإسم لم يكن معروفا بمكة ولا غيرها من بلاد العرب فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف أي فرغ ما تزوده وليس المراد انقضاء جواره بانقضاء الشهر لأن ذلك كان قبل أن يجئ إليه جبريل باقرأ باسم ربك يقظة كما تقدم أي وذلك كان في الشهر الذي أكرمه الله فيه برسالته
فعند ذلك صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال له يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذينه و لتقاتلنه ولتخرجنه بهاء السكت ولا تكون إلا ساكنة ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى ورقة رأسه صلى الله عليه وسلم منه وقبل يأفوخه أي وسط رأسه لأن اليأفوخ بالهمزة وسط الراس إذا استد وقيل استداده كما في رأس الطفل يقال له الفادية بالفاء ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله أي ولا مانع من تكرار مراجعة ورقة فتارة قال قدوس قدوس وتارة قال سبوح سبوح أو جمع بين ذلك في وقت واحد وبعض الرواة اقتصر على أحد اللفظين وقد جاء أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل على خديجة أي وليس عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له يا عتيق إذهب بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى ورقة أي بعد أن أخبرته بما

أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سيذكر فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده فقال انطلق بنا إلى ورقة وذهب به إلى ورقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فانطلق هاربا إلى الأرض فقال له لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني أي وهذا قبل أن يراه ويجتمع به ويجئ إليه بالقرآن وحينئذ يكون تكرر سؤال ورقة ثلاث مرات الأولى علي يد أبي بكر رضي الله تعالى عنه وذلك قبل أن يرى جبريل والثانية التي رأى فيها جبريل وسمع منه ولم يجتمع به وذلك عند إجتماعه صلى الله عليه وسلم به في المطاف والثالثة التي بعد مجئ جبريل له يقظة بالقرآن أي باقرأ باسم ربك على المشهور من أنه أول ما نزل وذلك على يد خديجة ولاينافى ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر كما سيأتي أن القصة واحدة لم تتعدد ومخرجها متحد لأن مراده قصة مجئ جبريل له يقظة باقرأ باسم ربك وسيأتي ما فيه
وإنما قال ورقة له صلى الله عليه وسلم ياابن أخي قيل لأنه يجتمع مع عبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم في قصي فكان عبدالله بمثابة الأخ له أو أنه قال ذلك توقيرا له وإنما ذكر ورقة موسى دون عيسى عليهما الصلاة والسلام مع أن عيسى أقرب منه وهو على دينه لأنه كان على دين موسى ثم صار على دين عيسى عليهما الصلاة والسلام أي كان يهوديا ثم صار نصرانيا أي لأن نبوة موسى عليه الصلاة والسلام مجمع عليها أي على أنها ناسخة لما قبلها وأن شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام قيل إنها متممة ومقررة لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام لا ناسخة لها قيل ولأن ورقة كان ممن تنصر أي كما علمت والنصارى لا يقولون بنزول جبريل على عيسى عليه الصلاة والسلام أي بل كان يعلم الغيب لأنهم يقولون فيه إنه أحد الأقانيم الثلاثة اللاهوتية وذلك الأقنوم هو أقنوم الكلمة التي هي العلم حل بناسوت المسيج واتحد به فلذلك كان يعلم علم الغيب ويخبر بما في الغد
أقول وفيه أن في رواية وإنك على مثل ناموس موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام أي ففي بعض الروايات جمع وفي بعضها اقتصر على موسى وفي الإقتصار على موسى دون الإقتصار على عيسى ما علمت ثم رأيت أنه جاء في غير الصحيح

الإقتصار على عيسى فقال هذا الناموس الذي نزل على عيسى فهو كما جاء الجمع بينهما جاء الإقتصار على كل منهما
ولا ينافى ذلك أي مجئ جبريل لعيسى ما تقدم عن النصارى من أنهم لا يقولون بنزول جبريل على عيسى لجواز أن يكون المراد لا ينزل عليه دائما وأبدا بالوحي بل في بعض الأحيان وفي بعضها يعلم الغيب بغير واسطة ثم رأيت في فتح الباري أن عند إخبار خديجة لورقة بالقصة قال لها هذا ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم له بالقصة قال له هذا ناموس موسى للمناسبة بينهما لأن موسى أرسل بالنقمة على فرعون وقد وقعت النقمة على يد نبينا صلى الله عليه وسلم على فرعون هذه الأمة الذي هو أبو جهل هذا كلامه فليتأمل وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال في حق أبي جهل في يوم بدر هذا فرعون هذه الأمة والله أعلم
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها جاءه الملك سحرا أي سحر يوم الإثنين يقظة لا مناما أي بغير نمط فقال له اقرأ قال ما أنا بقارئ أي لا أوجد القراءة قال فأخذني فغطني أي ضمني وعصرني وفي لفظ فأخذ بحلقي حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ أي لا أحسن القراءة أي لا أحفظ شيئا أقرؤه فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ أي أي شيء أقرؤه
وفيه أنه لو كان كذلك لقال ما أقرأ أو ماذا أقرأ إلا أن يقال أطلق ذلك وأراد لازمه الذي هو الإستفهام خصوصا وقد قدمه قال فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم }
أقول فقولنا أي بغير نمط هو ظاهر الروايات ويجوز أن يكون لفظ النمط سقط في هذه الرواية كغيرها من الروايات ويؤيده اقتصار السيرة الشامية على مجيئه بالنمط وأيضا كيف الجمع بين قوله هنا ما ذكر وبين قوله هناك فكأنما كتب في قلبي كتابا وما بالعهد من قدم إلا أن يقال يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم حوز أن يكون جبريل يريد منه قراءة غير الذي قرأه وكتب في قلبه ولا يخفى أنه علم أن قول جبريل اقرأ أمر بالقراءة

وفيه أنه من التكليف بما لا يطاق أي في الحال أي ومن ثم ادعى بعضهم أنه لمجرد التنبيه واليقظة لما يلقى إليه
وفيه أنه لو كان كذلك لم يحسن أن يقال في جوابه ما أنا بقارئ الذي معناه لا أوجد القراءة إلا أن يقال جبريل عليه الصلاة والسلام أراد التنبيه لا الأمر وجوابه صلى الله عليه وسلم بناء على مقتضى ظاهر اللفظ
وعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ في المواضع الثلاثة معناه مختلف ففي الأول معناه الإخبار بعدم إيجاد القراءة والثاني معناه الإخبار بأنه لا يحسن شيئا يقرؤه وإن كان ذلك هو مستند الأول والثالث معناه الإستفهام عن أي شيء أن يقرؤه وفيه ماعلمت
وبعضهم جعل قوله الأول لا أقرأ لا أحسن القراءة بدليل أنه جاء في بعض الروايات ما أحسن أن أقرأ وحينئذ يكون بمعنى الثاني فيكون تأكيدا له أي الغرض منهما شيء واحد
قال بعضهم وجه المناسة بين الخلق من العلق والتعليم وتعليم العلم أن أدنى مراتب الإنسان كونه علقة وأعلاها كونه عالما فالله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بنقله من أدنى المراتب وهي العلقة إلى أعلاها وهي تعلم العلم
وقد اشتملت هذه الآيات على براعة الإستهلال وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه ويشير إلى ما سبق الكلام لأجله فإنها اشتملت على الأمر بالقراءة والبداءة فيها ببسم الله إلى غير ذلك مما ذكره في الإتقان قال فيه من ثم قيل إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن لأن عنوان الكتاب ما يجمع مقاصده بعبارة موجزة في أوله وكرر جبريل الغط ثلاثا للمبالغة وأخذ منه بعض التابعين وهو القاضي شريح أن المعلم لا يضرب الصبي على تعليم القرآن أكثر من ثلاث ضربات
وأورد الحافظ السيوطي عن الكامل لإبن عدي بسند ضعيف عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضرب المؤدب الصبي فوق ثلاث ضربات
وذكر السهيلي أن في ذلك أي الغط ثلاثا إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم يحصل له شدائد ثلاث ثم يحصل له الفرج بعد ذلك فكانت الأولى إدخال قريش له صلى الله عليه

وسلم الشعب والتضييق عليه والثانية اتفاقهم على الإجتماع على قتله صلى الله عليه وسلم والثالثة خروجه من أحب البلاد إليه وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل وميكائيل أي قبل قول جبريل له اقرأ فشق جبريل بطنه وقلبه إلى آخر ما تقدم في الكلام على أمر الرضاع ثم قال له جبريل اقرأ الحديث فعلم أن اقرأ باسم ربك نزلت من غير بسملة وقد صرح بذلك الإمام البخاري وما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بأن أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال يا محمد استعذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال قل بسم الله الرحمن الرحيم ثم قال اقرأ باسم ربك قال الحافظ ابن كثير هذا الأثر غريب في إسناده ضعف وإنقطاع أي فلا يدل للقول بأن أول ما نزل بسم الله الرحمن الرحيم حكاه ابن النقيب في مقدمة تفسيره وبه يرد على الجلال السيوطي حيث قال وعندي فيه أن هذا لا يعد قولا برأسه فإن من ضرورة نزول السورة أي سورة اقرأ نزول البسملة معها فهي أول آية نزلت على الإطلاق هذا كلامه والله أعلم
قال الحافظ ابن حجر هذا الذي وقع له صلى الله عليه وسلم في ابتداء الوحي من خصائصه إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه جرى له عند ابتداء الوحي مثل ذلك ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الآية رجع بها ترجف بوادره والبادرة اللحمة التي بين المنكب والعنق تتحرك عند الفزع ويقال لها الفريصة والفرائض اي وفي رواية فؤاده أي قلبه ولا مانع من إجتماع الأمرين لأن تحرك البادرة ينشأ عن فزع القلب حتى دخل صلى الله عليه وسلم على خديجة فقال زملوني زملوني أي غطوني بالثياب فزملوه حتى ذهب عنه الروع بفتح الراء أي الفزع ثم أخبرها الخبر وقال لقد خشيت على نفسي وفي رواية على عقلي كما في الإمتاع قالت له خديجة كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا أي لا يفضحك إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل أي الشيء الذي يحصل منه التعب والإعياء لغيرك وتكسب المعدوم بضم التاء والمعدوم الذي لا مال له لأن من لا مال له كالمعدوم أي توصل إليه الخير الذي لا يجده عند غيرك
وبهذا يعلم سقوط قول الخطابي الصواب المعدم بلا واو لأن المعدوم أي الشخص المعدوم لا يكسب أي لا يعطى الكسب وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق أي

على حوادثه فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل فقالت له خديجة رضي الله تعالى عنها أي عم اسمع من ابن أخيك أي وقولها أي عم صوابه ابن عم لأنه ابن عمها لا عمها كما وقع في مسلم
قال ابن حجر وهو وهم لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد أي فلا يقال يجوز أنها جاءت إليه بعد نزول الآية مرتين قالت في مرة أي عم وفي مرة أي ابن عم قال ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي أنزل علي موسى أي صاحب سر الوحي وهو جبريل يا ليتني فيها جذعا أي يا ليتني حينئذ أكون في زمن الدعوى إلى الله أي إظهاره الذي جاء به وأنذر أو أصل وجودها بناء على تأخر الدعوى التي هي الرسالة عن النبوة على ما يأتي شابا حتى أبالغ في نصرتها يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم بتشديد الياء المفتوحة لأنه جمع مخرج والأصل أو مخرجوني حذفت النون للإضافة فصار مخرجوى قلبت الواو ياء وأدغمت قال ورقة نعم لم يأت رجل بما جئت به إلا عودى أي فتكون المعاداة سببا لإخراجه
وهذا يفيد بظاهره أن من تقدم من الأنبياء أخرجوا من أماكنهم لمعاداة قومهم لهم وإلا فمجرد المعاداة لا يقتضى الإخراج فلا يحسن أن يكون علامة عليه وقد يؤيد ذلك ما تقدم عند الكلام على بناء الكعبة أن كل نبي إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم إلى مكة يعبد الله عز وجل بها حتى يموت وتقدم ما فيه
وفي كونه صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئا في جواب قول ورقة إنه يكذب ويؤذي ويقاتل وقال في جواب قوله إنه يخرج أو مخرجي هم إستفهاما إنكاريا دليل على شدة حب الوطن وعسر مفارقته خصوصا وذلك الوطن حرم الله وجوار بيته ومسقط رأسه قال ورقة وإن أدركت يومك أنصرك نصرا مؤزرا أي شديدا قويا من الأزر وهو الشدة الذي في الحديث الصحيح وإن يدركني يومك وسيأتي في بعض الروايات وإن يدركني ذلك قال السهيلي وهو القياس لأن ورقة سابق بالوجود والسابق هو الذي يدركه ما يأتي بعده كما جاء أشقى الناس من أدركته الساعة وهو حي هذا كلامه


أي وفي بعض الروايات أنه قال لها إن ابن عمك لصادق وإن هذا البدء نبوة وفي لفظ إنه لنبي هذه الأمة أي وفي الشفاء أن قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة لقد خشيت على نفسي ليس معناه الشك فيما آتاه الله تعالى من النبوة ولكنه لعله خشى أن لا تحتمل قوته صلى الله عليه وسلم مقاومة الملك وأعباء الوحي بناء على أنه قال ذلك بعد لقاء الملك وإرساله إليه بالنبوة فإن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل
وفي كلام الحافظ ابن حجر اختلف العلماء في هذه الخشية على أثني عشر قولا وأولاها بالصواب وأسلمها من الإرتياب أن المراد بها الموت أو المرض أو دوام المرض هذا كلامه فليتأمل مع رواية خشيت على عقلي
قال وفي بعض الروايات أن خديجة قبل أن تذهب به إلى ورقة ذهبت به إلى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى قرية سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام فقالت له يا عداس أذكرك الله إلا ما أخبرتني هل عندكم علم من جبريل أي فإن هذا الإسم لم يكن معروفا بمكة ولا بغيرها من أرض العرب كما تقدم فقال عداس قدوس قدوس ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل أوثان أي والقدوس المنزه عن العيوب وأن هذا يقال للتعجب كما تقدم فقالت أخبرني بعلمك فيه قال هو أمين الله بينه وبين النبيين وهو صاحب موسى عليهما الصلاة والسلام اه
وفيه أنه سيأتي عند الكلام على ذهابه صلى الله عليه وسلم للطائف بعد موت أبي طالب يلتمس إسلام ثقيف اجتماعه بعداس الموصوف بما ذكر لكن في تلك القصة ما قد يبعد معه كل البعد أنه المذكور هنا فليتأمل ثم رأيت أن عداسا المذكور هنا كان راهبا وكان شيخا كبير السن وقد وقع حاجباه على عينيه من الكبر وأن خديجة قالت له أنعم صباحا يا عداس فقال كأن هذا الكلام كلام خديجة سيدة نساء قريش قالت أجل قال أدنى منى فقد ثقل سمعي فدنت منه ثم قالت له ما تقدم وهذا صريح في أنه غير عداس الآتي ذكره وأنهما اشتركا في الإسم والبلد والدين أي وكونهما غلامين لعتبة بن ربيعة
ففي كلام ابن دحية عداس كان غلاما لعتبة بن ربيعة من أهل نينوى عنده علم من الكتاب فأرسلت إليه خديحة تسأله عن جبريل فقال قدوس قدوس الحديث ولا يخفى أن هذا اشتباه وقع من بعض الرواة بلا شك


وفي رواية أن عداسا هذا قال لها يا خديجة إن الشيطان ربما عرض للعبد فأراه أمورا فخذي كتابي هذا فانطلقي به إلى صاحبك فإن كان مجنونا فإنه سيذهب عنه وإن كان من الله فلن يضره فانطلقت بالكتاب معها فلما دخلت منزلها إذا هي برسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل يقرئه هذه الآيات { ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون } فلما سمعت خديجة قراءته اهتزت فرحا ثم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم فداك أبي وأمي امض معي إلى عداس فلما رآه عداس كشف عن ظهره فإذا خاتم النبوة يلوح بين كتفيه فلما نظر عداس إليه خر ساجدا يقول قدوس قدوس أنت والله النبي الذي بشر بك موسى وعيسى الحديث
وفيه إن كان هذا قبل أن تذهب به إلى ورقة اقتضى أن نزول سورة ن قبل اقرأ و لا يحسن ذلك مع قوله لجبريل ما أنابقارئ إذ هو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ قبل ذلك شيئا ومن ثم كان المشهور أن أول ما نزل اقرأ وكون ن نزلت لهذا السبب مخالف لما ذكر في أسباب النزول أنها نزلت لما وصفه المشركون بأنه مجنون إلا أن يقال لا مانع من تعدد النزول
وذكر ابن دحية أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبرها بجبريل ولم تكن سمعت به قط كتبت إلى بحيرا الراهب فسألته عن جبريل فقال لها قدوس قدوس يا سيد نساء قريش أنى لك بهذا الإسم فقالت بعلى وابن عمي أخبرني بأنه يأتيه فقال إنه السفير بين الله وبين أنبيائه وإن الشيطان لا يجترئ أن يتمثل به ولا أن يتسمى باسمه وهذه العبارة أي كون جبريل هو السفير بين الله وبين أنبيائه صدرت من الحافظ السيوطي وزاد ولا يعرف ذلك لغيره من الملائكة
واعترض عليه بعضهم بأن إسرافيل كان سفيرا بين الله وبينه صلى الله عليه وسلم فعن الشعبي أنه جاءته صلى الله عليه وسلم النبوة وهو ابن أربعين سنة وقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين فلما مضت ثلاث سنين رن بنبوته جبريل وفي لفظ عنه فلما مضت ثلاث سنين تولى عنه إسرافيل وقرن به جبريل أي وقد تقدم أن إسرافيل قرن به صلى الله عليه وسلم قبل النبوة ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه يعلمه الشيء بعد الفيء إلى آخره وحينئذ يلزم أن يكون قرن به بعد النبوة ثلاث سنين أيضا


وسيأتي عن بحث بعض الحفاظ أنها مدة فترة الوحي فليتأمل وأجاب الحافظ السيوطي عن ذلك بأن السفير هو المرصد لذلك وذلك لا يعرف لغير جبريل ولا ينافى ذلك مجئ غيره من الملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان
ولك أن تقول إن كان المراد بالمجيء إليه بوحى من الله كما هو المتبادر فليس في هذه الرواية أن إسرافيل كان يأتيه بوحي في تلك المدة وجواب الحافظ السيوطي بقتضى أن إسرافيل وغيره من الملائكة كان يأتيه بوحي من الله قبل مجيء جبريل له صلى الله عليه وسلم بوحي غير النبوة ولا يخرجه ذلك عن الإختصاص باسم السفير وبأن إسرافيل لم ينزل لغير النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كما ثبت في الحديث فلم يكن السفير بين الله وجميع أنبيائه
قيل وإنما خص بذلك لأنه أول من سجد من الملائكة لآدم ورأيته سئل هل عيسى بعد نزوله يوحى إليه فأجاب بنعم وأورد حديث النواس بن سمعان الذي أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم وفيه التصريح بأنه يوحى إليه قال والظاهر أن الجائي إليه بالوحي جبريل قال بل هو الذي يقطع به ولا يتردد فيه لأن ذلك وظيفته وهو السفير بين الله تعالى وبين أنبيائه لا يعرف ذلك لغيره من الملائكة ثم استدل على ذلك بما يطول
قال وما اشتهر على ألسنة الناس أن جبريل لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو شيء لا أصل له وزعم زاعم أن عيسى إنما يوحى إليه وحى إلهام ساقط قال وحديث لا وحى بعدي باطل أي ويدل له ما رأيته في كلام بعضهم جبريل ملك عظيم ورسول كريم مقرب عند الله أمين على وحيه وهو سفيره إلى أنبيائه كلهم وسماه روح القدس والروح الأمين واختصه بوحيه من بين الملائكة المقربين
قال ورأيت في بعض التواريخ أن جبريل نزل عليه صلى الله عليه وسلم ستا وعشرين ألف مرة ولم يبلغ أحد من الأنبياء هذا العدد والله أعلم
وفي أسباب النزول للواحدي عن علي رضي الله تعالى عنه لما سمع النداء يا محمد قال لبيك قال قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم قال قل { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } حتى فرغ من السورة أي فلما

بلغ { ولا الضالين } فقال قل آمين فقال آمين كما في رواية عن وكيع وابن أبي شيبة وجاء في حديث قال بعضهم إسناده ليس بالقائم إذا دعا أحدكم فليختم بآمين فإن آمين في الدعاء مثل الطابع على الصحيفة وفي الجامع الصغير آمين خاتم رب العالمين على لسان عباده المؤمنين أي خاتم دعاء رب العالمين أي يمنع من أن يتطرق إليه رد وعدم قبول ومن ثم لما سمع صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو قال قد وجب إن ختم بآيمن
فأتى صلى الله عليه وسلم ورقة فذكر له ذلك فقال له ورقة أبشر ثم أبشر فإني أشهد أنك الذي بشر بك ابن مريم فإنك على مثل ناموس موسى وإنك نبي مرسل وإنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك
أقول هذا لا يدل للقول بأن الفاتحة أول ما نزل وعليه كما قال في الكشاف أكثر المفسرين إذ يبعد كل البعد أن تكون هذه الرواية قبل نزول { اقرأ باسم ربك } ثم رأيت عن البيهقي أنه قال فيما تقدم عن أسباب النزول هذا مرسل ورجاله ثقات فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقرأ والمدثر أي والمدثر نزلت بعد يا أيها المزمل
ثم رأيت ابن حجر اعترض ما تقدم عن الكشاف بقوله الذي ذهب إليه أكثر الأمة هو الأول أي القول بأنه اقرأ وأماالذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول هذا كلامه
ثم رأيت الإمام النووي قال القول بأن الفاتحة أول ما نزل بطلانه أظهر من أن يذكر أي ومما يدل على ذلك ما جاء من طرق عن مجاهد أن الفاتحة نزلت بالمدينة ففي تفسير وكيع عن مجاهد فاتحة الكتاب مدنية وفيه أنه جاء عن قتادة أنها نزلت بمكة
وعن علي كرم الله وجهه كما في أسباب النزول للواحدي أنها نزلت بمكة من كنز تحت العرش وفيها عنه لما قام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقال { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } قالت قريش رض الله فاك وفي الكشاف أن الفاتحة نزلت بمكة وقيل نزلت بالمدينة فهي مكية مدنية هذا كلامه وتبعه على ترجيح أنها مكية القاضي البيضاوي حيث قال وقد صح أنها مكية وفي الإتقان وذكر قوم منه أي مما تكرر نزوله الفاتحة فليتأمل فإنه لا يقال ذلك إلا بناء على أنها نزلت بهما أي نزلت

بمكة ثم بالمدينة مبالغة في شرفها وقد أشار القاضي البيضاوي إلى أن تكرير نزولها ليس بمجزوم به وقيل نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة
قال في الإتقان والظاهر أن النصف الذي نزل بالمدينة النصف الثاني قال ولا دليل لهذا القول هذا كلامه
واستدل بعضهم على أنها مكية بأنه لا خلاف أن سورة الحجر مكية وفيها { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } وهي الفاتحة فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرئ عليه الفاتحة والذي نفسي بيده ما أنزل الله تعالى في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها لهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته
وقد حكى بعضهم الإتفاق على أن المراد بالسبع المثاني في آية الحجر هي الفاتحة ويرد دعوى الإتفاق قول الجلال السيوطي وقد صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير السبع المثاني في آية الحجر بالسع الطوال
ومما يدل على أن المراد بها الفاتحة ما ذكر في سبب نزولها وهو أن عيرا لأبي جهل قدمت من الشام بمال عظيم وهي سبع قوافل ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينظرون إليها وأكثر الصاحبة بهم عرى وجوع فخطر ببال النبي صلى الله عليه وسلم شيء لحاجة أصحابه فنزل { ولقد آتيناك } أي أعطيناك { سبعا من المثاني } مكان سبع قوافل ولا تنظر إلى ما أعطيناه لأبي جهل وهو متاع الدنيا الدنية { ولا تحزن عليهم } أي على أصحابك { واخفض جناحك } له فإن تواضعك لهم أطيب لقلوبهم من ظفرهم بما تحب من أسباب الدنيا
وفي زوائد الجامع الصغير لو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات وفي لفظ فاتحة الكتاب شفاء من كل داء وفي لفظ فاتحة الكتاب تعدل ثلثي القرآن فليتأمل ولها إثنان وعشرون إسما
وذكر بعضهم أن لها ثلاثين إسما وذكرها الأستاذ الشيخ أبو الحسن البكري في تفسيره الوسيط قال السهيلي ويكره أن يقال لها أم الكتاب أي لما ورد لا يقولن أحدكم أم الكتاب وليقل فاتحة الكتاب قال الحافظ السيوطي رحمه الله ولا أصل له

في شيء من كتب الحديث وإنما أخرجه ابن الضريس بهذا اللفظ عن ابن سيرين وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تسميتها بذلك هذا كلامه ولا يخفى أنه جاء في تسمية الفاتحة ذكر المضاف تارة وهو سورة كذا وإسقاطه أخرى وتارة جوزوا الأمرين معا وهو يشكل على أن تسمية السور توقيفي
ثم رأيت في الإتقان قال قال الزركشي في البرهان ينبغي البحث عن تعداد الأسامي هل هو توقيفي أو بما يظهر من المناسبات فإن كان الثاني فيمكن الفطن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة تقتضى اشتقاق أسمائها وهو بعيد عن هذا كلامه ويلزم القول بأنها إنما نزلت في المدينة أن مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة كان يصلي بغير الفاتحة قال في أسباب النزول وهذا مما لا تقبله العقول أي لأنه لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة أي ويدل لذلك ما رواه الشيخان لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب وفي رواية لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها الرجل بفاتحة الكتاب والمراد في كل ركعة لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته إذا استقبلت القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت إلى أن قال ثم اصنع ذلك أي القراءة بأم القرآن في كل ركعة وجاء على شرط الشيخين أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها منها عوضا ويدل لذلك أيضا وصف القول بأنها إنما نزلت بالمدينة بأنه هفوة من قائله لأنه تفرد بهذا القول والعلماء على خلافه أي لأن نزولها كان بعد فترة الوحي بعد نزول { يا أيها المدثر } ويلزم على كونها نزلت بعد المدثر أنه صلى الله عليه وسلم صلى بغير الفاتحة في مدة فترة الوحي أي لأن المدثر نزلت بعد فترة الوحي على ما سيأتي
وقد يقال لا ينافيه ما تقدم من أنه لم يحفظ أنه لم يكن في الإسلام صلاة بغير الفاتحة لجواز أن يراد صلاة من الصلوات الخمس وما تقدم مما يدل على تعين الفاتحة في الصلاة يجوز أن يكون صدر منه صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلوات الخمس
وفي الإمتاع إنزال الملك يبشره بالفاتحة وبالآيتين من سورة البقرة يدل على أنه نزلت بالمدينة
فقد أخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نغيضا أو صوتا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم

فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما من قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة هذا كلامه فليتأمل وجه الدلالة من هذا على أنه سيأتي عن الكامل للهذلي ما يصرح بأن خواتيم البقرة نزلت عليه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بقاب قوسين
ومما يدل على أن البسملة آية منها نزولها معها أي كما في بعض الروايات وإلا فالرواية المتقدمة تدل على أنها لم تنزل معها
ويدل لكون البسملة آية من الفاتحة أيضا ما أخرجه الدارقطني وصححه والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم أحدى آياتها
وقد أخرج الدارقطني عن علي رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن السبع المثاني فقال الحمدلله رب العالمين فقيل له إنما هي ست آيات فقال بسم الله الرحمن الرحيم آية وقيل لها السبع المثاني لأنها سبع آيات وتثنى في الصلاة وقيل المثاني كل القرآن لأنه يثنى فيه صفات المؤمنين والكفار والمنافقين وقصص الأنبياء والوعد والوعيد
قال بعضهم والوجه أن يقال المراد بالسبع المثاني السبع الطوال أي كما أنها المراد بقوله تعالى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } على ما تقدم وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والسابعة يونس وقيل براءة وقيل الكهف
وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم عد البسملة آية من الفاتحة وبهذا يعلم ما في تفسير البيضاوي عن أم سلمة من أنه صلى الله عليه وسلم عد بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين آية فقد ذكر بعض الحفاظ أن هذا اللفظ لم يرد عن أم سلمة والذي رواه جماعة من الحفاظ عن أم سلمة بألفاظ تدل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية وحدها
منها أنها ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى في بيتها فيقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } وفي رواية عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصلوات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والإستدلال على أن البسملة آية من الفاتحة بكونها نزلت معها يقتضى أن البسملة ليست آية من { اقرأ باسم ربك }

ومن ثم قال الحافظ الدمياطي نزول اقرأ بسملة يدل على أن البسملة ليست آية من كل سورة واستدل به أي بعدم نزولها في أول سورة اقرأ أيضا كما قال الإمام النووي من يقول إن البسملة ليست بقرآن في أوائل السور أي وإنما أنزلت وكتبت للفصل والتبرك بالإبتداء بها وهذا القول ينسب لقول إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في القديم هو قول قدماء الحنفية
قال وجواب المثبتين أي لقرآنيتها في ذلك أنها نزلت في وقت آخر كما نزل باقي السورة أي سورة اقرأ
وجوابهم أيضا بأن الإجماع من الصحابة والسلف على إثباتها في مصاحفهم مع مبالغتهم في تجريدها عن كتابة غير القرآن فيها حتى إنهم لم يكتبوا آمين فيها واستدل أيضا لعدم قرآنيتها في أوائل السور بعدم تواترها في محلها
ورد بأن عدم تواترها في محلها لا يقتضى سلب القرآنية عنها ورد هذا الرد بأن الإمام الكافيجي قال المختار عند المحققين من علماء السنة وجوب التواتر أي في القرآن في محله ووضعه وترتيبه أيضا كما يجب تواتره في أصله أي وفي الفتوحات البسملة من القرآن بلا شك عند العلماء بالله وتكرارها في السورة كتكرار ما تكرر في القرآن من سائر الكلمات وهو بظاهره يؤيد ما ذهب إليه إمامنا من أنها آية من أول كل سورة ومحتمل لما قاله السهيلي حيث قال نقول إنها آية من كتاب الله مقترنة مع السورة
وفي كلام أبي بكر بن العربي وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة وما سبقه إلى هذا القول أحد فإنه لم يعدها أحد آية من سائر السور
ونقل عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أنها آية من أول الفاتحة دون بقية السور فعن الربيع قال سمعت الشافعي يقول أول الحمد بسم الله الرحمن الرحيم وأول البقرة ألم قال بعضهم وهو يدل على أن البسملة آية من أول الفاتحة دون بقية السور فإنها ليست آية من أولها بل هي آية في أولها إعادة لها وتكريرا لها وربما يوافق ذلك قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بالبسملة والفاتحة هذا كلامه وكونه خص بالبسملة يخالف قوله في الإتقان عن الدارقطني إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري بسم الله الرحمن الرحيم كما سيأتي وسيأتي ما فيه


قيل وإنما تركت البسملة أول براءة لعدم المناسبة بين الرحمة التي تدل عليها البسملة والتبري الذي يدل عليه أول براءة ورده في الفتوحات بأنها جاءت في أوائل السور المبدوءة بويل قال وأين الرحمة من الويل
وذكر بعضهم أن الأنفال وبراءة سورة واحدة أي فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال سألت عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه لم لم يكتبوا بين براءة والأنفال سطر بسم الله الرحم الرحيم فقال كانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل بالمدينة وكانت قصتها شبيهة بالأخرى فظننت أنهما سورة واحدة
وفي كلام بعض المفسرين عن طاوس وعمر بن عبدالعزيز أنهما كانا يقولان إن الضحى وألم نشرح سورة واحدة فكانا يقرآنهما في ركعة واحدة ولا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم وذلك لأنهما رأيا أن أولها مشبه لقوله { ألم يجدك يتيما } وليس كذلك لأن تلك حال إغتامه صلى الله عليه وسلم بإيذاء الكفار فهي حال محنة وضيق وهذه حال إنشراح الصدر وتطييب القلب فكيف يجتمعان هذا كلامه
وذكر أئمتنا أنه يكفي في وجوب الإتيان بالبسملة في الفاتحة في الصلاة الظن المفيد له خبر الآحاد ولعدم التواتر بذلك لا يكفر من نفى كونها آية من الفاتحة بإجماع المسلمين وقد جهر بها صلى الله عليه وسلم كما رواه جمع من الصحابة قال ابن عبد البر بلغت عدتهم أحدا وعشرين صحابيا
وأما ما رواه مسلم عن أنس قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم أجيب عنه بأنه لم ينف إلا السماع ويجوز أنهم تركوا الجهر بها في بعض الأوقات بيانا للجواز ويؤيده قول بعضهم كانوا يخفون البسملة
وأما ما رواه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين فمعناه بسورة الحمد لا بغيرها من القرآن لا يبعد هذا الحمل ما في رواية عبدالله بن مغفل أنه قال سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال أي بني إياك والحدث فإني صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقوله فإذا قرأت فقل الحمد لله رب العالمين فإنه لما لم يسمع فهم أنهم لم يأتوا بها رأسا فقال ذلك وكذا يقال فيما روى


كانوا لا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم فعلى تقدير ثبوت تلك الرواية وصحتها يجوز أن يكون الراوي فهم مما تقدم ترك البسملة فروي بالمعنى فأخطأ
ومما استدل به على أن البسملة ليست آية من الفاتحة ما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى قسمت الصلاة أي الفاتحة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال مجدني عبدي وإذا قال مالك يوم الدين قال فوض إلي عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فيقول عبدي اهدنا الصراط المستقيم إلى آخرها
قال أبو بكر بن العربي المالكي فانتفى بذلك أن تكون بسم الله الرحمن الرحيم آية منها من وجهين أحدهما أنه لم يذكرها في القسمة والثاني أنها إن صارت في القسمة لما كانت نصفين بل يكون ما لله فيها أكثر مما للعبد لأن بسم الله ثناء على الله تعالى لا شيء للعبد فيه ثم ذكر أن التعبير بالصلاة عن الفاتحة يدل على أن الفاتحة من فروضها وأطال في ذلك وسيأتي في الحديبية أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب بإسم اللهم موافقة للجاهلية قيل كتب ذلك في أربعة كتب وأول من كتبها أمية بن أبي الصلت فلما نزل { بسم الله مجراها ومرساها } كتب بسم الله ثم لما نزل { ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } كتب بسم الله الرحمن ثم نزلت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم كتب بسم الله الرحمن الرحيم كذا نقل عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم حتى نزلت سورة النمل وهذا يفيد أن البسملة لم تنزل قبل ذلك في شيء من أوائل السور ويؤيده قول السهيلي ثم كان بعد ذلك أي بعد نزل { وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة أي تمييزا لها عن غيرها وقد ثبت في سواد المصحف الإجماع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ذلك هذا كلامه فليتأمل ما فيه فإنه قد يدل للقول بأن البسملة ليست من أوائل السور وإنما هي للفصل فقد علمت أن البسملة نزلت أول الفاتحة على ما في بعض الروايات
ونقل أبو بكر التونسي إجماع علماء كل أمة على أن الله سبحانه وتعالى افتتح جميع كتبه ببسم الله الرحمن الرحيم


وفي الإتقان عن الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض الصحابة لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري بسم الله الرحمن الرحيم وبهذا يعلم ما في الخصائص الصغرى أن البسملة من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقوله صلى الله عليه وسلم على نبي بعد سليمان غيري يشكل عليه أن عيسى بين سليمان وبينه صلى الله عليه وسلم وكتابه الإنجيل وهو من جملة كتب الله المنزلة
وعن النقاش أن البسملة لما نزلت سبحت الجبال فقالت قريش سحر محمد الجبال قال السهيلي إن صح ما ذكره فإنما سبحت الجبال خاصة لأن البسملة إنما نزلت على آل داود وقد كان الجبال تسبح مع داود والله أعلم
ثم لم يلبث ورقة أن توفى قال سبط ابن الجوزي وهو آخر من مات في الفترة ودفن بالحجون فلم يكن مسلما ويؤيده ما جاء في الرواية في سندها ضعف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ما ت على نصرانيته وهذا يدل على أن من أدرك النبوة وصدق بنبوته صلى الله عليه وسلم ولم يدرك الرسالة بناء على تأخرها لا يكون مسلما بل من أهل الفترة فلما توفى ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رأيت القس يعني ورقة في الجنة وعليه ثياب حرير أي والقس بكسر القاف رئيس النصارى وبفتحها تتبع الشي
هذا وفي القاموس القس مثلث القاف تتبع الشيء وطلبه كالتقسس وبالفتح صاحب الإبل الذي لا يفارقها ورئيس النصارى في العلم وفي رواية أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس وفي رواية قد رأيته فرأيت عليه ثيابا بيضا وأحسبه أي أظنه لو كان من أهل النار لم تكن عليه ثياب بيض
أقول صريح الرواية الثالثة أنه لم يره في الجنة فقد تعددت الرؤية وأما الرواية الثانية فلا تخالف الرواية الأولى لأن السندس من أفراد الحرير فلا دلالة في ذلك على التعدد والله أعلم وفي رواية لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين لأنه آمن بي وصدقني أي قبل الدعوة التي هي الرسالة وحينئذ يكون معنى قوله له جنة أو جنتين هيئت له جنة أو جنتين ولا مانع أن يكون بعض أهل الفترة من أهل الجنة إذ لو كان مسلما حقيقة بأن أدرك الدعوة وصدق به لم يقل فيه صلى الله عليه وسلم وأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض وجزم ابن كثير بإسلامه


قال بعضهم وهو الراجح عند جهابذة الأئمة أي بناء على أنه أدرك الدعوة إلى الله تعالى التي هي الرسالة
ففي الإمتاع أن ورقة مات في السنة الرابعة من المبعث ويوافقه ما يأتي عن سيرة ابن إسحاق وعن كتاب الخميس وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم لأنه آمن بي وصدقني واضحا لكن ينازع في ذلك قوله وأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض وسيأتي عن الذهبي ما يخالفه
ويخالفه أيضا ما تقدم عن سبط ابن الجوزي أنه من أهل الفترة وعن يحيى بن بكير قال سألت جابر بن عبدالله يعني عن ابتداء الوحي فقال لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جاودة بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا فنظرت عن يساري فلم أر شيئا فنظرت من خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فرأيت شيئا بين السماء والأرض أي وفي رواية فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي زاد في رواية متربعا عليه وفي لفظ على عرش بين السماء والأرض فرعبت منه فأتيت خديجة فقلت دثروني دثروني أي وفي رواية زملوني زملوني وصبوا على ماء باردا فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت هذه الآية { يا أيها المدثر } أي الملتف بثيابه { قم فأنذر وربك فكبر } ولم يقل بعد فأنذر وبشر لأنه كما بعث بالنذارة بعث بالبشارة لأن البشارة إنما تكون لمن آمن ولم يكن أحد آمن قبل وهذا يدل على أن هذه الآية أول ما نزل أي قبل اقرأ وأن النبوة والرسالة مقترنان
قال الإمام النووي والقول بأن أول ما نزل { يا أيها المدثر } ضعيف باطل وإنما نزلت بعد فترة الوحي أي ومما يدل على ذلك قوله فإذا الملك الذي جاءني بحراء ومما يدل على ذلك أيضا ما في البخاري أن في رواية جابر أنه صلى الله عليه وسلم حدث عن فترة الوحي أي لا عن ابتداء الوحي فما تقدم من قول بعضهم يعني عن إبتداء الوحي فيه نظر وكذا في قول الراوي عن جابر جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت لأن جواره بحراء كان قبل فترة الوحي إلا أن يقال جابر جاء عنه روايتان واحدة في ابتداء الوحي وأخرى في فترة الوحي وبعض الرواة خلط فإن صدر الرواية يدل على أن ذلك كان عند ابتداء الوحي وعجزها يدل على أن ذلك كان في فترة الوحي


هذا ويجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم جاور بحراء في مدة فترة الوحي ويؤيد ذلك ما في البيهقي عن مرسل عبيد بن عمير أنه صلى الله عليه وسلم كان يجاور في كل سنة شهرا وهو رمضان وكان ذلك في مدة فترة الوحي وسيأتي الجمع بين الروايات في أول ما نزل وعن إسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير أنه حدث عن خديجة رضي الله تعالى عنها أنه قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك قال نعم أي وذلك قبل أن يأتيه بالقرآن أي بشيء منه وهو { اقرأ باسم ربك } بناء على أنه أول ما نزل ولا ينافي ذلك قولها هذا الذي يأتيك إذا جاءك لأن المعنى الذي يتراءى لك إذا رأيته فجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خديجة هذا جبريل قد جاءني أي قد رأيته لكن سيأتي عن ابن حجر الهيتمي أن ذلك كان بعد البعثة قالت قم ياابن عمي فاجلس على فخذي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذها قالت هل تراه قال نعم قالت فتحول فاجلس في حجري فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حجرها قالت هل تراه قال نعم فألقت خمارها و رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها ثم قالت هل تراه قال لا قالت يا ابن عمي اثبت وأبشر فوالله إنه لملك ما هذا بشيطان وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** وأتاه في بيتها جبرئيل ** ولذى اللب في الأمور ارتياء ** ** فأماطت عنها الخمار لتدرى ** أهو الوحي أم هو الإغماء ** ** فاختفى عند كشفها الرأس حبري ** ل فما عاد أو أعيد الغطاء ** ** فاستبانت خديجة أنه الكن ** ز الذي حاولته والكيمياء **
أي وأتاه قال ابن حجر أي بعد البعثة أي النبوة واجتماعه به في بيتها حامل الوحي جبريل ولصاحب العقل الكامل في الأحوال التي قد تشتبه استبصار فبسبب كمال استبصارها أزالت عن رأسها ما يغطى به الرأس لتعلم عين اليقين أن هذا الذي يعرض له صلى الله عليه وسلم هل هو حامل الوحي الذي كان يأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله أو هو الإغماء الذي هو بعض الأمراض الجائزة عليهم عليهم الصلاة والسلام
وفيه أنه ينبغي أن يكون المراد به الإغماء الناشئ عن لمة الجن فيكون من الكهان لا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي قال بسببه لخديجة لقد خشيت على نفسي وسيأتي

أنه كان يعتريه وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن ما كان يعتريه عند نزول الوحي عليه أي من الإغماء إلى آخره فبسبب إزالتها ما تغطى به رأسها عنها اختفى فلم يعد إلى أن أعادت غطاء رأسها عليه فاستبانت علمت علم اليقين أن ما يعرض له صلى الله عليه وسلم هو الوحي أي لا الجني لأن الملك لا يرى الرأس المكشوف من المرأة بخلاف الجنى وشبه الناظم ذلك بالشيء النفيس والأمر العظيم لأن كلا من الكنز والكيمياء لا يظفر به إلا القليل من الناس لعزتهما
أقول وفي الخصائص الكبرى ما يدل لما قلناه من أن أول ما فعلته خديجة كان عند ترائيه له صلى الله عليه وسلم وقبل اجتماعه به
وقول بعضهم إن ذلك من خديجة كان بإرشاد من ورقة فإنه قال لها اذهبي إلى المكان الذي رأى فيه ما رأى فإذا رآه فتحسري فإن لم يكن من عند الله لا يراه أي فتراءى له وهو في بيت خديجة ففعلت قالت فلما تحسرت تغيب جبريل فلم يره فرجعت فأخبرت ورقة فقال إنه ليأتيه الناموس الأكبر
وفي فتح الباري أن في سيرة ابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال رضي الله تعالى عنه وهو يعذب وذلك يقتضى أنه تأخر إلى زمن الدعوة وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام أي وفي كلام صاحب كتاب الخميس في الصحيحين أن الوحي تتابع في حياة ورقة وأنه آمن به وتقدم أنه الموافق لما في الإمتاع من أنه مات في السنة الرابعة من البعثة وتقدم أنه مخالف لما تقدم عن سبط ابن الجوزي ومخالف أيضا لقول الذهبي الأظهر أنه مات بعد النبوة وقبل الرسالة أي بناء على تأخرها ويدل لتأخرها ما تقدم من قول ورقة يا ليتني فيها جذع فقد تقدم أن المراد يا ليتني أكون في زمن الدعوة أي ومن أدرك النبوة ولم يدرك البعثة لا يكون مسلما بل هو كما تقدم من أهل الفترة لأن الإيمان النافع عند الله تعالى الذي يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود في النار التصديق بالقلب بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم أي بما أرسل به وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكن من ذلك حيث لم يطلب منه ذلك ويمتنع
وقيل لا بد مع ذلك من الإقرار بالشهادتين للتمكن من وحيث أدرك الرسالة فقد أسلم وحينئذ يكون صحابيا


ونقل بعضهم عن الحافظ ابن حجر أنه في الإصابة تردد في ثبوت الصحبة لورقة بن نوفل قال لكن المفهوم من كلامه في شرح النخبة ثبوتها وأنه يفرق بينه وبين بحيرا بأن ورقة أدرك البعثة وأنه لم يدرك الدعوة بخلاف بحيرا وهو ظاهر والتعريف السابق يشمله هذا كلامه
وتعريفه السابق للصحابي هو من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا وعبارة شرح النخبة هل يخرج أي من تعريف الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به من لقيه مؤمنا بأنه سيبعث ولم يدرك البعثة محل نظر
ولا يخفى عليك أن ما في شرح النخبة لا يدل لهذا البعض على أنه تقدم أن ابن حجر في الإصابة قال في بحيرا ما أدرى أدرك البعثة أم لا
ولا يخفى عليك أن ما تقدم عن ابن حجر من أن ورقة أدرك البعثة وأنه لم يدرك الدعوة فإنه يقتضى أن البعثة عبارة عن النبوة لا عن الرسالة وأن الرسالة هي الدعوة لا البعثة
وروى ابن إسحاق عن شيوخه أنه صلى الله عليه وسلم كان يرقى من العين وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه قبل ذلك هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصيبه قبل نزول القرآن ما يشبه الإغماء بعد حصول الرعدة وتغميض عينيه وتربد وجهه ويغط كغطيط البكر فقالت له خديجة أوجه إليك من يرقيك قال أما الآن فلا ولم أقف على من كان يرقيه ولا على ما كان يرقى به
واشتهر على بعض الألسنة أن آمنة يعنى أمه صلى الله عليه وسلم رقت النبي من العين ولعل مستند ذلك ما تقدم عن أمه أنها لما كانت حاملا به جاءها الملك وقال لها قولي إذا ولدتيه أعيذه بالواحد من شر كل حاسد والظاهر أنها قالت ذلك
وعن أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها أنها قالت يا رسول الله إن ابني جفعر أي ولديها من جعفر بن أبي طالب تصيبهما العين أفنسترقى لهما قال نعم لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين
فإن قيل بهذه الأمور علم صلى الله عليه وسلم أن جبريل ملك لا جنى فمن أين علم أنه يتكلم عن الله تعالى أجيب بأنه على تسليم أن قول ورقة المذكور وما تقدم عنه لا يفيده العلم فقد يقال خلق الله تعالى فيه صلى الله عليه وسلم علما ضروريا بعد ذلك علم به أنه

جبريل وأنه يتكلم عن الله تعالى كا خلق في جبريل علما ضروريا بأن الموحى إليه هو الله
وقد ذكر بعض المفسرين أنه صلى الله عليه وسلم كان له عدو من شياطين الجن يقال له الأبيض كان يأتيه في صورة جبريل واعترض بأنه يلزم عليه عدم الوثوق بالوحي
وأجيب عنه بمثل ما هنا وهو أن الله تعالى جعل في النبي صلى الله عليه وسلم علما ضروريا بميز به بين جبريل عليه السلام وبين هذا الشيطان ولعل هذا الشيطان غير قرينه الذي أسلم
وفي كلام ابن العماد وشيطان الأنبياء يسمى الأبيض والأنبياء معصومون منه وهذا الشيطان هو الذي أغوى به برصيصا الراهب العابد بعد عبادته خمسمائة سنة وهو المعنى بقوله تعالى { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك } هذا كلامه والله أعلم
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان من الأنبياء من يسمع الصوت أي ولا يرى مصوتا فيكون بذلك نبيا قال بعضهم يحتمل أن يكون صوتا خلقه الله تعالى في الجو أي ليس من جنس الكلام وخلق لذلك النبي فهم المراد منه عند سماعه
ويحتمل أن يكون من جنس الكلام المعهود يتضمن كون ذلك الشخص صار نبيا
قال صلى الله عليه وسلم وإن جبريل يأتيني فيكلمني كما يأتي أحدكم صاحبه فيكلمه ويبصره من غير حجاب أي وفي رواية كنت أراه أحيانا كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربال
ولا يخفى أن هاتين الحالتين كل منهما حالة من حالات الوحي وحينئذ إما أن يكون جبريل عليه السلام على صورة دحية الكلبي وهو بكسر الدال المهملة على المشهور وحكى فتحها أو على صورة غيره ومنه ما وقع في حديث عمر رضي الله تعالى عنه بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد الحديث ورواية البخاري تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعرفه إلا في آخر الأمر وورد ما جاءني يعني جبريل في صورة لم أعرفها إلا في هذه المرة


وفي صحيح ابن حبان والذي نفسي بيده ما اشتبه على منذ أتاني قبل مرته هذه وما عرفته حتى ولى وبهذا يعلم ما في كلام الإمام السبكي حيث قسم الوحي إلى ثلاثة أقسام حيث قال في تائيته ** ولازمك الناموس إما بشكله ** وإما بنفث أو بحلية دحية **
فليتأمل قيل وكان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة فإن قيل إذا جاء جبريل عليه السلام على صورة الآدمي دحية أو غيره هل هي الروح تتشكل بذلك الشكل وعليه هل يصير جسده الأصلي حيا من غير روح أو يصير ميتا
أجيب بأن الجائي يجوز أن لا يكون هو الروح بل الجسد لأنه يجوز أن الله تعالى جعل في الملائكة قدرة على التطور والتشكل بأي شكل أرادوه كالجن فيكون الجسد واحدا ومن ثم قال الحافظ ابن حجر إن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لم يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط
وأخذ من ذلك بعض غلاة الشيعة أنه لا مانع ولا بعد أن الحق سبحانه وتعالى يظهر في صورة علي رضي الله تعالى عنه وأولاده أي الأئمة الإثنى عشر وهم الحسن والحسين وابن الحسين زين العابدين وابنه محمد الباقر وابن محمد الباقر جعفر الصادق وابن جعر الصادق موسى الكاظم وابن موسى الكاظم على الرضا وابن علي الرضا محمد الجواد وابن محمد الجواد على التقي والحادي عشر حسن العسكري والثاني عشر ولد حسن العسكري وهو المهدي صاحب الزمان وهو حي باق إلى أن يجتمع بسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام على ما فيه فقد قال عبدالله بن سبأ يوما لعلي رضي الله تعالى عنه أنت أنت يعني أنت الإله فنفاه على إلى المدائن وقال لا تساكني في بلد أبدا وكان عبدالله بن سبأ هذا يهوديا كان من أهل صنعاء وأمه يهودية سوداء ومن ثم كان يقال له ابن السوداء وكان أول من أظهر سب الشيخين ونسبهما للإفتيات على سيدنا علي رضي الله تعالى عنه
ولما قيل لسيدنا علي لولا أنك تضمر ما أعلن به هذا ما اجترأ على ذلك فقال علي معاذ الله أنى أضمر لهما ذلك لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل فأرسل إلى ابن سبأ فأظهر الإسلام في أول خلافة عثمان وقيل في أول خلافة عمر وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام وخذلان أهله


وكان يقول قبل إظهاره الإسلام في يوشع بن نون بمثل ما قال في علي وكان يقول في علي إنه حي لم يقتل وإن فيه الجزء الإلهي وإنه يجئ في السحاب والرعد صوته والبرق سوطه وإنه ينزل بعد ذلك إلى الأرض فيملؤها عدلا كما ملئت جورا وظلما وعبدالله هذا كان يظهر أمر الرجعة أي أنه صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى وكان يقول العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدنيا ويكذب برجعة محمد وقد قال الله تعالى { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } فمحمد أحق بالرجوع من عيسى وأظهر أمر الوصية أي أن عليا رضي الله تعالى عنه أوصى له صلى الله عليه وسلم بالخلافة وكان هو السبب في إثارة الفتنة التي قتل فيها عثمان رضي الله تعالى عنه كما سيأتي
ومن غلاة الشيعة من قال بألوهية أصحاب الكساء الخمسة محمد صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم
ومنهم من قال بألوهية جعفر الصادق وألوهية آبائه وهم الحسين وابنه زين العابدين وابن زين العابدين محمد الباقر وهؤلاء الشيعة موافقون في ذلك لمن يقول بالحلول وهم الحلاجية أصحاب حسين بن منصور الحلاج كانوا إذا رأوا صورة جميلة زعموا أن معبودهم حل فيها
وممن زعم الحلول حتى ادعى الألوهية المقنع عطاء الخراساني وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة ادعى أن الله عزوجل في صورة آدم ثم في صورة نوح ثم إلى أن حل في صورته هو فاقتنن به خلق كثير بسبب التمويهات التي أظهرها لهم فإنه كان يعرف شيئا من السحر والنيرنجيات فقد أظهر قمرا يراه الناس من مسافة شهرين من موضعه ثم يغيب ولما اشتهر أمره ثار عليه الناس وقصدوه ليقتلوه وجاءوا إلى القعلة التي كان متحصنا بها فلما علم ذلك أسقى أهله سما فماتوا ومات ودخل الناس تلك القلعة فقتلوا من بقى حيا بها من أتباعه
والقول بالإتحاد كفر فقد قال العز بن عبدالسلام من زعم أن الإله يحل في شيء من أجسام الناس أو غيرهم فهو كافر وأشار إلى أنه كافر إجماعا من غير خلاف وأنه لا يجرى فيه الخلاف الذي جرى في تكفير المجسمة ومن ثم ذكر القاضي عياض في الشفاء أن من ادعى حلول الباري في أحد الأشخاص كان كافرا بإجماع المسلمين


وقول بعض العارفين وهو أبو يزيد البسطامي سبحاني ما أعظم شأني وقوله { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } وقوله وأنا ربي الأعلى وقوله أنا الحق وهو أنا وأنا هو ليس من دعوى الحلول في شيء وإنما قوله سبحاني إني أنا الله محمول على الحكاية أي قال ذلك على لسان الحق من باب حديث إن الله تعالى قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده وقوله أنا ربي الأعلى وأنا الحق الخ إنما قال ذلك لأنه انتهى سلوكه إلى الله تعالى بحيث استغرق في بحر التوحيد بحيث غاب عن كل ما سواه سبحانه وصار لا يرى في الوجود غيره سبحانه وتعالى الذي هو مقام الفناء ومحو النفس وتسليم الأمر كله له تعالى وترك الإرادة منه والإختيار
فالعارف إذا إلى هذا المقام وصل ربما قصرت عبارته عن بيان ذلك الحال الذي نازله فصدرت عنه تلك العبارة الموهمة للحلول
وقد اصطلحوا على تسمية هذا المقام الذي هو مقام الفناء بالإتحاد ولا مشاحة في الإصطلاح لأنه اتحد مراده بمراد محبوبه فصار المرادان واحدا لفناء إرادة المحب في مراد المحبوب فقد فنى عن هوى نفسه وحظوظها فصار لا يحب إلا لله ولا يبغض إلالله ولا يوالى إلالله ولا يعادي إلالله ولا يعطى إلا لله ولا يمنع إلا لله ولا يرجو إلا لله ولا يستعين إلا بالله فيكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
وفي كلام سيدي علي رضي الله تعالى عنه حيث أطلق القول بالإتحاد في كلام القوم في الصوفية فمرادهم فناء مرادهم في مراد الحق جل وعلا كما يقول بين فلان وفلان اتحاد إذا عمل كل منهما على وفق مراد الآخر { ولله المثل الأعلى } هذا كلامه رضي الله تعالى عنه ورضى عنا به وهذا مقام غير مقام الوحدة المطلقة الخارجة عن دائرة العقل التي ذكر السعد والسيد أن القول بها باطل وضلال أي لأنه يلزم عليها القول بالجمع بين الضدين
فقد قال بعض العلماء حضرة الجمع عبارة عن شهود اجتماع الرب والعبد في حال فناء العبد فيكون موجودا في آن واحد ولا يدرك ذلك إلا من أشهده الله الجمع بين الضدين ومن لم يشهد ذلك أنكره ويجوز أن يكون الجسد للملك متعددا وعليه فمن الممكن أن يجعل الله لروح الملك قوة يقدر بها على التصرف في جسد آخر غير جسدها المعهود مع تصرفها في ذلك الجسد المعهود كما هو شأن الأبدال لأنهم يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحا آخر مشبها لشبحهم الأصلي بدلا عنه


وقد ذكر ابن السبكي في الطبقات أن كرامات الأولياء أنواع وعد منها أن يكون لهم أجساد متعددة قال وهذا الذي تسميه الصوفية بعالم المثال ومنه قصة قضيب البان وغيره أي كواقعة الشيخ عبدالقادر الطحطوطي نفعنا الله تعالى به
فقد ذكر الجلال السيوطي رحمه الله تعالى أنه رفع إليه سؤال في رجل حلف بالطلاق أن ولى الله الشيخ عبدالقادر الطحطوطي بات عنده ليلة كذا فحلف آخر بالطلاق أنه بات عنده تلك الليلة بعينها فهل يقع الطلاق على أحدهما قال فأرسلت قاصدي إلى الشيخ عبدالقادر فسأله عن ذلك فقال ولو قال أربعة إني بت عندهم لصدقوا فأفتيت أنه لا حنث على واحد منهما لأن تعدد الصور بالتخيل والتشكل ممكن كما يقع ذلك للجان
وقد قيل في الأبدال إنهم إنما سموا أبدالا لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم الأول شبحا آخر شبيها بشبحهم الأصلي بدلا عنه ويقال عالم المثال كما تقدم فهو عالم متوسط بين عالم الأجساد وعالم الأرواح فهو الطف من عالم الاجساد وأكثف من عالم الأرواح فالأرواح تتجسد وتظهر في صور مختلفة من عالم المثال قال وهذا الجواب أولى مما تكلفه بعضهم في الجواب عن جبريل بأنه كان يندمج بعضه في بعض أي الذي أجاب به الحافظ ابن حجر
ومما يدل على وجود المثال رؤيته صلى الله عليه وسلم للجنة والنار في عرض الحائط وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى { لولا أن رأى برهان ربه } بأنه مثل له يعقوب بمصر وهو بالشام
ومن ذلك ما اشتهر أن الكعبة شوهدت تطوف ببعض أولياء في غير مكانها وممن وقع له ذلك أبو يزيد البسطامي والشيخ عبدالقادر الجيلي والشيخ إبراهيم المتبولي نفعنا الله تعالى ببركاتهم ولعل مجئ جبريل على صورة دحية كان في المدينة بعد إسلام دحية وإسلامه كان بعد بدر فإنه لم يشهدها وشهد المشاهد بعدها إذ يبعد مجيئه على صورة دحية قبل إسلامه
قال الشيخ الأكبر رضي الله تعالى عنه دحية الكلبي كان أجمل أهل زمانه وأحسنهم صورة فكان الغرض من نزول جبريل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في صورته إعلاما من الله تعالى أنه ما بيني وبينك يا محمد سفير إلا صورة الحسن والجمال وهي التي لك عندي فيكون ذلك بشرى له ولا سيما إذا أتى بأمر الوعيد والزجر فتكون

تلك الصورة الجميلة تسكن منه ما يحركه ذلك الوعيد والزجر هذا كلامه وهو واضح لو كان لا يأتيه إلا على تلك الصورة الجميلة إلا أن يدعى أن من حين أتاه على صورة دحية لم يأته على صورة آدمي غيره وتكون واقعة سيدنا عمر سابقة على ذلك لكن تقدم أنه كان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة أي لا بالوعيد والزجر فليتأمل
وفي البرهان للزركشي في التنزيل أي تلقى القرآن طريقان
أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل أي لأن الأنبياء يحصل لهم الإنسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة الإلهية من غير إكتساب فيما هو أقرب من لمح البصر
والثاني أن الملك من الملكية البشرية إلى حتى أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه هذا كلامه والراجح أن المنزل اللفظ والمعنى تلقفه جبريل من الله تعالى تلقفا روحانيا أو أن الله تعالى خلق تلك الألفاظ أي الأصوات الدالة عليها في الجو وأسمعها جبريل وخلق فيه علما ضروريا أنها دالة على ذلك المعنى القديم القائم بذاته تعالى وأوحاه إليه صلى الله عليه وسلم كذلك أو حفظه جبريل من اللوح المحفوط ونزل به
واعلم أن من حالات الوحي النفث أي أنه كان ينفث في روعه الكلام نفثا قال صلى الله عليه وسلم إن روح القدس أي المخلوق من الطهارة يعنى جبريل نفث أي ألقى
والنفث في الأصل النفخ اللطيف الذي لا ريق معه في روعي بضم الراء أي قلبي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب أي عاملوا بالجميل في طلبكم وتتمته ولا يحملنكم إستبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله أي كالكذب فإن ما عند الله لن ينال إلا بطاعته
وفي كلام ابن عطاء الله الإجمال في الطلب يحتمل وجوها كثيرة
منها أن لا يطلبه مكبا عليه مشتغلا عن الله تعالى به ومنها أن يطلبه من الله تعالى ولا يعين قدرا ولا وقتا لأن من طلب وعين قدرا أو وقتا فقد تحكم على ربه وأحاطت الغفلة بقلبه ومنها أن يطلب وهو شاكر لله إن أعطى وشاهد حسن إختياره إذا منع ومنها أن يطلب من الله تعالى ما فيه رضاه ولا يطلب ما فيه حظوظ دنياه


ومنها أن يطلب ولا يستعجل الإجابة وفي حديث ضعيف اطلبوا الحوائج بعزة النفس فإن الأمور تجرى بالمقادير
ومن حالات الوحي أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس وهي أشد الأحوال عليه صلى الله عليه وسلم أي لما قيل إنه كان يأتيه في هذه الحالة بالوعيد والنذارة
أقول روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه وهو أخو أبو جهل لأبويه وكان يضرب به المثل في السودد حتى قال الشاعر ** أحسبت أن أباك حين تسبنى ** في المجد كان الحارث بن هشام ** ** أولى قريش بالمكارم والندى ** في الجاهلية كان والإسلام **
أسلم يوم الفتح وسيأتي أنه استجار في ذلك اليوم بأم هانئ أخت علي بن أبي طالب وأراد علي قتله فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ وحسن إسلامه وشهد حنينا وكان من المؤلفة كما سيأتي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي أي حامله الذي هو جبريل قال أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيقصم بالفاء أي يقلع عني وقد وعيت ما قال وفي رواية يأتيني أحيانا له صلصلة كصلصلة الجرس وأحيانا يتمثل لي الملك الذي هو حامل الوحي رجلا أي يتصور بصورة الرجل وفي رواية في صورة الفتي فيكلمني فأعي ما يقول وروى أنه في الحالة الثانية ينفلت منه ما يعيه بخلاف الحالة الأولى
ونص هذا الرواية كان الوحي يأتيني على نحوين يأتيني جبريل فيلقيه على كما يلقى الرجل على الرجل فذلك ينفلت مني ويأتيني في شيء مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي فذاك الذي لا ينفلت مني
قيل وإنما كان ينفلت منه في الحالة الأولى لشدة تأنسه بحامله لأنه يأتي إليه في صورة يعهدها ويخاطبه بلسان يعهده فلا يثبت فيما ألقى إليه بخلافه في الحالة الثانية لأن سماع مثل هذاالصوت الذي يفزع منه القلب مع عدم رؤية أحد يخاطبه إذا علم أنه وحي واضطر إلى التثبيت في ذلك وقولنا أي حامله يخالف قول الحافظ ابن حجر حيث ذكر أن قوله مثل صلصة الجرس بين بها صفة الوحي لا صفة حامله
وفيه أن ذلك لا يناسب قوله وقد وعيت ما قال وقول بعضهم الصلصلة المذكورة

هي صوت الملك بالوحي وقوله يأتيني أحيانا له كصلصلة الجرس وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا وكان صلى الله عليه وسلم يجد ثقلا عند نزول الوحي ويتحدر جبينه عرقا في البرد كأنه الجمان وربما غط كغطيط البكر محمرة عيناه
وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه كان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقل لذلك ومرة وقع فخذه على فخذي فوالله ما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وربما أوحى إليه وهو على راحلته فترعد حتى يظن أن ذراعها ينفصم وربما بركت
أي وجاء أنه لما نزلت سورة المائدة عليه صلى الله عليه وسلم كان على ناقته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها
وفي رواية فاندق كتف راحلته العضباء من ثقل السورة ولا يخالفه ما قبله لأنه جاز أن يكون حصل لها ذلك فكان سببا لنزوله ثم رأيت في رواية ما يصرح بذلك
وجاء ما من مرة يوحى إلى إلا ظننت أن نفسي تقبض منه وعن أسماء بنت عميس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يكاد يغشى عليه وفي رواية يصير كهيئة السكران
أقول أي يقرب من حال المغشى عليه لتغيره عن حالته المعهودة تغيرا شديدا حتى تصير صورته صورة السكران أي مع بقاء عقله وتمييزه
ولا ينافى ذلك قول بعضهم ذكر العلماء أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ عن الدنيا لأنه يجوز أن يكون مع ذلك على عقله وتمييزه على خلاف العادة وهذا هو اللائق بمقامه صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا ينتقض وضوؤه
ثم رأيت صاحب الوفاء قال فإن قال قائل ما كان يجرى عليه صلى الله عليه وسلم من البرحاء حين نزول الوحي هل ينتقض وضوؤه
والجواب لا لأنه صلى الله عليه وسلم كان محفوظا في منامه تنام عيناه ولا ينام قلبه فإن كان النوم الذي يسقط فيه الوكاء لا ينقض وضوءه فالحالة التي أكرم فيها بالمسارة وإلقاء الهدى إلى قلبه أولى لكون طباعه فيها معصومة من الأذى هذا كلامه وما ذكرناه أولى لما تقرر أن الإغماء أبلغ من النوم فليتأمل
وفي كلام الشيخ محيى الدين ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم وجميع من يأتيه الوحي

من الأنبياء كان إذا جاءه الوحي يستلقى على ظهره حيث قال سبب أضطجاع الأنبياء على ظهورهم عند نزول الوحي إليهم أن الوارد الإلهي الذي هو صفة القيومية إذا جاءهم اشتغل الروح الإنساني عن تدبيره فلم يبق للجسم من يحفظ عليه قيامه ولا قعوده فرجع إلى أصله وهو لصوقه بالأرض
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي صدع فيغلف رأسه بالحناء قيل وهو محمل قول بعض الصحابة إنه صلى الله عليه وسلم كان يخضب بالحناء وإلا فهو عليه الصلاة والسلام لم يخضب لأنه لم يبلغ سنا يخضب فيه
وفيه أنه أمر بالخضاب للشباب فقد جاء اختضبوا بالحناء فإنه يزيد في شبابكم وجمالكم ونكاحكم وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه حتى ينقضى الوحي وفي لفظ كان إذا نزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي استقبلته الرعدة وفي رواية كرب لذلك وتربد له وجهه وغمض عينيه وربما غط كغطيط البكر
وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم السورة الشديدة أخذه من الشدة والكرب على قدر شدة السورة وإذا أنزل عليه السورة اللينة أصابه من ذلك على قدر لينها
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوى النحل
وذكر الحافظ ابن حجر أن دوى النحل لا يعارض صلصلة الجرس أي المتقدم ذكرها لأن سماع الدوى بالنسبة للحاضرين والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالراوي شبه بدوي النحل والنبي صلى الله عليه وسلم شبه بصلصلة الجرس أي فالمراد بهما شيء واحد والله أعلم
ومن حالاته أي حالات الوحي أي حامله أنه كان يأتيه على صورته التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح
أقول فيوحى إليه في تلك الحالة كما هو المتبادر وفيه أنه جاء عن عائشة وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل على صورته التي خلقه الله

عليها إلا مرتين حين سأله أن يريه نفسه فقال وددت أني رأيتك في صورتك أي وذلك بحراء أوائل البعثة بعد فترة الوحي بالأفق الأعلى من الأرض وهذه المرة هي المعنية بقوله تعالى { ولقد رآه بالأفق المبين } وبقوله تعالى { فاستوى وهو بالأفق الأعلى } طلع جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب فخر النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه فنزل جبريل عليه السلام في صورة الآدميين وضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه الحديث والأخرى ليلة الإسراء المعنية بقوله تعالى { ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى } وسيأتي الكلام على ذلك
وفي الخصائص الصغرى خص صلى الله عليه وسلم برؤيته جبريل في صورته التي خلقه الله عليها أي لم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم
وذكر السهيلي أن المراد بالأجنحة في حق الملائكة صفة الملكية وقوة روحانية وليست كأجنحة الطير ولا ينافى ذلك وصف كل جناح منها بأنه يسد ما بين المشرق والمغرب هذا كلامه فليتأمل
ولعله لا ينافيه ما تقدم عن الحافظ ابن حجر من أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه
والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط والله اعلم
ومن حالات الوحي أي نفسه أي الموحى به لا حامله الذي هو جبريل أن الله تعالى أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بلا وساطة ملك بل من وراء حجاب يقظة أو من غير حجاب بل كفاحا وذلك ليلة المعراج واسم الإشارة يحتمل أن يكون لنوعين وقع كل منهما ليلة الإسراء
ويحتمل أن يكون نوعا واحدا وأن الأول بناء على القول بعدم الرؤية والثاني بناء على القول بالرؤية وحينئذ لا يناسب عد ذلك نوعين كما فعل الشامي ومن ثم نسب ابن القيم هذاالنوع الثاني لبعضهم كالمتبرئ منه حيث قال وقد زاد بعضهم مرتبة ثانية وهي تكليم الله تعالى له صلى الله عليه وسلم كفاحا بغير حجاب هذا كلامه لأن ابن القيم ممن لا يقول بوجود الرؤية فما زاده بعضهم بناء على القول بوجود الرؤية كما علمت وحينئذ يكون هذا ليلة المعراج وعلى هذا جاء قوله تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا }


وقول ابن القيم السادسة أي من حالات الوحي ما أوحاه الله تعالى إليه وهو فوق السموات من فرض الصلوات وغيرها لأن ذلك إنما هو ليلة المعراج بغير واسطة ملك وهذا يحتمل لأن يكون من غير حجاب وأن يكون من وراء الحجاب فهي لم تخرج عما تقدم
وكذا قوله السابعة أي من حالات الوحي كلام الله تعالى منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم موسى أي من وراء حجاب فهي لم تخرج عما تقدم وحينئذ يكون كلمه صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج بواسطة الملك وكلمه بغير واسطة الملك من وراء حجاب ومشافهة من غير حجاب وصاحب المواهب نقل عن الولي العراقي كلاما فيه الإعتراض على ابن القيم بغير ما ذكر والجواب عنه وأقره مع ما في ذلك الكلام من النظر الظاهر الذي لا يكاد يخفى والله أعلم
قال الحافظ السيوطي وليس في القرآن من هذاالنوع أي مما شافهه به الحق تعالى من غير حجاب شيء فيما أعلم
نعم يمكن أن يعد منه آخر سورة البقرة أي آمن الرسول إلى آخر الآيات لأنها نزلت كما في الكامل للهذلي بقاب قوسين
وروى الديلمي قيل يا رسول الله أي آية في كتاب الله تحب أن تصيبك وأمتك قال آخر سورة البقرة فإنها من كنز الرحمن من تحت العرش ولم تترك خيرا في الدنيا والآخرة إلا اشتملت عليه ولعل هذا لا يعارض ما جاء في فضل آية الكرسي من قوله صلى الله عليه وسلم وقد قيل له يا رسول الله أي آية في كتاب الله تعالى أعظم قال آية الكرسي أعظم وما جاء عن الحسن رضي الله تعالى عنه مرسلا افضل القرآن البقرة وأفضل آية الكرسي وفي رواية أعظم آية فيها آية الكرسي وفي الجامع الصغير آية الكرسي ربع القرآن
ونزل في ذلك الموطن الذي هو قاب قوسين بعض سورة الضحى وبعض سورة ألم نشرح قال صلى الله عليه وسلم سألت ربي مسألة وودت أني لم أكن سألته سألت ربي اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت موسى تكليما فقال يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك وضالا فهديتك وعائلا فأغنيتك وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا وتذكر معي انتهى


أقول قد يقال لا يلزم من النزول في قاب قوسين أن يكون مشافهة من غير حجاب وقوله فقال يا محمد ألم أجدك إلى آخره ليس هذا نص التلاوة وإن هذا ظاهر في أن المتلو الدال على ما ذكر نزل قبل ذلك وأن هذا تذكير به والله أعلم
ومن حالات الوحي أنه أوحى إليه بلا واسطة ملك مناما كما في حديث معاذ أتاني ربي وفي لفظ رأيت ربي في أحسن صورة أي خلقة فقال فيما يختصم الملأ الأعلى يا محمد قلت أنت أعلم أي رب فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديى فعلمت ما في السماء والأرض أي وفي كلام الشيخ محيى الدين بن العربي رضي الله تعالى عنه فهذا علم حاصل لا عن قوة من القوى الحسية أو المعنوية وهذا لا يبعد أن يقع مثله للأولياء بطريق الإرث أي تجلى له الحق بالتجلي الخاص الذي ما ذكر عبارة عنه وفي رواية فعلمت علم الأولين والآخرين أي ومن حالات الوحي رؤيا النوم قال صلى الله عليه وسلم رؤيا الأنبياء وحي كما تقدم
ومن حالاته العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه عند الإجتهاد في الأحكام بناء على ثبوته لا بواسطة ملك وبذلك فارق النفث في الروع
وبذكر هذه الأنواع للوحي يعلم أن ما تقدم من حصره في الحالتين المذكورتين عند سؤال الحارث له صلى الله عليه وسلم أغلبي أو أن ما عداهما وقع بعد سؤال الحارث له
وفي ينبوع الحياة عن ابن جرير مانزل جبريل بوحي قط إلا وينزل معه من الملائكة حفظة يحيطون به وبالنبي الذي يوحى إليه يطردون الشياطين عنهما لئلا يسمعوا ما يبلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الغيب الذي يوحيه إليه فيلقوه إلى أوليائهم ثم رأيته في الإتقان ذكر أن من القرآن ما نزل معه ملائكة مع جبريل تشيعه من ذلك سورة الأنعام شيعها سبعون ألف ملك وفاتحة الكتاب شيعها ثمانون ألف ملك وآية الكرسي شيعها ثمانون ألف ملك وسورة يس شيعها ثلاثون ألف ملك { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } شيعها عشرون ألف ملك ولعل هذا لا ينافى ما تقدم من أن الغرض من تساقط النجوم عند البعثة حراسة السماء من استراق الشياطين لما يوحى لجواز أن يكون هذا لحفظ ما يوحى من إستراقه في الأرض وبين السماء والأرض


وعن النخعي إن أول سورة أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم { اقرأ باسم ربك }
قال الإمام النووي وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف هذا كلامه ولا يخفى أن مراد النخعي بالسورة هنا القطعة من القرآن أي أول آيات أنزلت فلا ينافى ما تقدم من رواية عمرو بن شرحبيل مما يدل على أن أول سورة أنزلت فاتحة الكتاب لأن المراد أول سورة كاملة نزلت لا في شأن الإنذار فلا ينافي ما تقدم من رواية جابر ما يقتضى أن أول ما نزل { يا أيها المدثر } لأن المراد بذلك أول سورة كاملة نزلت في شأن الإنذار بعد فترة الوحي أي فإنها نزلت قبل تمام نزول سورة اقرأ وهذا الجمع تقدم الوعد به أي لكن يشكل عليه ما في الكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مانزل علي القرآن إلا آية آية وحرفا حرفا ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد فإنهما أنزلتا علي ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة فإن هذاالسياق يدل على أنه لم ينزل عليه صلى الله عليه وسلم سورة كاملة إلا براءة { قل هو الله أحد } ويخالفه ما في الإتقان أن مما نزل جملة سورة الفاتحة وسورة الكوثر وسورة تبت وسورة لم يكن وسورة النصر والمرسلات والأنعام لكن ذكر ابن الصلاح أن هذا روى بسند فيه ضعف قال ولم أر له إسنادا صحيحا
وقد روى ما يخالفه ولم يذكر في الإتقان مما نزل جملة سورة براءة وذكر أن المعوذتين نزلتا دفعة واحدة وحينئذ يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم إلا آية آية وحرفا حرفا أي كلمة والمراد بها ما قابل السورة وإلا فقد أنزل عليه ثلاث آيات وأربع آيات وعشر آيات كما أنزل آية وبعض آية فقد صح نزول { غير أولي الضرر } منفردة وهي بعض آية
وفي الإتقان عن جابر بن زيد قال أول ما أنزل الله تعالى من القرآن بمكة أقرأ { باسم ربك } ثم { ن والقلم } ثم { يا أيها المزمل } ثم { يا أيها المدثر } ثم الفاتحة إلى آخر ما ذكر
ثم قال قلت هذا السياق غريب وفي هذا الترتيب نظر وجابر بن زيد من علماء التابعين هذا كلامه وذكر بعض المفسرين أن سورة التين أول ما نزل من القرآن والله أعلم وما تقدم من أن نزول { يا أيها المدثر } كان في شأن الإنذار بعد فترة الوحي لأنه كان بعد نزول جبريل عليه باقرأ باسم ربك مكث مدة لا يرى جبريل
أي وإنما كان كذلك ليذهب ما كان يجده من الرعب وليحصل له التشوف إلى العود

ومن ثم حزن لذلك حزنا شديدا حتى غدا مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال فكلما وافى بذروة كي يلقى نفسه منها تبدي له جبريل عليه السلام فقال يامحمد إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه أي قلبه وتقر نفسه ويرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا وافى ذروة جبل تبدى له مثل ذلك قال وفي رواية أنه لما فتر الوحي عنه صلى الله عليه وسلم حزن حزنا شديدا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء مرة أخرى يريد أن يلقى نفسه منه فكلما وافى ذروة جبل منهما كي يلقى نفسه تبدي له جبريل فقال يا محمد أنت رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه ويرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي عاد لمثل ذلك وكانت تلك المدة أربعين يوما وقيل خمسة عشر يوما وقيل اثنى عشر يوما وقيل ثلاثة أيام قال بعضهم وهو الأشبه بحاله عند الله تعالى انتهى
أقول ويبعد هذا الأشبه قوله فإذا طالت عليه فترة الوحي والله أعلم وفي الأصل وهذه الفترة لم يذكر لها ابن إسحاق مدة معينة
أقول في فتح الباري أن ابن إسحاق جزم بأنها ثلاث سنين والله أعلم
قال أبو القاسم السهيلي وقد جاء في بعض الأحاديث المسندة أن مدة هذه الفترة كانت سنتين ونصف سنة أي وفي كلام الحافظ ابن حجر وهذا الذي اعتمده السهيلي لا يثبت وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مدة الفترة كانت أياما أي وأقلها ثلاثة أي وتقدم ما فيه قال قال بعض الحفاظ والظاهر والله أعلم أنها أي مدة الفترة كانت بين اقرأ و { يا أيها المدثر } هي المدة التي اقترن معه فيها إسرافيل كما قال الشعبي انتهى
أقول ويوافق ذلك ما في الإستيعاب لإبن عبد البر أن الشعبي قال أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين وقرن بنبوته إسرافيل عليه الصلاة والسلام ثلاث سنين وقد تقدم ذلك
وفي الأصل عن الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي ولم ينزل القرآن أي شيء منه على لسانه ثم وكل به جبريل فجاءه بالوحي والقرآن وهو موافق في ذلك لما في سيرة شيخه الحافظ الدمياطي حيث قال قال بعض العلماء وقرن به إسرافيل ثم قرن به جبريل وهو

ظاهر في أن اقتران إسرافيل به كان بعد النبوة ويؤيده قوله ويأتيه بالكلمة من الوحي ومحتمل لأن يكون ذلك قبل النبوة فيوافق ما تقدم عن الماوردي لكن تقدم أنه كان يسمع حسه ولا يرى شخصه إلا أن يقال لا يلزم من كونه يتراءى له أن يراه وقوله يأتيه بالكلمة من الوحي هو معنى قوله يأتيه بالشيء بعد الشيء ثم رأيت الواقدي أنكر على الشعبي كون إسرافيل قرن به أولا وقال لم يقترن به من الملائكة إلا جبريل أي بعد النبوة ويحتمل مطلقا قال بعضهم ما قاله الشعبي هو الموافق لما هو المشهور المحفوظ الثابت في الأحاديث الصحيحة وخبر الشعبي مرسل أو معضل فلا يعارض ما في الأحاديث الصحيحة هذا كلامه
ثم رأيت الحافظ ابن حجر نظر في كلام الواقدي بأن المثبت مقدم على النافي إلا أن صحب النافي دليل نفيه فيقدم هذا كلامه
لا يقال قد وجد الدليل فقد جاء بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس وعنده جبريل إذ سمع نغيضا أي هده من السماء فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال يا محمد هذا ملك قد نزل لم ينزل إلى الأرض قط قال جماعة من العلماء إن هذا الملك إسرافيل لأنا نقول هذا مجرد دعوى لا دليل عليها ولا يحسن أن يكون مستندهم في ذلك ما في الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد هبط على ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي ولا يهبط على أحد بعدي وهو إسرافيل فقال أنا رسول ربك الحديث
ومن ثم عد السيوطى من خصائصه صلى الله عليه وسلم هبوط إسرافيل عليه إذ ليس في ذلك دليل على أن إسرافيل لم يكن نزل إليه قبل ذلك حتى يكون دليلا على أن اقتران جبريل به سابق على اقتران إسرافيل به
هذا وفي كلام الحافظ السيوطي أن مجئ إسرافيل كان بعد ابتداء الوحي بسنتين قال كما يعرف ذلك من سائر طرق الأحاديث وهو بظاهره يرد ما في سفر السعادة أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغ تسع سنين أمر الله تعالى إسرافيل أن يقوم بملازمته
ولما بلغ إحدى عشرة سنة أمر جبريل بملازمته صلى الله عليه وسلم فلازمه تسعا وعشرين سنة فليتأمل


وعن يحيى بن بكير قال ما خلق الله خلقا في السموات أحسن صوتا من إسرافيل فإذا قرأ في السماء يقطع على أهل السماء ذكرهم وتسبيحهم
ثم رأيت في فتح الباري ليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين أي على ما تقدم ما بين نزول اقرأ ويا أيها المدثر عدم مجئ جبريل إليه بل تأخر نزول القرآن عليه فقط هذا كلامه أي فكان جبريل يأتى إليه بغير قرآن بعد مجيئة إليه باقرأ ولم يجئ إليه بالقرآن الذي هو يا أيها المدثر إلا بعد الثلاث سنين على ما تقدم ثم في تلك المدة مكث أياما لا يأتيه أصلا ثم جاءه بيا أيها المدثر فكان قبل تلك الأيام يختلف إليه هو وإسرافيل وهذا السياق كما لا يخفى يؤخذ منه عدم المنافاة بين كون مدة فترة الوحي ثلاث سنين كما يقول ابن إسحاق وسنتين ونصفا كا يقول السهيلي وسنتين كما يقول الحافظ السيوطى وبين كونها أياما أقلها ثلاثة وأكثرها أربعون كما تقدم عن ابن عباس لأن تلك الأيام هي التي كانت لا يرى فيها جبريل أصلا على ما تقدم أي ولا يرى فيها إسرافيل أيضا وفي غير تلك الأيام كان يأتيه بغير القرآن وحينئذ لا يحسن رد الحافظ فيما سبق على السهيلي وينبغي أن تكون تلك الأيام التي لا يرى فيها جبريل وإسرافيل هي التي يريد فيها أن يلقى نفسه من رءوس شواهق الجبال وهذا السياق أيضا يدل على أن النبوة سابقة على الرسالة بناء على أن الرسالة كانت بيا أيها المدثر ويصرح به ما تقدم من قول بعضهم نبأه بقوله { اقرأ باسم ربك } وأرسله بقوله { يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر } وأن بينهما فترة الوحي وعليه أكثر الروايات
وقيل النبوة والرسالة مقترنان ولعل من يقول بتلك يقول يا أيها المدثر دلت على طلب الدعوة إلى الله تعالى وهذا غير إظهار الدعوة والمفاجأة بها الذي دل عليه قوله تعالى { فاصدع بما تؤمر } فليتأمل
وذكر السهيلي أن من عادة العرب إذا قصدت الملاطفة أن تسمى المخاطب بإسم مشتق من الحالة التي هو عليها فلاطفه الحق سبحانه وتعالى بقوله { يا أيها المدثر } فبذلك علم رضاه الذي هو غاية مطلوبه وبه كان يهون عليه تحمل الشدائد ومن هذه الملاطفة قوله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وقد نام وترب جنبه قم يا أبا تراب وقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة في غزوة أحد وقد نام إلى الإسفار قم يا نومان


وذكر الشيخ محيى الدين بن العربي في قوله تعالى { يا أيها المدثر قم فأنذر } أعلم أن التدثر إنما يكون من البرودة التي تحصل عقب الوحي وذلك أن الملك إذا ورد على النبي صلى الله عليه وسلم بعلم أو حكم تلقى ذلك الروح الإنساني وعند ذلك تشتعل الحرارة الغريزية فيتغير الوجه لذلك وتنتقل الرطوبات إلى سطح البدن لاستيلاء الحرارة فيكون من ذلك العرق فإذا سرى عنه ذلك سكن المزاج وانقشعت تلك الحرارة وانفتحت تلك المام وقبل الجسم الهواء من خارج فيتحلل الجسم فيبرد المزاج فتأخذه القشعريرة فتزاد عليه الثياب ليسخن هذا ملخص كلامه
وذكر بعضهم في تفسير قوله تعالى { وثيابك فطهر } أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي نفعنا الله تعالى ببركاته قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال يا أبا الحسن طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله تعالى في كل نفس فقلت يا رسول الله وما ثيابي قال إن الله كساك حلة التوحيد وحلة المحبة وحلة المعرفة قال ففهمت حينئذ قوله تعالى { وثيابك فطهر }
وجاء في وصف إسرافيل في بعض الأحاديث لا تفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله تعالى حتى يصير كأنه الوصع فهو عند نزوله يكون حاملا لزاوية العرش أو يخلفه غيره من الملائكة في ذلك & باب ذكر وضوئه وصلاته صلى الله عليه وسلم أول البعثة
أي أول الإرسال إليه باقرأ
أقول في المواهب أنه روى أن جبريل عليه الصلاة والسلام بدا له صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وأطيب رائحة فقال له يا محمد إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك أنت رسول الله إلى الجن والإنس فادعهم إلى قول لا إله إلا الله ثم ضرب برجله

الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل ثم أمره أن يتوضأ وقام جبريل يصلى وأمره أن يصلى معه فعلمه الوضوء والصلاة الحديث
وقوله فعلمه الوضوء يحتمل أن يكون بفعله المذكور ويحتمل أن يكون علمه بقوله افعل كذا في وضوئك وصلاتك ويدل للأول ما سيأتي
وفيه أن قول جبريل المذكور إنما كان عند أمره بإظهار الدعوة والمفاجأة بها إلى الله تعالى بعد فترة الوحي كما سيأتي فالجمع بينه وبين قوله ثم ضرب برجله الأرض إلى آخره لا يحسن لأنه سيأتي أن ذلك كان في يوم نزوله له { اقرأ باسم ربك } ولعله من تصرف بعض الرواة والله أعلم
فعن ابن إسحاق حدثني بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على النبي صلى الله عليه وسلم أي قبل الإسراء أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل و رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ليريه كيف الطهور أي الوضوء للصلاة أي فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه وغسل رجليه إلى الكعبين كما في بعض الروايات أي وفي رواية فغسل كفيه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثم غسل يديه إلى المرفقين ثم مسح رأسه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ مثل وضوئه
أقول وبهذه الرواية يرد قول بعضهم إن النبي صلى الله عليه وسلم زاد في الوضوء التسمية وغسل الكفين والمضمضة والإستنشاق ومسح جميع الرأس والتخليل ومسح الأذنين والتثليث إلا أن يقال مراد هذا البعض أن ما ذكر زاده على ما في الآية وفي كلام بعضهم كانت العرب في الجاهلية يغتسلون من الجنابة ويداومون على المضمضة والإستنشاق والسواك والله أعلم
ثم قام جبريل فصلى به صلى الله عليه وسلم ركعتين يحتمل أن تلك الصلاة كانت بالغداة قبل طلوع الشمس ويحتمل أنها كانت بالعشي أي قبل غروب الشمس وفي الإمتاع وإنما كانت الصلاة قبل الإسراء صلاة بالعشي أي قبل غروب الشمس ثم صارت صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ركعتين أي ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى والعشى هو العصر
ففي كلام بعض أهل اللغة العصر والعشاء والعصران الغداة والعشى وكانت صلاته

صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة واستقبل الحجر الأسود أي جعل الحجر الأسود قبالته وهذا يدل على أنه لم يستقبل في تلك الصلاة بيت المقدس لأنه لا يكون مستقبلا لبيت المقدس إلا إذا صلى بين الركنين الأسود واليماني كما كان يفعل بعد فرض الصلوات الخمس وهو بمكة كما سيأتي أنه كان يصلي بين الركنين الركن اليماني والحجر الأسود ويجعل الكعبة بينه وبين الشام أي بينه وبين بيت المقدس أي صخرته إلا أن يقال يجوز أن يكون عند صلاته إلى الكعبة كان بينهما إلا أنه كان إلى الحجر الأسود أقرب منه إلى اليماني فقيل استقبل الحجر الأسود فلا مخالفة لكن سيأتي ما قد يفيد أنه لم يستقبل بيت المقدس إلا في الصلوات الخمس أي بعد الإسراء وقبل ذلك كان يستقبل الكعبة إلى أي جهة من جهاتها ولما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة جبريل قال جبريل هكذا الصلاة يا محمد ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وأخبرها فغشي عليها من الفرح فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه حبريل فتوضأت كما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صلى به جبريل عليه الصلاة والسلام
وفي سيرة الحافظ الدمياطي ما يفيد أن ذلك كان في يوم نزول جبريل عليه الصلاة والسلام له ب { اقرأ باسم ربك } حيث قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين وصلى فيه وصلت خديجة آخر يوم الإثنين ويوافقه ظاهر ما جاء أتاني جبريل في أول ما أوحى إلي فعلمني الوضوء والصلاة فلما فرغ الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه أي رش بها فرجه أي محل الفرج من الإنسان بناء على أنه لا فرج له وكون الملك لا فرج له لو تصور بصورة الإنسان استدل عليه بأنه ليس ذكر أو لا أنثى وفيه نظر لأنه يجوز أن يكون له آلة ليست كآلة الذكر ولا كآلة الأنثى كما قيل بذلك في الخنثى ويقال لذلك فرج
وبعض شراح الحديث حمل الفرج على ما يقابل الفرج من الإزار وبذلك استدل أئمتنا على أنه يستحب لمن استنجى بالماء أن يأخذ بعض الإستنجاء كفا من ماء ويرش في ثيابه التي تحاذى فرجه حتى إذا خيل له أن شيئا خرج ووجد بلللا قدر أنه من ذلك الماء ولعل هذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم علمني جبريل الوضوء وأمرني أن أنضح تحت ثوبي مما يخرج من البول بعد الوضوء أي دفعا لتوهم خروج شيء من البول بعد الوضوء لو وجد بلل بالمحل


وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان ينضح سراويله حتى يبلها وما جاء أنه لما أقرأه باسم ربك قا له جبريل انزل عن الجبل فنزل معه إلى قرار الأرض قال فأجلسني عن درنوك بالدال المهملة والراء والنون أي وهو نوع من البسط ذو خمل ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل الحديث فمشروعية الوضوء كانت مع مشروعية الصلاة التي هي غير الخمس وإن ذلك كان في يوم نزول جبريل باقرأ وهو مخالف لقول ابن حزم لم يشرع الوضوء إلا بالمدينة
ومما يرد ما قاله ابن حزم نقل ابن عبدالبر اتفاق أهل السير على أنه لم يصل صلى الله عليه وسلم قط إلا بوضوء قال وهذا مما لا يجهله عالم هذا كلامه إلا أن يقال مراد ابن حزم أنه لم يشرع وجوبا إلا في المدينة وهو الموافق لقول بعض المالكية إنه كان قبل الهجرة مندوبا أي وإنما وجب بالمدينة بآية المائدة { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } الآية
ويرده ما في الإتقان أن هذه الآية مما تأخر نزوله عن حكمه يعنى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } إلى قوله { لعلكم تشكرون } فالآية مدنية إجماعا وفرض الوضوء كان بمكة مع فرض الصلاة أي فالوضوء على هذا مكي بالفرض مدني بالتلاوة
قال والحكمة في ذلك أي في نزول الآية بعد تقدم العمل لما يدل عليه أن تكون قرآنيته متلوة هذا كلامه
وقوله مع فرض الصلاة يحتمل أن المراد صلاة الركعتين بناء على أنهما كانتا واجبتين عليه صلى الله عليه وسلم وهو الموافق لما تقدم عن ابن إسحاق ويحتمل أن المراد الصلاة الخمس أي ليلة الإسراء وهو الموافق لما اقتصر عليه شيخنا الشمس الرملي حيث قال وكان فرضه مع فرض الصلاة قبل الهجرة بسنة هذا كلامه وحينئذ يكون قبل ذلك مندوبا حتى في صلاة الليل
وقول صاحب المواهب ما ذكر من أن جبريل عليه الصلاة والسلام علمه الوضوء وأمره به يدل على أن فرضية الوضوء كانت قبل الإسراء فيه نظر ظاهر إذ لا دلالة في ذلك على الفرضية إذ يحتمل أي يكون اللفظ الصادر من جبريل له أمرتك أن تفعل كفعلي وصيغة أمره مشتركة بين الوجوب والندب


وذكر بعضهم أن الغرض من نزول آية المائدة بيان أن من لم يقدر على الوضوء والغسل لمرض أو لعدم الماء يباح له التيمم أي ففرضية الوضوء والغسل سابقة على نزولها ويؤيد ذلك قول عائشة رضي الله تعالى عنها في الآية فانزل الله تعالى آية التيمم ولم تقل آية الوضوء وهي هي لأن الوضوء كان مفروضا قبل أن توجد تلك الآية ويوافقه ما ذكره ابن عبد البر من اتفاق أهل السير على أن الغسل من الجنابة فرض عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ما يقتضى أن فرض الغسل كان مع فرض الصلوات ليلة الإسراء فقد جاء عنه كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعل الصلاة خمسا والغسل من الجنابة مرة قال بعض فقهائنا رواه أبو داود ولم يضعفه وهو إما صحيح أو حسن قال ذلك البعض ويجوز أن يكون المراد بها أي الغرض من نزولها فرض غسل الرجلين في قراءة من قرأ { وأرجلكم } بالنصب فإن حديث جبريل ليس فيه إلا مسحهما أي وهو أن جبريل أول ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي توضأ فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح رأسه ورجليه إلى الكعبين وسجد سجدتين أي ركع ركعتين مواجهة البيت ففعل النبي صلى الله عليه وسلم كما يرى جبرل يفعله هذا كلامه وفيه نظر لأن أكثر الروايات وغسل رجليه كما تقدم فرجليه في هذه الرواية معطوفة على وجهه كما أن أرجلكم في الآية على قراءة الجر معطوفة على الوجوه وإنما جر للمجاورة وإن كان الجر للمجاورة في غير النعت قليلا أو عبر عن الغسل الخفيف بالمسح
وفي كلام الشيخ محيى الدين مسح الرجلين في الوضوء بظاهر الكتاب وغسلهما بالسنة المبينة للكتاب قال ويحتمل العدول عن الظاهر بناء على أن المسح فيه يقال للغسل فيكون من الألفاظ المترادفة وفتح أرجلكم لايخرجها عن الممسوح فإن هذه الواو قد تكون واو المعية
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة أي عملا بظاهر قوله تعالى { إذا قمتم إلى الصلاة } الآية فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد فقال له سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال عمدا فعلته

يا عمر أي للإشارة إلى جواز الإقتصار على وضوء واحد للصلوات الخمس وجواز ذلك ظاهر في نسخ وجوب الوضوء عليه لكل صلاة ويوافقه قول بعضهم قيل كان ذلك الوضوء لكل صلاة واجبا عليه ثم نسخ هذا كلامه أي ويؤيده ذلك ظاهر ما جاء أنه أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وضع عنه الوضوء إلا من حدث أي ويكون وقت المشقة يوم فتح مكة لما علمت أنه لم يترك الوضوء لكل صلاة إلا حينئذ وهذا السياق يدل على أن وجوب الوضوء لكل صلاة كان من خصوصياته صلى الله عليه وسلم
ويدل لذلك ما روى عن أنس رضي الله تعالى عنه كان رسول الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة قيل لهم كيف تصنعون أي هل كنتم تفعلون كفعله صلى الله عليه وسلم قال يجزى أحدنا الوضوء ما لم يحدث أي فوجب الوضوء لكل صلاة كان من خصوصياته صلى الله عليه وسلم وذكر فقهاؤنا أن الغسل كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم لكل صلاة فنسخ بالنسبة للحدث الأصغر تخفيفا فصار الوضوء بدلا عنه ثم نسخ الوضوء لكل صلاة فظاهر سياقهم يقتضى أن وجوب الغسل ثم الوضوء لكل صلاة كان عاما في حقه صلى الله عليه وسلم وحق أمته ويحتاج إلى بيان وقت نسخ وجوب الغسل في حقه صلى الله عليه وسلم وحق أمته وبيان وقت نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة في حق الأمة ومنه يعلم أن نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة يكون بالنسبة للأمة ثم بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا يشكل قول فقهائنا الآية تقتضي وجوب الطهر بالماء أو التراب لكل صلاة خرج الوضوء بالسنة أي بماتقدم من فعله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وبتجويزه صلى الله عليه وسلم للأمة أن يصلى الواحد منهم الصلوات بوضوء واحد وبقى التيمم على مقتضى الآية فقد وقع النسخ أولا بالنسبة للأمة ثم ثانيا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم ولعل وجوب الغسل لكل صلاة كان بوحي غير قرآن أو بإجتهاد
ولا يخفى أن كون ظاهر الآية يقتضى وجوب الوضوء والتيمم لكل صلاة إنما هو بقطع النظر عما نقله إمامنا رضي الله تعالى عنه عن زيد بن أسلم أن الآية فيها تقديم وحذف وأن التقدير { إذا قمتم إلى الصلاة } من النوم { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } { فاغسلوا وجوهكم } الآية والله أعلم


وعن مقاتل بن سليمان فرض الله تعالى في أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة أي قبل طلوع الشمس وركعتين بالعشى أي قبل غروب الشمس
أقول إن كان المراد بأول الإسلام نزول جبريل عليه بأقرأ يرد ما تقدم عن الإمتاع أن أول ما وجب ركعتان بالعشي ثم صارت صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ركعتين إلا أن يراد الأولية الإضافية
وفي بعض الأحاديث ما يدل على أن وجوب الركعتين كان خاصا به صلى الله عليه وسلم دون أمته
منها قوله صلى الله عليه وسلم أول ما افترض الله على أمتي الصلوات الخمس وفيه أنه افترض عليها قبل ذلك صلاة الليل ثم نسخ بالصلوات الخمس
وفي الإمتاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الكعبة أول النهار فيصلى صلاة الضحى وكانت صلاة لا تنكرها قريش وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى أي فيصلون صلاة العشي وكانوا يصلون الضحى والعصر ثم نزلت الصلوات الخمس هذا كلامه وهو يفيد أن الركعتين الأوليين كان يصليهما وقت الضحى لا قبل الشمس فليتأمل والله أعلم ثم فرضت الخمس ليلة المعراج
وذهب جمع إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة أي لا عليه ولا على أمته إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد أي بقوله تعالى { فاقرؤوا ما تيسر } أي صلوا
أقول وهو الناسخ لما وجب قبل ذلك من التحديد في أول السورة الحاصل بقوله { قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه } وقد نسخ قيام الليل بالصلوات الخمس ليلة الإسراء ولم يذكر أئمتنا وجوب صلاة الركعتين عليه صلى الله عليه وسلم بل قالوا أول ما فرض عليه الإنذار والدعاء إلى التوحيد ثم فرض عليه قيام الليل المذكور في أول سورة المزمل ثم نسخ بما في آخرها ثم نسخ بالصلوات الخمس وهو مخالف لما تقدم عن ابن إسحاق من وجوب صلاة الركعتين عليه ويوافقه قول ابن كثير في قولهم ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلوات مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء


قال بعضهم وإنما قال ذلك لأن أصل الصلاة في حياة خديجة الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي
وفي كلام ابن حجر الهيتمي لم يكلف الناس إلا بالتوحيد فقط ثم استمر على ذلك مدة مديدة ثم فرض عليهم من الصلاة ما ذكر في سورة المزمل ثم نسخ ذلك كله بالصلوات الخمس ثم لم تكثر الفرائض وتتابع إلا بالمدينة ولما ظهر الإسلام وتمكن في القلوب وكان كلما زاد ظهورا وتمكن ازدادت الفرائض وتتابعت هذا كلامه
ولم أقف على ما كان يقرأ في صلاة الركعتين قبل فترة الوحي وبعدها وقبل نزول الفاتحة بناء على تأخر نزولها عن ذلك كما هو الراجح ثم رأيته في الإتقان ذكر أن جبريل حين حولت القبلة أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفاتحة ركن في الصلاة كما كانت بمكة هذا كلامه وينبغى حمله على الصلوات الخمس وحينئذ يكون ما تقدم من قول بعضهم لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة محمولا على ذلك أيضا وقد تقدم ذلك والله أعلم & باب ذكر أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم
أي بعد البعثة أي الرسالة وهي المرادة عند الإطلاق بناء على أنها مقارنة للنبوة
لا يخفى أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث أخفى أمره وجعل يدعو إلى الله سرا وابتعه ناس عامتهم ضعفاء من الرجال والنساء وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم إن هذا الدين بدا غريبا وسيعود كما بدا فطوبى للغرباء ولا يخفى أن أهل الأثر وعلماء السير على أن أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم على الإطلاق خديجة رضي الله تعالى عنها
أقول نقل الثعلبي المفسر إتفاق العلماء عليه وقال النووي إنه الصواب عند جماعة من المحققين وقال ابن الأثير خديجة أول خلق الله تعالى أسلم بإجماع المسلمين لم يتقدمها رجل ولا امرأة
وفيه أن بناته الأربع كن موجودا عند البعثة ويبعد تأخر إيمانهن إلا أن يقال خديجة تقدم لها إشراك بخلافهن أخذا مما يأتي


وعن ابن إسحاق أن خدجة كانت أول من آمن بالله ورسوله وصدقت ما جاء به عن الله تعالى وكان لا يسمع شيئا يكرهه من قومه إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها فأخبرها به
ثم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ففي المرفوع عن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أول هذه الأمة ورودا على الحوض أولها إسلاما علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وجاء أنه لما زوجه فاطمة قال لها زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة وإنه لأول صحابي إسلاما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما وكان لم يبلغ الحلم كما سيأتي حكاية الإجماع عليه كان سنه ثمان سنين وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه يطعمه ويقوم بأمره لأن قريشا كان أصابهم قحط شديد وكان أبو طالب كثير العيال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال والناس فيما ترى من الشدة فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله تأخذ واحدا وأنا واحدا فجاءا إليه وقالا إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبو طالب إذا تركتما لي عقيلا قيل وطالبا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه فضمه إليه وأخذه العباس جعفرا فضمه إليه وتركا له عقيلا وطالبا فلم يزل علي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي خصائص العشرة للزمخشري أن النبي صل الله عليه وسلم تولى تسميته بعلي وتغذيته أياما من ريقه المبارك بمصه لسانه فعن فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله تعالى عنها أنا قالت لما ولدته سماه عليا وبصق في فيه ثم إنه ألقمه لسانه فما زال يمصه حتى نام قالت فلما كان من الغد طلبنا له مرضعة فلم يقبل ثدي أحد فدعونا له محمدا صلى الله عليه وسلم فألقمه لسانه فنام فكان كذلك ما شاء الله عز وجل هذا كلامه فليتأمل
وعنها رضي الله تعالى عنها أنها في الجاهلية أرادت أن تسجد لهبل وهي حامل بعلي فتقوس في بطنها فمنعها من ذلك وكان علي رضي الله تعالى عنه أصغر إخوته فكان بينه وبين أخيه جعفر عشر سنين وبين جعفر وبين أخيه عقيل كذلك وبين عقيل وأخيه طالب ذلك أيضا فكل أكبر من الذي بعده بعشر سنين فأكبرهم طالب ثم عقيل ثم جعفر ثم علي أي وكلهم أسلموا إلا طالبا فإنه اختطفته الجن فذهب ولم يعلم إسلامه
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لعقيل لما أسلم يا أبا يزيد إني أحبك حبين حبا لقرابتك مني وحبا لما كنت أعلم لحب عمي إياك


وكان عقيل أسرع الناس جوابا وأبلغهم في ذلك قال له معاوية يوما أين ترى عمك أبا لهب من النار فقال إذا دخلتها يا معاوية فهو على يسارك مفترضا عمتك حمالة الحطب والراكب خير من المركوب
ولما وفد على معاوية وقد غضب من أخيه علي لما طلب منه عطاءه وقال له اصبر حتى يخرج عطاؤك مع المسلمين فأعطيك فقال له لأذهبن إلى رجل هو أوصل إلى منك فذهب إلى معاوية فأعطاه مائة ألف درهم ثم قال له معاوية اصعد المنبر فاذكر ما أولاك علي وما أوليتك فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إني أخبركم أني أردت عليا على دينه فاختار دينه وإني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه وفي رواية أن معاوية قال لجماعة يوما بحضرة عقيل هذا أبو يزيد يعنى عقيلا لولا علمه بأني خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه فقال عقيل أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي وأسأل الله تعالى خاتمه الخير توفى عقيل في خلافة معاوية
قال وسبب إسلام على كرم الله وجهه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه خديجة وهما يصليان سرا فقال ماهذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دين الله الذي اصطفاه لنفسه وبعث به رسله فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وإلى الكفر باللات والعزى فقال علي هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدث أبا طالب وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره فقال له يا علي إذا لم تسلم فاكتم هذا فمكث ليلته ثم إن الله تبارك وتعالى هداه للإسلام فأصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم اه
أقول وذلك في اليوم الثاني من صلاته صلى الله عليه وسلم هو وخديجة وهو يوم الثلاثاء كما في سيرة الدمياطي أي لأنه تقدم أن صلاته صلى الله عليه وسلم مع خديجة كانت آخر يوم الإثنين وهذا إنما يأتي على القول بأن النبوة والرسالة تقارنتا لا على أن الرسالة تأخرت عن النبوة وأن بينهما فترة الوحي على ما تقدم
وفي أسد الغابة أن أبا طالب رأى النبي صلى الله عليه وسلم وعليا يصليان وعلي على يمينه فقال لجعفر رضي الله الله تعالى عنه صل جناح ابن عمك فصلى عن يساره وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه علي بقليل قال بعضهم وإنما صح إسلام علي أي مع أنهم أجمعوا على أنه لم يكن بلغ الحلم أي ومن ثم نقل عنه أنه قال

** سبقتكمو إلى الإسلام طرا ** صغيرا ما بلغت أوان حملي **
أي كان عمره ثمان سنين على ما سبق لأن الصبيان كانوا إذ ذاك مكلفين لأن القلم إنما رفع عن الصبي عام خيبر
وعن البيهقي أن الأحكام إنما تعلقت بالبلوغ في عام الخندق وفي لفظ في عام الحديبية وكانت قبل ذلك منوطة بالتمييز
هذا وقد ذكر أنه لم يحفظ عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال شعرا وقيل لم يقل إلا بيتين أي ولعل أحدهما ما تقدم ثم رأيت عن القاموس أن البيتين هما قوله ** تلكم قريش تمنانى لتقتلني ** فلا وربك ما بروا ولا ظفروا ** ** فإن هلكت فرهن مهجتي لهمو ** بذات ودقين لا تبقى ولا تذر **
وذات ودقين هي الداهية وقد ذكر أن الزبير بن العوام أسلم وهو ابن ثمان سنين وقيل ابن خمس عشرة سنة وقيل ابن اثنتي عشرة سنة وقيل ابن ست عشرة سنة
ومما يدل للأول ما جاء عن بعضهم كان علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص ولدوا في عام واحد
ومن العجب أن الزمخشري في خصائص العشرة اقتصر على أن سن الزبير حين أسلم ست عشرة سنة وذكر بعد ذلك بأسطر أنه أول من سل سيفا في سبيل الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة مقتصرا على ذلك
ومما يدل للأول أيضا ما جاء في كلام بعض آخر أسلم علي بن أبي طالب والزبير ابن العوام وهما ابنا ثمان سنين وإجماعهم على أن عليا لم يكن بلغ الحلم يرد القول بأن عمره كان إذ ذاك عشر سنين أي بناء على أن سن إمكان الإحتلام تسع سنين كما تقول به أئمتنا
ويوافقه ما حكاه بعضهم أن الراشد بالله وهو الحادي والثلاثون من خلفاء بني العباس لما كان عمره تسع سنين وطئ جارية حبشية فحملت منه فولدت ولدا حسنا ويرد القول بأن سنه إذا ذاك كان ثلاث عشرة أو خمس عشرة أو ست عشرة سنة
أقول قال بعض متأخري أصحابنا وإنما صحت عبادة الصبي المميز ولم يصح إسلامه لأن عبادته نفل والإسلام لا يتنفل به وعلى هذا مع ما تقدم يشكل ما في الإمتاع وأما

على بن أبي طالب فلم يكن مشركا بالله أبدا لأنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفالته كأحد أولاده يتبعه في جميع أموره فلم يحتج أن يدعى للإسلام فيقال أسلم هذا كلامه فليتأمل فإن عليا كان تابعا لأبيه في دينه ولم يكن تابعا له صلى الله عليه وسلم كأولاده
وقوله فلم يحتج أن يدعى للإسلام يرده ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم له أدعوك إلى الله وحده إلى آخره
ثم رأيت في الحديث ما يدل لما في الإمتاع وهو ثلاثة ما كفروا بالله قط مؤمن آل يس وعلي بن أبي طالب وآسية أمرأة فرعون
والذي في العرائس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار صاحب يس وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وهو أفضلهم إلا أن يراد بعدم كفرهم أنهم لم يسجدوا لصنم وفيه أنه قد يخالف ذلك قوله صلى الله عليه وسلم له وأدعوك إلى الكفر باللات والعزى وأنه قيل أيضا إن أبا بكر لم يسجد لصنم قط
وقد عد ابن الجوزي من رفض عبادة الأصنام الجاهلية أي لم يأت بها أبا بكر الصديق وزيد بن عمرو بن نفيل وعبيدالله بن جحش وعثمان بن الحويرث وورقة بن نوفل ورباب بن البراء وأسعد بن كريب الحميري وقس بن ساعدة الإيادي وأبا قيس ابن صرمة ولا يخفى أن عدم السجود للأصنام لا ينافي الحكم بالكفر على من لم يسجد لها لكن في كلام السبكي الصواب أن يقال الصديق لم يثبت عنه حال كفر بالله تعالى فلعل حاله قبل البعث كحال زيد بن عمرو بن نفيل وأضرابه فلذلك خص الصديق بالذكر عن غيره من الصحابة هذا كلامه وهو واضح إذا لم يكن أحد من جميع من ذكر أسلم
وفي كلام الحافظ ابن كثير الظاهر أن أهل بيته صلى الله عليه وسلم آمنوا قبل كل أحد خديجة وزيد وزوجة زيد أم أيمن وعلي رضي الله تعالى عنهم فليتأمل قوله آمنوا قبل كل أحد وكذا يتأمل قول ابن إسحاق أما بناته صلى الله عليه وسلم فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن
وعن ابن إسحاق ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا

حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه على مستخفيا من قومه فيصليان فيهما فإذا أمسيا رجعا كذلك ثم إن أبا طالب عثر أي اطلع عليهما يوما وهما يصليان أي بنخلة المحل المعروف فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا ابن أخي ما هذا الذي أراك تدين به فقال هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إلى الله تعالى وأعانني عليه فقال أبو طالب إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه وفي رواية انه قال له ما بالذي تقول من بأس ولكن والله لا تعلوني أستى أبدا وهذا كما لا يخفى ينبغي أن يكون صدر منه قبل ما تقدم من قوله لإبنه جعفر صل جناح ابن عمك وصل على يساره لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وعليا علي يمينه لكن يروى أن عليا رضي الله تعالى عنه ضحك يوما وهو على المنبر فسئل عن ذلك فقال تذكرت أبا طالب حين فرضت الصلاة ورآني أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة فقال ما هذا الفعل الذي أرى فلما أخبرناه قال هذا حسن ولكن لا أفعله أبدا إني لا أحب أن تعلوني أستى فلما تذكرت الآن قوله ضحكت وقوله حين فرضت الصلاة يعني الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي وهذا يؤيد القول بأن ذلك كان واجبا
وذكر أن أبا طالب قال لعلي أي بني ما هذا الذي أنت عليه فقال يا أبت آمنت بالله ورسوله وصدقت ما جاء به ودخلت معه واتبعته فقال له أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه
أي ويذكر أنه كان يقول إني لأعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق ولولا أني أخاف أن تعيرني نساء قريش لأتبعته
وعن عفيف الكندي رضي الله تعالى عنه قال كنت امرأ تاجرا قدمت للحج وأتيت العباس بن عبدالمطلب لأبتاع منه بعض التجارة وكان العباس لي صديقا وكان يختلف إلى اليمن يشتري العطر ويبيعه أيام الموسم فبينما أنا عند العباس بمنى أي وفي لفظ بمكة في المسجد إذا رجل مجتمع أي بلغ أشده خرج من خباء قريب منه فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت توضأ فأسبع الوضوء أي أكمله ثم قام يصلى أي إلى الكعبة كما في بعض الروايات ثم خرج غلام مراهق أي قارب البلوع فتوضأ ثم قام إلى جنبه

يصلي ثم جاءت امرأة من ذلك الخباء فقامت خلفهما ثم ركع الرجل وركع الغلام وركعت المرأة ثم خر الرجل ساجدا وخر الغلام وخرت المرأة فقلت ويحك يا عباس ما هذا الدين فقال هذا دين محمد بن عبدالله أخي يزعم أن الله بعثه رسولا وهذا ابن أخي علي بن أبي طالب وهذه امرأته خديجة قال عفيف بعد أن أسلم يا ليتني كنت رابعا أي ولعل زيد بن حارثة لم يكن موجودا عندهم في ذلك الوقت فلا ينافي أنه كان يصلي معهم أو أن ذلك كان قبل إسلامه لأنه سيأتي قريبا أن إسلامه بعد إسلام علي وكذا أبو بكر لم يكن موجودا عندهم بناء على أن إسلامه كان قبل إسلام علي ويؤيده ما قيل أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر لكن في الإستيعاب لإبن عبد البر أن العباس قال لعفيف الكندي لما قال له ما هذا الذي يصنع قال يصلى وهو يزعم أنه نبي ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الغلام
وفيه أن عليا قال لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين أي ولعل المراد أنه عبده بغير الصلاة
وقوله في هذا الحديث فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت توضأ وصلى قد يخالف ما تقدم من أن فرض الصلاة كان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي قبل غروب الشمس فقط
أقول قد يقال لامخالفة لأنه يجوز أن تكون صلاته في الوقت ليست مما فرض عليه والجماعة في ذلك جائزة وقد فعلها صلى الله عليه وسلم في النفل المطلق وهذا يدل على أن الجماعة كانت مشروعة بمكة حتى في صدر الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس
وفي كلام بعض فقهائنا أنها لم تشرع إلا في المدينة دون مكة لقهر الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلا أن يقال المراد بمشروعيتها طلبها فكانت في المدينة مطلوبة استحبابا أو وجوبا كفاية أو عينا على الخلاف عندنا في ذلك وفي مكة كانت مباحة لكن في كلام بعض آخر من فقهائنا أن الجماعة لم تفعل بمكة لقهر الصحابة وفيه أن القهر إنما ينافى إظهار الجماعة لا فعلها إلا أن يقال تركت حسما للباب وفيه أنه يبعد تركها وهم مستخفون في دار الأرقم فليتأمل والله أعلم


ثم بعد إسلام علي رضي الله تعالى عنه أسلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم زيد بن حارثة بن شرحبيل
وقال ابن هشام شرحبيل مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له خديجة أي لما تزوجها صلى الله عليه وسلم أي وكان اشتراه لها ابن أخيها حكيم بن حزام ممن سباه من الجاهلية أي فإن عمته خديجة أمرته أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا فلما قدم سوق عكاظ وجد زيدا يباع أي وعمره ثمان سنين فإنه أسر من عند أخواله طى وعليه اقتصر السهيلي
فإن أمه لما خرجت به لتزيره أهلها فأصابته خيل فباعوه فاشتراه أي وقيل اشتراه من سوق حباشنة بأربعمائة درهم ويقال بستمائة درهم فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته أي ولعل هذا مراد من قال فباعه من عمته خديجة أي اشتراه لها فلما تزوجها صلى الله عليه وسلم وهو عندها أعجب به فاستوهبه منها فوهبته له فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبناه قبل الوحي
أي وقيل اشتراه صلى الله عليه وسلم لها فإنه جاء إلى خديجة فقال رأيت غلاما بالبطحاء قد أوقفوه ليبيعوه ولو كان لي ثمنه لأشتريته قالت وكم ثمنه قال سبعمائة درهم قالت خذ سبعمائة درهم فاذهب فاشتره فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء به إليها وقال إنه لو كان لي لأعتقته قالت هو لك فأعتقه وقيل بل اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشام لخديجة حيث توجه مع ميسرة فوهبته له فليتأمل ذلك
وزعم أبو عبيدة أن زيد بن حارثة لم يكن أسمه زيدا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سماه بذلك باسم جده قصي حين تبناه
ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب إلى الشام فمر بأرض قومه فعرفه عمه فقام إليه وقال من أنت يا غلام قال غلام من أهل مكة قال من أنفسهم قال لا قال فحر أنت أم مملوك قال مملوك قال عربي أنت أم أعجمي قال بل عربي قال من أهلك قال من كلب قال من أي كلب قال من بني عبد ود قال ويحك ابن من أنت قال ابن حارثة بن شرحبيل قال وأين أصبت قال في أخوالي قال ومن أخوالك قال طي قال ما اسم أمك قال سعدى فالتزمه وقال ابن حارثة

ودعا أباه فقال يا حارثة هذا ابنك فأتاه حارثة فلما نظر إليه عرفه قال كيف صنع مولاك إليك قال يؤثرني على أهله وولده ورزقت منه حبا فلا أصنع إلا ما شئت فركب معه أبوه وعمه وأخوه
وفي رواية أن ناسا من قومه حجوا فرأوا زيدا فعرفوه وعرفهم فانطلقوا وأعلموا أباه ووصفوا له مكانه فجاء أبوه وعمه
وقد يقال لا مخالفة لجواز أن يكون إجتماعه بعمه وأبيه كان بعد إخبار أولئك الناس فلما جاء أهله في طلبه ليفدوه خيره النبي صلى الله عليه وسلم بين المكث عنده والرجوع إلى أهله فاختار المكث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقد ذكر أنهم لما جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا يابن عبد المطلب يابن سيد قومه أي وفي لفظ لما قدم أبوه وعمه في فدائه سألا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل هو في المسجد فدخلا عليه فقالا يابن عبدالمطلب يا بن هاشم يا ابن سيد قومه أنتم أهل حرم الله وجيرانه تفكون الأسير العاني وتطعمون الجائع جئناك في ولدنا عندك فامنن علينا وأحسن في فدائه فإنا سندفع لك فقال وما ذاك قال زيد بن حارثة فقال أو غير ذلك قالوا وما هو قال ادعوه فخيروه فإن اختاركم فهو لكم من غير فداء وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على الذي اختارني فداء فقالوا زدت على النصف وفي لفظ زدتنا على النصف وأحسنت فدعاه فقال تعرف هؤلاء قال نعم أبي وعمي ولعل سكوته عن أخيه لإستصغاره بالنسبة لأبيه وعمه على أن أكثر الروايات الإقتصار على مجئ أبيه وعمه
وفي كلام السهيلي أن زيدا لما جاء قال صلى الله عليه وسلم له من هذان فقال هذا أبي حارثة بن شرحبيل وهذا كعب بن شرحبيل عمي فعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم له أنا من علمت وقد رأيت صحبتي لك فاخترني أو أخترهما فقال زيد ما أنا بالذي أختار عليك أحدا أنت مني مكان الأب والعم فقالا ويحك يا زيد تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك قال نعم ما أنا بالذي أختار عليه أحدا فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ما رأى أخرجه إلى الحجر أي الذي هو محل جلوس قريش فقال إن زيدا ابني أرثه ويرثني فطابت أنفسهما وانصرفا
وفي كلام ابن عبدالبر أنه حين تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سنة ثمان

سنين وأنه حين تبناه طاف به على حلق قريش يقول هذا ابني وارثا وموروثا ويشهدهم على ذلك وكان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول دمى دمك وهدمي هدمك وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمى سلمك ترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عني وأعقل عنك فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف أي من حالفه فنسخ ذلك وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر من أنه صلى الله عليه وسلم حين تبناه كان عمره ثمان سنين يدل على أن ذلك كان عقب ملكه صلى الله عليه وسلم له قبل الوحي وأن ذلك كان قبل مجئ أبيه وعمه وحينئذ يكون عتقه وتبنيه بعد مجئ أبيه وعمه إظهارا لما تقدم فليتأمل
وفي أسد الغابة أن حارثة أسلم وفي كلام بعضهم لم يثبت إسلام حارثة إلا المنذري ولما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا كان يقال له زيد بن محمد ولم يذكر في القرآن من الصحابة أحد بإسمه إلا هو كما سيأتي قال ابن الجوزي إلا ما يروى في بعض التفاسير أن السجل الذي في قوله تعالى { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } اسم رجل كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم
أي وقد أبدى السهيلي حكمة لذكر زيد بإسمه في القرآن وهي أنه لما نزل قوله تعالى { ادعوهم لآبائهم } وصار يقال له زيد بن حارثة ولا يقال له زيد بن محمد ونزع منه هذا التشريف شرفه الله تعالى بذكر اسمه في القرآن دون غيره من الصحابة فصار إسمه يتلى في المحاريب
ولا يخفى أنه يأتي في زيد ما تقدم في علي ولم تذكر في القرآن امرأة بإسمها إلا مريم ولزيد أخ اسمه جبلة أسن منه
سئل جبلة من أكبر أنت أم زيد فقال زيد أكبر مني وأنا ولدت قبله أي لأن زيدا أفضل منه لسبقه للإسلام
ثم أسلم من الصحابة أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال بعضهم في سبب إسلامه إنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر غشيانه في منزله ومحادثته وكان سمع قول ورقة له لما ذهب معه إليه كما تقدم فكان متوقعا لذلك فهو مع حكيم بن حزام في بعض الأيام إذ جاءت مولاة لحكيم وقالت له إن عمتك خديجة تزعم في هذا اليوم أن زوجها نبي مرسل مثل موسى فانسل أبو بكر حتى أتى رسول

الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن خبره فقص قصته المتضمنة لمجئ الوحي له بالرسالة فقال صدقت بأبي أنت وأمي وأهل الصدق أنت أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فيقال إنه سماه يومئذ الصديق وهذا السياق ربما يدل على أن إسلام أبي بكر تأخر إلى نزل { يا أيها المدثر } بعد فترة الوحي بناء على ما تقدم وكونه سماه يومئذ الصديق لا ينافى ما سيأتي أنه سمى بذلك صبيحة الإسراء لما صدقه وقد كذبته قريش لجواز أنه لم يشتهر بذلك إلا حينئذ
وقد جاء في تفسير قوله تعالى { والذي جاء بالصدق وصدق به } أن الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي صدق به أبو بكر قال ولما سمعت خديجة مقالة أبي بكر خرجت وعليها خمار أحمر فقالت الحمدلله الذي هداك يابن أبي قحافة واسمه عبدالله أي سماه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان اسمه قبل ذلك عبد الكعبة فأبو بكر رضي الله تعالى عنه أول من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه ولقبه عتيق لحسن وجهه أو لأنه عتق من الذم والعيب أي أو نظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال هذا عتيق من النار فهو أول لقب وجد في الإسلام
وقيل سمته بذلك أمه لأنه كان لا يعيش لها ولد فلما ولدته استقبلت به الكعبة ثم قالت اللهم هذا عتيقك من الموت فهبه لي فعاش قيل ويدل له ما ذكر بعضهم أن أمه كانت إذا هزته تقول عتيق وما عتيق ذو المنظر الأنيق
وفي كلام ابن حجر الهيتمي وصح أن الملقب له به النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه في بيت عائشة وأنه غلب عليه من يومئذ قال وبه يندفع أن الملقب له أبوه وزعم أنه أمه هذا كلامه وليتأمل قوله في بيت عائشة مع ما تقدم وما في كلامه السهيلي
وقيل وسمى عتيقا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين أسلم أنت عتيق من النار
وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه صدرا معظما في قريش على سعة من المال وكرم الأخلاق من رؤساء قريش ومحط مشورتهم وكان من أعف الناس كان رئيسا مكرما سخيا يبذل المال محببا في قومه حسن المجالسة وكان من أعلم الناس بتعبير الرؤيا ومن ثم قال ابن سيرين وهو المقدم في هذاالعلم اتفاقا كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان أعلم الناس بأنساب العرب


فقد جاء عن جبير بن مطعم البالغ النهاية في ذلك أنه قال إنما أخذت النسب من أبي بكر لا سيما أنساب قريش فإنه كان أعلم قريش بأنسابها وبما كان فيها من خير وشر وكان لا يعد مساويهم فمن ثم كان محببا فيهم بخلاف عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فإنه كان بعد أبي بكر أعلم قريش بأنسابها وبآبائها وما فيها من خير وشر لكن كان مبغضا إليهم لأنه كان يعد مساويهم وكان عقيل يجلس إليه في المسجد النبوي لأخذ علم الأنساب وأيام العرب ووقائعهم
وفي كلام بعضهم كان أبو بكر عند أهل مكة من خيارهم يستعينون به فيما يأتيهم وكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد
قال الزمخشري ولعله كنى بأبي بكر لإبتكاره الخصال الحميدة وكان نقش خاتمه نعم القادر الله وكان نقش خاتم عمر رضي الله تعالى عنه كفى بالموت واعظا يا عمر وكان نقش خاتم عثمان آمنت بالله مخلصا وكان نقش خاتم علي الملك لله وكان نقش خاتم أبي عبيدة بن الجراح الحمد لله
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عند كبوة أي وقفة وتأخر وتردد إلا ما كان من أبي بكر
وفي رواية ما كلمت أحدا في الإسلام إلا أبي علي وراجعني في الكلام إلا ابن أبي قحافة فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله واستقام عليه أي ومن ثم كان أسد الصحابة رأيا وأكملهم عقلا لخبر تمام أتاني جبريل فقال لي إن الله أمرك أن تستشير أبا بكر ونزل فيه وفي عمر { وشاورهم في الأمر } كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه بمكان الوزير من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يشاوره في أموره كلها
وقد جاء إن الله تعالى أيدني بأربعة وزراء أثنين من أهل السماء جبريل ومكائيل واثنين من أهل الأرض أبي بكر وعمر وفي حديث رواته ثقات إن الله يكره أن يخطأ أبو بكر وفي رواية إن الله يكره في السماء أن يخطأ أبو بكر الصديق في الأرض
وجاء الحسن بن علي وهو صغير إلى أبي بكر وهو يخطب على المنبر فقال له انزل عن مجلس أبي فقال مجلس أبيك والله لا مجلس ابي فأجلسه في حجره وبكى فقال علي والله ما هذا عن رأيى فقال والله ما اتهمتك
ووقع نظير ذلك لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه مع سيدنا الحسين فإنه قال له

وهو يخطب انزل عن منبر أبي فقال له منبر أبيك لا منبر أبي من أمرك بهذا فقام علي فقال له ما أمره بهذا أحد ثم قال للحسين لأوجعنك يا غدر فقال لا توجع ابن أخي صدق منبر أبيه
قال وسبب مبادرته إلى التصديق ما علمه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم وبراهين صدق دعوته قبل دعوته ولرؤيا رآها قبل ذلك رآى القمر نزل إلى مكة فدخل في كل بيت منه شعبة ثم كان جميعه في حجره فقصها على بعض أهل الكتاب فعبرها له بأنه يتبع النبي المنتظر الذي قد ظل زمانه وأنه يكون أسعد الناس به ولعل هذا الذي من أهل الكتاب هو بحيرا فقد رأيت أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه رأى رؤيا فقصها على بحيرا فقال له إن صدقت رؤياك فإنه سيبعث نبي من قومك تكون أنت وزيره في حياته وخليفته بعد مماته
أي وأخرج أبو نعيم عن بعض الصحابة أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة أي علم أنه النبي المنتظر لما مر عن بحيرا الراهب ولما سمعه من شيخ عالم من الأزد قد قرأ الكتب نزل به في اليمن فقال له أحسبك حرميا فقال أبو بكر نعم فقال له أحسبك قرشيا قال نعم فقال له أحسبك تيميا قال نعم قال له بقيت لي فيك واحدة قال وما هي قال له تكشف لي عن بطنك فقال له لا أفعل أو تخبرني لم ذلك فقال أجد في العلم النجيح الصادق أن نبيا يبعث في الحرم يعاون على أمره فتى كهل فأما الفتى فخواص غمرات ودفاع معضلات وأما الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة وعلى فخذه اليسرى علامة أي مع كونه حرميا قرشيا تيميا بدليل قوله أحسبك حرميا أحسبك قرشيا أحسبك تيميا وما عليك أن تريني ما سألتك فقد تكاملت فيك الصفة أي كونه حرميا قرشيا تيميا أبيض نحيفا إلا ما خفى علي فقال أبو بكر فكشفت له عن بطني فرأى شامة بيضاء أو سواداء فوق سرتي أي ورأى العلامة على الفخذ الأيسر فقال أنت هو ورب الكعبة قال أبو بكر فلما قضيت أربى من اليمن أتيته لأودعه فقال أحافظ عني أبياتا من الشعر قلتها في ذلك النبي قلت نعم فذكرله أبياتا قال أبو بكر فقدمت مكة وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم فجاءني صناديد قريش كعقبة بن أبي معيط وشيبة بن ربيعة وأبي جهل وأبي البختري فقالوا يا أبا بكر يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي ولولا إنتظارك ما انتظرنا به فإذا قد جئت فأنت الغاية

والكفاية أي لأن أبا بكر كما تقدم كان صديقا له صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر فصرفتهم على أحسن شيء ثم جئته صلى الله عليه وسلم فقرعت عليه الباب فخرج إلي وقال لي يا أبا بكر إني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم فآمن بالله فقلت وما دليلك على ذلك قال الشيخ الذي أفادك الأبيات فقلت ومن أخبرك بهذا يا حبيبي قال الملك العظيم الذي يأتي الأنبياء قبلى قلت مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه فانصرفت وما بين لابتيها أشد سرورا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي وفي لفظ اشد سرورا مني بإسلامي ولا مانع من صدور الأمرين منه رضي الله تعالى عنه
ويحتاج للجمع بين هذا وبين ما تقدم من أنه كان مع حكيم بن حزام يوما إلى آخره على تقدير صحة الروايتين وما جاء من شعر حسان رضي الله تعالى عنه من أن أبا بكر أول الناس إسلاما حيث يقول فيه ** وأول الناس منهم صدق الرسلا **
وأنه صلى الله عليه وسلم سمع ذلك منه ولم ينكره بل قال صدقت بإحسان كما سيأتي عند الكلام على الهجرة وقول بعض الحفاظ إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أول الناس إسلاما هو المشهور عند الجمهور من أهل السنة لا ينافي ما تقدم من أن عليا أول الناس إسلاما بعد خديجة ثم مولاه زيد بن حارثة لأن المراد أول رجل بالغ ليس من الموالي أسلم أبو بكر
أي وعبارة ابن الصلاح والأورع أن يقال أول من أسلم من الرجال الأحرار أي غير الموالي أبو بكر ومن الصبيان علي ومن النساء خديجة ومن الموالي زيد بن حارثة وهذا وما قبله يدل على أن إسلام زيد بن حارثة كان بعد البلوغ وإلا فلا حاجة لزيادة ليس من الموالي تأمل
أو أن مراد من قال إن أبا بكر سبق عليا في الإسلام أي في إظهار الإسلام لأنه حين أسلم أظهر إسلامه بخلاف علي فقد جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه سبقني إلى أربع وعد منها إظهار الإسلام قال وأنا أخفيته ولعله لا ينافي ذلك ما جاء بسند حسن أن أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب لأن ذلك كان عند اختفائه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في دار الأرقم كما سيأتي فالأولية في إظهار الإسلام إضافية
قال ابن كثير وورد عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال أنا أول من أسلم

ولا يصح إسناد ذلك إليه قال وقد روى في هذا المعنى أحاديث أوردها ابن عساكر كثيرة منكرة كلها لا يصح شيء منها هذا كلامه وعلى تقدير صحتها مراده أول من أسلم من الصبيان فالأولية إضافية
ومما يؤثر عن علي رضي الله تعالى عنه لاتكن ممن يرجو بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل يحب الصاليحن ولا يعلم بأعمالهم البشاشة فخ المودة والصبر قبر العيوب والغالب بالظلم مغلوب العجب ممن يدعو ويستبطئ الإجابة وقد سد طرقها بالمعاصي
وأول من أسلم من النساء بعد خديجة رضي الله تعالى عنها أم الفضل زوج العباس وأسماء بنت أبي بكر وأم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب
وينبغي أن تكون أم أيمن سابقة في الإسلام على أم الفضل على ما تقدم وقول السراج البلقيني موافقة للزين العراقي إن أول رجل أسلم ورقة بن نوفل لقوله للنبي صلى الله عليه وسلم أنا أشهد أنك الذي بشر بك عيسى ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل قد علمت ما فيه وأنه إنما كان من أهل الفترة كما صرح به الحافظ الذهبي وهو يرد القول المتقدم بأن وفاة ورقة تأخرت عن البعثة فورقة ونحوه كبحيرا ونسطورا من أهل الفترة لا من أهل الإسلام ويؤيده ما تقدم أنه بإجماع المسلمين لم يتقدم خديجة في الإسلام لا رجل ولا امرأة لكن هؤلاء من القسم الذي تمسك بدين قبل نسخه وآمن وصدق بأنه صلى الله عليه وسلم الرسول المنتظر وذلك نافع له في الآخرة ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لما توفى ورقة لقد رأيت القس يعني ورقة في الجنة وعليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني إلى آخر ما تقدم
وعلى تسليم أنه لا يشترط في المسلم أن يؤمن ويصدق برسالته صلى الله عليه وسلم بعد وجودها بل يكفي ولو قبل ذلك فليس ورقة بصحابي لأن الصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة مؤمنا بما جاء به عن الله تعالى أي محكوما بإيمانه
ومن ثم رد الحافظ الذهبي على ابن منده أي ومن وافقه كالزين العراقي في عده له من الصحابة أي كما عد منهم بحيرا ونسطورا بقوله الأظهر أن من مات بعد النبوة وقبل الرسالة فهو من أهل الفترة هذا كلام الحافظ الذهبي والمراد بالرسالة نزول { يا أيها المدثر } لاإظهارها ونزول قوله تعالى { فاصدع بما تؤمر } بناء على تأخر الرسالة

وحين أسلم ابو بكر رضي الله تعالى عنه دعا إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من وثق به من قومه فأسلم بدعائه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس
أي ولما أسلم عثمان رضي الله تعالى عنه أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية والد مروان فأوثقه كتافا وقال ترغب عن ملة آبائك إلى دين محمد والله لا أحلك أبدا حتى تدع ما أنت عليه فقال عثمان والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه فلما رأى الحكم صلابته في الحق تركه وقيل عذبه بالدخان ليرجع فما رجع
وفي كلام ابن الجوزي أن المعذب بالدخان ليرجع عن الإسلام الزبير بن العوام هذا كلامه ولا مانع من تعدد ذلك وجاء لكل نبي رفيق في الجنة ورفيقي فيها عثمان ابن عفان
وأسلم بدعاء أبي بكر أيضا الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه وكان عمره ثمان سنين على ما تقدم وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه أي وكان اسمه في الجاهلية عبد عمر وقيل عبد الكعبة وقيل عبدالحارث فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن قال وكان أمية بن خلف لي صديقا فقال لي يوما أرغبت عن اسم سماك به أبوك فقلت نعم فقال لي إني لاأعرف الرحمن ولكن أسميك بعبد الإله فكان يناديني بذلك
قال وسبب إسلام عبدالرحمن بن عوف ما حدث به قال سافرت إلى اليمن غير مرة وكنت إذا قدمت نزلت على عسكلان بن عواكف الحميري فكان يسألني هل ظهر فيكم رجل له نبأ له ذكر هل خالف أحد منكم عليكم في دينكم فأقول لا حتى كانت السنة التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت اليمن فنزلت عليه إلى آخر القصة
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعبد الرحمن بن عوف أنت أمين في أهل الأرض أمين في أهل السماء وجاء أنه وصفه بالصادق الصالح البار
وأسلم بدعاية أبي بكر رضي الله تعالى عنه أيضا سعد بن أبي وقاص أي فإن أبا بكر لمادعاه إلى الإسلام لم يبعد وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أمره فأخبره به فأسلم وكان عمره تسع عشرة سنة وهو رضي الله تعالى عنه من بني زهرة ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم وقد أقبل عليه سعد خالي فليرني امرؤ خاله


وفي كلام السهيلي أنه عم آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم وكرهت أمه إسلامه وكان بارا بها فقالت له ألست تزعم أن الله يأمرك بصلة الرحم وبر الولدين قال فقلت نعم فقالت والله لا أكلت طعاما ولا شربت شرابا حتى تكفر بما جاء به محمد أي وتمس إسافا ونائلة فكانوا يفتحون فاها ثم يلقون فيه الطعام والشراب فأنزل الله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } الآية وفي رواية أنها مكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت وقد خمدت ثم مكثت يوم وليلة لا تأكل ولا تشرب قال سعد فلما رأيت ذلك قلت لها تعلمين والله يا أمه لو كان لك مائة نفس تخرج فسا ما تركت دين هذا النبي صلى الله عليه وسلم فكلي إن شئت أو لا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت
وفي الأنساب للبلاذري عن سعد قال أخبرت أمي أني كنت أصلي العصر أي الركعتين اللتين كانوا يصلونهما بالعشي فجئت فوجدتها على بابها تصيح ألا أعوان يعينوني عليه من عشيرتي أو عشيرتي فأحبسه في بيت وأطبق عليه بابه حتى يموت أو يدع هذا الدين المحدث فرجعت من حيث جئت وقلت لا أعود إليك ولا أقرب منزلك فهجرتها حينا ثم أرسلت إلى أن عد إلى منزلك ولا تتضيفن فيلزمنا عار فرجعت إلى منزلي فمرة تلقاني بالبشر ومرة تلقاني بالشر وتعيرني بأخي عامر وتقول هي البر لا يفارق دينه ولا يكون تابعا فلما أسلم عامر لقى منها مالم يلق أحد من الصياح والأذى حتى هاجر إلى الحبشة ولقد جئت والناس مجتمعون على أمي وعلى أخي عامر فقلت ما شأن الناس فقالوا هذه أمك قد أخذت أخاك عامرا وهي تعطى الله عهدا لا يظلها نخل و لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى يدع صبأته فقلت لها والله يا أمه لا تستظلين ولا تأكلين ولا تشربين حتى تتبوئى مقعدك من النار
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن أبي وقاص أن يأتي الحارث بن كلدة طبيب العرب ليستوصفه في مرض نزل بسعد وكان ذلك في حجة الوداع فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود عبدالرحمن بن عوف لمرض نزل به فوجد عند الحارث فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن إني لأرجو أن يشفيك الله حتى يضر بك قوم وينتفع بك آخرون ثم قال للحارث بن كلدة عالج سعدا مما به وكان سعد بالمجلس فقال والله إني لأرجو شفاءه فيما ينفعه من رجله هل معك من هذه الثمرة العجوة شيء قال نعم فخلط ذلك الثمر بحلبة ثم أوسعها سمنا ثم أحساه إياها فكأنما نشط من عقال وهذا استدل

به على إسلام الحارث بن كلدة لأن حجة الوداع لم يحج فيها مشرك فهو معدود من الصحابة وأنكر بعضهم إسلامه وجعله دليلا على جواز استشارة أهل الكفر في الطب إذا كانوا من أهله
وممن أسلم بدعاية أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أيضا طلحة بن عبدالله التيمي فجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجاب له فأسلم
أي ولما تظاهر أبو بكر وطلحة بالإسلام فأخذهما نوفل بن العدوية وكان يدعى أسد قريش فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم ولذلك سمى أبو بكر وطلحة القرينين ولشدة ابن العدوية وقوة شكيمته كان صلى الله عليه وسلم يقول اللهم اكفنا شر ابن العدوية
أقول سبب إسلام طلحة بن عبيدالله رضي الله تعالى عنه ما تقدم أنه قال حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول سلوا أهل هذا الموسم هل ثم من أهل الحرم أحد فقلت نعم أنا قال هل ظهر أحد بعد قلت ومن أحمد قال ابن عبدالله بن عبدالمطلب هذا شهره الذي يخرج فيه وهو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم ومهاجره إلى أرض ذات نخل وسباخ فإياك أن تسبق إليه قال طلحة فوقع في قلبي ما قال فخرجت سريعا حتى قدمت مكة فقلت هل كان من حدث قالوا نعم محمد بن عبدالله الأمين يدعو إلى الله وقد تبعه ابن أبي قحافة فخرجت حتى دخلت على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فأخبرته بما قال الراهب فخرج أبو بكر حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فسر بذلك وأسلم طلحة
وطلحة هذا هو أحد العشرة المبشرين بالجنة وقد شاركه رجل آخر في اسمه واسم أبيه ونسبه وهو طلحة بن عبيد الله التيمي وهو الذي نزل فيه قوله تعالى { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه } الآية لأنه قال لئن مات محمد رسول الله لأتزوجن عائشة وفي لفظ يتزوج محمد بنات عمنا ويحجبهن عنا لئن مات لأتزوجن عائشة من بعده فنزلت الآية
قال الحافظ السيوطي وقد كنت في وقفة شديدة من صحة هذا الخبر لأن طلحة أحد العشرة أجل مقاما من أن يصدر عنه ذلك حتى رأيت أنه رجل آخر شاركه في إسمه وإسم أبيه ونسبه هذا كلامه


والحاصل أن أبا بكر أسلم على يده خمسة من العشرة المبشرين بالجنة وهم عثمان وطلحة بن عبيدالله ويقال له طلحة الفياض وطلحة الجود والزبير وسعد ابن أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف وزاد بعضهم سادسا وهو أبو عبيدة بن الجراح وكان كل من أبي بكر وعثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وطلحة بزازا وكان الزبير جزارا وكان سعد بن أبي وقاص يصنع النبل والله أعلم ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء
وذكر في الأصل جماعة من السابقين للإسلام منهم عبدالله بن مسعود وأن سبب إسلامه ما حدث به قال كنت في غنم لآل عقبة بن أبي معيط فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر بن أبي قحافة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل عندك لبن فقلت نعم ولكني مؤتمن قال هل عندك من شاة لم ينز عليها الفحل قلت نعم فأتيته بشاة شصوص لا ضرع لها فمسح النبي صلى الله عليه وسلم مكان الضرع فإذا ضرع حافل مملوء لبنا كذا في الأصل وفي الصحاح كما في النهاية الشصوص التي ذهب لبنها وحينئذ يكون قول الأصل لا ضرع لها أي لا لبن لها ويدل لذلك قول ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين فمسح ضرعها وقول ابن مسعود فمسح مكان الضرع أي محل اللبن فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بصخرة منقورة فاحتلب النبي صلى الله عليه وسلم فسقى أبا بكر وسقاني ثم شرب ثم قال للضرع اقلص فرجع كما كان أي لا وجود له على ظاهر ما في الأصل أو لا لبن فيه على ما في النهاية كالصحاح وإلى ذلك أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله ** ورب عناق مانزا الفحل فوقها ** مسحت عليها باليمين فدرت **
قال ابن سمعود فما رأيت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يارسول الله علمني فسمح رأسي وقال بارك الله فيك فإنك غلام معلم
أقول فإن قيل قول ابن مسعود ولكني مؤتمن وعدوله صلى الله عليه وسلم عن ذات اللبن إلى غيرها يخالف ما سيأتي في حديث المعراج والهجرة أن العادة كان جارية بإباحة مثل ذلك اللبن لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك فكان كل راع مأذونا له في ذلك وإذا كان ذلك أمرا متعارفا مشهورا يبعد خفاؤه
قلنا قد يقال لا مخالفة لأن ابن السبيل المسافر وجاز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم

وأبو بكر رضي الله تعالى عنه لم يكونا مسافرين لجواز أن تكون تلك الغنم التي كان فيها ابن مسعود ببعض نواحي مكة القريبة منها التي لا يعد قاصدها مسافرا ولعله لا ينافى ذلك ما سيأتي أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أبيح له أخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج صلى الله عليه ولم إليهما وأنه يجب على مالكهما بذل ذلك له
وكان عبدالله بن مسعود يعرف بأمه وهي أم عبد وكان قصيرا جدا طوله نحو ذراع خفيف اللحم ولما ضحكت الصحابة رضي الله تعالى عنهم من دقة رجليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل عبدالله في الميزان أثقل من أحد وقال صلى الله عليه وسلم في حقه رضيت لأمتي ما رضى لها ابن ام عبد وسخطت لها ما سخط لها ابن أم عبد
وقوله لرجل عبدالله في الميزان يدل للقول بأن الموزون الإنسان نفسه لا عمله وكان صلى الله عليه وسلم يكرمه ويدنيه ولا يحجبه فلذلك كان كثير الولوج عليه صلى الله عليه وسلم وكان يمشي أمامه صلى الله عليه وسلم ومعه ويستره إذا اغتسل ويوقظه إذا نام ويلبسه نعليه إذا قام فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه ولذلك كان مشهورا بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنه صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ولم أقف على أنه أسلم حين أجفلت الشاة لكن قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين أسلم قديما بمكة لما مر به صلى الله عليه وسلم وهو يرعى غنما إلى آخره يدل على أنه أسلم حينئذ ومما يؤثر عنه الدنيا كلها هموم فما كان فيها من سرور فهو ربح والله أعلم
وذكر في الأصل أن من السابقين أبا ذر الغفاري واسمه جندب بن جنادة بضم الجيم فيهما قال وسبب إسلامه ما حدث به قال صليت قبل أن ألقى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لله أتوجه حيث يوجهني ربي فبلغنا أن رجلا خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي أنيس انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وأتني بخبره فلما جاء أنيس قلت له ما عندك فقال والله رأيت رجلا يأمر بخير وينهى عن الشر وفي رواية رأيتك على دينه يزعم أن الله أرسله ورأيته يأمر بمكارم الأخلاق قلت فما يقول الناس فيه قال يقولون شاعر كاهن ساحر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون فقلت اكفني حتى أذهب فانظر قال نعم وكن على حذر من أهل مكة فحملت جرابا وعصا ثم

أقبلت حتى أتيت مكة فجعت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه فمكثت في المسجد ثلاثين ليلة ويوما وما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على بطني سحنة جوع والسحنة بالتحريك قيل حرارة يجدها الإنسان من الجوع ففي ليلة لم يطف بالبيت أحد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه جاءا فطافا بالبيت ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى صلاته أتيته فقلت السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فرأيت الإستبشار في وجهه ثم قال من الرجل قلت من غفار بكسر المعجمة قال متى كنت قال كنت من ثلاثين ليلة ويوما ههنا قال فمن كان يطعمك قلت ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما أجد على بطني سحنة جوع قال مبارك إنها طعام طعم وشفاء سقم أي وجاء ماء زمزم لما شرب له إن شربته لتشفى شفاك الله وإن شربته لتشبع أشبعك الله وإن شربته لتقطع ظمأك قطعه الله وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسمعيل وجاء التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق وجاء آية ما بيننا وبين المنافق أنهم لا يتضلعون من ماء زمزم
وذكر أن أبا ذر أول من قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم السلام عليك التي هي تحية الإسلام فهو أول من حيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يأخذه في الله لومة لائم وعلى أن يقول الحق ولو كان مرا ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أظلت الخضراء أي السماء ولا أقلت الغبراء أي الأرض أصدق من أبي ذر وقال صلى الله عليه وسلم في حقه أبو ذر يمشي في الأرض على زهد عيسى ابن مريم وفي الحديث أبو ذر أزهد أمتي وأصدقها وقد هاجر أبو ذر إلى الشام بعد وفاة أبي بكر واستمر بها إلى أن ولى عثمان فاستقدمه من الشام لشكوى معاوية منه وأسكنه الربذة فكان بها حتى مات فإن أبا ذر صار يغلظ القول لمعاوية ويكلمه بالكلام الخشن
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن لقيا أبي ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان بدلالة علي رضي الله تعالى عنه وأنه قال له ما أقدمك هذه البلدة فقال له أبو ذر إن كتمت علي أخبرتك وفي رواية إن أعطيتني عهدا وميثاقا أن ترشدني أخبرتك ففعل قال أبو ذر فأخبرته فأرشدني وأوصلني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلمت


وفي الإمتاع أن عليا استضاف أبا ذر ثلاثة أيام لا يسأله عن شيء وهو لا يخبره ثم في الثالث قال له ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة قال له إن كتمت علي أخبرتك قال فإني أفعل قال له بلغنا أنه خرج هنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر فأردت أن ألقاه فقال له أما إنك قد رشدت هذا وجهي أي خروجي إليه فاتبعني أدخل حيث أدخل فإن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وفي لفظ كأني أريق الماء فامض أنت قال أبو ذر فمضى ومضيت حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له أعرض علي الإسلام فعرضه علي فأسلمت مكاني الحديث
وما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم له من كان يطعمك وجواب أبي ذر له صلى الله عليه وسلم بقوله ماكان لي طعام إلا ماء زمزم يبعد أن يكون علي رضي الله تعالى عنه أضاف أبا ذر ولم يأكل عنده وكذا يبعده ما جاء أن أبا بكر قال يا رسول لله ائذن لي في إطعامه الليلة قال أبو ذر فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فانطلقت معهما ففتح أبو بكر بابا فجعل يفيض لنا من زبيب الطائف فكان ذلك أول طعام أكلته إلا أن يحمل الطعام على خصوص الزبيب
ويمكن التوفيق بين الروايتين أي رواية دخوله على النبي صلى الله عليه وسلم مع علي فأسلم ورواية إجتماعه به في الطواف فأسلم بأن يكون أبو ذر دخل عليه أولا مع علي ثم لقيه في الطواف ويكون المراد حينئذ بإسلامه الثاني الثبات عليه بتكرير الشهادتين وعذره في عدم إجتماعه به في المسجد مدة ثلاثين يوما عدم خلو المطاف كما يرشد لذلك قوله ففي ليلة لم يطف بالبيت أحد إلى آخره وإلا فيبعد أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يدخل المسجد للطواف مدة ثلاثين يوما
ويبعد هذا الجمع قوله صلى الله عليه وسلم له من الرجل إلى آخره ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى قومك فأخبرهم يأتوني فإذا بلغك ظهورنا فأقبل فقلت والذي بعثك بالحق لأصرخن بهذا بين ظهرانيهم قال وكنت في أول الإسلام خامسا وفي رواية رابعا ولعل المراد من الإعراب فلا ينافي ما يأتي في وصف خالد بن سعيد فلما اجتمعت قريش بالمسجد ناديت بأعلى صوتي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فضربت

لأموت وفي لفظ فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي فأكب علي العباس ثم قال لهم ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجارتكم عليهم فخلوا عني قال فجئت زمزم فغسلت عني الدماء فلما أصبحت الغداة رجعت لمثل ذلك فصنع بي مثل ما صنع وأدركني العباس وكان منه كالأمس فخرجت وأتيت أنيسا فقال ما صنعت فقلت قد أسلمت وصدقت فقال ما لي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت فأتينا أمنا فقالت ما لي رغبة عن دينكما فإني أسلمت وصدقت ثم أتينا قومنا غفارا فأسلم نصفهم وقال نصفهم إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا فلما جاء المدينة أسلم نصفهم الثاني أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر إني وجهت إلى أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب فهل أنت مبلغ قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم وجاءت أسلم القبيلة المعروفة فقالوا يا رسول الله نسلم على الذي أسلم عليه إخواننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله
أي وقد ذكر أن أبا ذر وقف يوما عند الكعبة أي في حجة حجها أو عمرة اعتمرها فأكتنفه الناس فقال لهم لو أن أحدكم أراد سفرا أليس يعد زادا فقالوا بلى فقال سفر القيامة أبعد مما تريدون فخذوا ما يصلحكم قالوا وما يصلحنا قال حجوا حجة لعظائم الأمور وصوموا يوما شديدا حره ليوم النشور وصلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور
وممن أسلم خالد بن سعيد بن العاص رضي لله تعالى عنه قيل كان حين أسلم رابعا وقيل خامسا وهو أول من أسلم من إخوته ويمكن أن يكون ذلك محمل قول ابنته أم خالد أول من أسلم أبي أي من إخوته
وسبب إسلامه أنه رأى في النوم النار ورأى من فظاعتها وأهوالها أمر مهولا ورأى أنه على شفيرها وأن أباه يريد أن يلقيه فيها ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بحجزته يمنعه من الوقوع فيها فقام من نومه فزعا وقال أحلف بالله أن هذه الرؤيا حق وعلم أن نجاته من النار تكون على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى أبا بكر فذكر له ذلك فقال له أريد بك خير هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه فأتاه فقال يا محمد إلام تدعو قال أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده

ورسوله وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع فأسلم خالد
وفي الوفاء عن أم خالد بنت خالد بن سعيد أنها قالت كان خالد بن سعيد ذات ليلة نائما قبيل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رأيت كأنه غشيت مكة ظلمة حتى لا يبصر امرؤ كفه فبينما هو كذلك إذ خرج نور أي من زمزم ثم علا في السماء فأضاء في البيت ثم أصاب مكة كلها ثم تحول إلى يثرب فأصابها حتى أني لأنظر إلى اليسر في النخل فاستيقظت فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد وكان جزل الرأي فقال يا أخي إن هذا الأمر يكون في بني عبدالمطلب ألا ترى أنه خرج من حفر أبيهم ثم إنه ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعد مبعثه فقال يا خالد أنا والله ذلك النور وأنا رسول الله وقص عليه ما بعثه الله به فأسلم خالد وعلم أبوه بذلك أبوه وهو سعيد أبو أجيحة وكان من عظماء قريش كان إذا أعتم لم يعتم قرشي إعظاما له ومن ثم قال فيه القائل ** أبا أجيحة من يعتم عمته ** يضرب وإن كان ذا مال وذا عدد **
وعند إسلام ولده خالد أرسل في طلبه فانتهره وضربه أي بمقرعة كانت في يده حتى كسرها على رأسه ثم قال اتبعت محمدا وأنت ترى خلافه لقومه وما جاء به من عيب آلهتهم وعيب من مضى من آبائهم فقال والله تبعته على ما جاء به فغضب أبوه وقال أذهب يالكع حيث شئت وقال والله لأمنعنك القوت قال إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به فأخرجه وقال لبنيه ولم يكونوا أسلموا لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به فانصرف خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يلزمه ويعيش معه ويغيب عن أبيه في نواحي مكة حتى خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية فكان خالد أول من هاجر إليها
وذكر عن والده سعيد أنه مرض فقال إن رفعني الله من مرضي هذا لا يعبد إله ابن أبي كبشة بمكة أبدا فقال خالد عند ذلك اللهم لا ترفعه فتوفى في مرضه ذلك وخالد هذا أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم وأسلم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه
قيل وسبب إسلامه أنه رأى نورا خرج من زمزم أضاءت له منه نخل المدينة حتى

رأى البسر فيها فقص رؤياه فقيل له هذه بئر بني عبدالمطلب وهذا النور منهم يكون فكان سببا لإسلامه وتقدم قريبا أن هذا الرؤيا وقعت لخالد فكانت سبب إسلامه وأنه قصه على أخيه عمرو المذكورة فهو من خلط بعض الرواة إلا أن يقال لا مانع من تعدد هذه الرؤية لخالد ولأخيه عمرو وأنها كانت سببا لإسلامهما وأسلم من بني سعيد أيضا أبان والحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله
أي ومن السابقين للإسلام صهيب كان أبوه عاملا لكسرى أغارت الروم عليهم فسبت صهيبا وهو غلام صغير فنشأ في الروم حتى كبر ثم ابتاعه جماعة من العرب وجاءوا به إلى سوق عكاظ فابتاعه منهم بعض أهل مكة أي وهو عبداله بن جدعان فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مر صهيب على دار رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عمار بن ياسر فقال له عمار بن ياسر أين تريد يا صهيب قال أريد أن أدخل إلى محمد فأسمع كلامه وما يدعو إليه قال عمار وأنا أريد ذلك فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما بالجلوس فجلسا وعرض عليهما الإسلام وتلا عليهما ما حفظ من القرآن فتشهدا ثم مكثا عنده يومهما ذلك حتى أمسيا خرجا مستخفيين فدخل عمار على أمه وأبيه فسألاه أين كان فأخبرهما بإسلامه وعرض عليهما الإسلام وقرأ عليهما ما حفظ من القرآن في يومه ذلك فأعجبهما فأسلما على يده فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه الطيب المطيب
وأسلم أيضا حصين والد عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما بعد إسلام والده عمران
وسبب إسلامه أن قريشا جاءت إليه وكانت تعظمه وتجله فقالوا له كلم لنا هذا الرجل فإنه يذكر آلهتنا ويسبها فجاءوا معه حتى جلسوا قريبا من باب النبي صلى الله عليه وسلم ودخل حصين فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال أوسعوا للشيخ وعمران وولده في الصحابة فقال حصين ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرها فقال يا حصين كم تعبد من إله قال سبعة في الأرض وواحد في السماء فقال فإذا أصابك الضر لمن تدعو قال الذي في السماء قال فإذا هلك المال من تدعو قال الذي في السماء قال فيستجيب له وحده وتشرك معه أرضيته في الشرك يا حصين أسلم تسلم فأسلم فقام إليه ولده عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه فبكى

صلى الله عليه وسلم وقال بكيت من صنع عمران دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران ولم يلتفت ناحيته فلما أسلم وفي حقه فدخلني من ذلك الرقة فلما أراد حصين الخروج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه شيعوه إلى منزله فلما خرج من سدة الباب أي عتبته رأته قريش قالوا قد صبا وتفرقوا عنه & باب استخفائه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في دار الأرقم ابن الأرقم رضي الله تعالى عنهما ودعائه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام جهرة وكلام قريش لأبي طالب في أن يخلى بينهم وبينه وما لقى هو وأصحابه من الأذى وإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى عنه
عن ابن اسحاق أن مدة ما أخفى صلى الله عليه وسلم أمره أي المدة التي صار يدعو الناس فيها خفية بعد نزول { يا أيها المدثر } ثلاث سنين أي فكان من أسلم إذا أراد الصلاة يذهب إلى بعض الشعاب يستخفى بصلاته من المشركين أي كما تقدم فبينما سعد ابن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة إذا ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون فناكروهم وعابوا عليه ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد بن أبي وقاص رجلا منهم بلحى بعير فشجه فهو أول دم أهريق في الإسلام ثم دخل صلى الله عليه وسلم وأصحابه مستخفين في دار الأرقم أي بعد هذه الواقعة فإن جماعة أسلموا قبل دخوله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم ودار الأرقم هي المعروفة الآن بدار الخيزران عند الصفا أشتراها الخليفة المنصور وأعطاها ولده المهدي ثم أعطاها المهدي للخيزران أم ولديه موسى الهادي وهرون الرشيد ولا يعرف أمرأة ولدت خليفتين إلا هذه وولادة جارية عبدالملك بن مروان فإنه أم الوليد وسليمان
وقد روت الخيزران عن زوجها المهدي عن أبيه عن جده عن ابن عباس رضي الله

تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتقى الله وقاه كل شيء
فكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقيمون الصلاة بدار الأرقم ويعبدون الله تعالى فيها إلى أن أمره الله تعالى بإظهار الدين
أي وهذا السياق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم استمر مستخفيا هو وأصحابه في دار الأرقم إلى أن أظهر الدعوة وأعلن صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة أي وقيل مدة استخفائه صلى الله عليه وسلم أربع سنين وأعلن في الخامسة وقيل أقاموا في تلك الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون وقد يقال الإقامة شهرا مخصوصة بالعدد المذكور فلا منافاة وإعلانه صلى الله عليه وسلم كان في الرابعة أو الخامسة بقوله تعالى { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } وبقوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } أي أظهر ما تؤمر به من الشرائع وادع إلى الله تعالى ولا تبال بالمشركين وخوف بالعقوبة عشيرتك الأقربين وهم بنو هاشم وبنو المطلب أي وبنو عبد شمس وبنو نوفل أولاد عبد المطلب بدليل ما يأتي قال بعضهم آية { فاصدع بما تؤمر } اشتملت على شرائط الرسالة وشرائعها وأحكامها وحلالها وحرامها
وقال بعضهم إنما أمر بالصدع لغلبة الرحمة عليه صلى الله عليه وسلم قال ذكر بعضهم أنه لما نزل عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } اشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وضاق به ذرعا أي عجز عن إحتماله فمكث شهرا أو نحوه جالسا في بيته حتى ظن عماته أن شاك أي مريض فدخلن عليه عائدات فقال صلى الله عليه وسلم ما اشتكيت شيئا لكن الله أمرني بقوله { وأنذر عشيرتك الأقربين } فأريد أن اجمع بني عبدالمطلب لأدعوهم إلى الله تعالى قلن فادعهم ولا تجعل عبدالعزى فيهم يعنين عمه أبا لهب فإنه غير مجيبك إلى ما تدعوه إليه وخرجن من عنده صلى الله عليه وسلم أي وكنى عبد العزى بأبي لهب لجمال وجهه ونضاره لونه كأنه وجهه وجبينه ووجنتيه لهب النار أي خلافا لما زعمه بعضهم أن ولده عقير الأسد أو ولد آخر غيره كان اسمه لهبا
قال وفي الإتقان ليس في القرآن من الكنى غير أبي لهب ولم يذكر اسمه وهو عبدالعزى أي الصنم لأنه حرام شرعا هذا كلامه وفيه أن الحرام وضع ذلك لا إستعماله
وفي كلام بعضهم ما يفيد أن الإستعمال حرام أيضا إلا أن يشتهر بذلك كما في الأوصاف المنقصة كالأعمش


وفي كلام القاضي وإنما كناه والكنية تكرمه أي بالعدول عن الإسم إليها لإشتهاره بكنيته ولأن اسمه عبدالعزى هو الصنم فاستكره ذكره ولأنه لما كان من أصحاب النار كانت الكنية أوفق بحاله في الآخرة فهي كنية تفيد الذم
فاندفع ما يقال هذا يخالف قولهم ولا يكنى كافر وفاسق ومبتدع إلا لخوف فتنة أو تعريف لأن ذلك خاص بالكنية التي تفيد المدح لا الذم ولم يشتهر بها صاحبها
قال فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني عبدالمطلب فحضروا وكان فيهم أبو لهب فلما أخبرهم بما أنزل الله عليه أسمعه ما يكره قال تبا لك ألهذا جمعتنا أي وأخذ حجرا ليرميه به وقال له ما رأيت أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بأشر ما جئتهم به فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم في ذلك المجلس انتهى
أي وفي الإمتاع أن أبا لهب ظن أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن ينزع عما يكرهون إلى ما يحبون فقال له هؤلاء عمومتك وبنو عمومتك فتكلم بما تريد واترك الصبأة واعلم أنه ليس لقومك بالعرب طاقة وإن أحق من أخذك وحبسك أسرتك وبنوا أبيك إن أقمت على أمرك فهو أيسر عليك من أن تتب عليك بطون قريش وتمدها العرب فما رأيت يا ابن أخي أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بشر ما جئتهم به وعند ذلك أنزل الله تعالى { تبت } أي خسرت وهلكت { يدا أبي لهب وتب } أي خسر وهلك بجملته أي والمراد بالأول جملته عبر عنها باليدين مجازا والمراد به الدعاء وبالثاني الخبر على حد قولهم أهلكه الله وقد هلك
أي ولما قال أبو لهب عند نزول { تبت يدا أبي لهب وتب } إن كان ما يقوله محمد حقا افتديت منه بمالي وولدي نزل { ما أغنى عنه ماله وما كسب } أي وأولاده لأن الولد من كسب أبيه أي وفي رواية وهي في الصحيحين أنه دعا قريشا فاجتمعوا فخص وعم فقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار أي وفيه أنه إنما أمر بالإنذار لعشريته الأقربين ثم قال صلى الله عليه وسلم يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد زهرة أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يافاطمة أنقذي نفسك من النار يا صفية عمة محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا وفي لفظ لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من

الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله أي لا تبقوا على كفركم إتكالا على قرابتكم مني فهو حث لهم على صالح الأعمال وترك الإتكال غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها أي أصلها بالدعاء أي والبلال بالفتح كقطام ما يبل الحلق من الماء أو اللبن وبل رحمه إذا وصلها وبلوا أرحامكم ندوها بالصلة وفي الحديث بلوا أرحامكم ولو بالسلام أي وصلوها أي وقد ذكر أئمتنا صابط الصلة
وفي تخصيصه صلى الله عليه وسلم فاطمة من بين بناته مع أنها أصغرهن وقيل أصغر بناته رقية وتخصيصه صلى الله عليه وسلم صفية من بين عماته حكمة لا تخفى ومن الغريب ما في الكشاف من زيادة يا عائشة بنت أبي بكر يا حفصة بنت عمر
عندي أن ذكر عائشة وحفصة بل وفاطمة هنا من خلط بعض الرواة وأن هذا ذكره صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فذكره بعض الرواة هنا فإن المراد بالإنقاذ من النار الإتيان بالإسلام بدليل قوله صلى الله عليه وسلم إلى أن تقولوا لا إله إلا الله مع أنه تقدم أن بناته عليه الصلاة والسلام لم يكن كفارا فليتأمل
ثم مكث صلى الله عليه وسلم أياما ونزول عليه جبريل وأمره بإمضاء أمر الله تعالى فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانيا وخطبهم ثم قال لهم إن الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا والله يابني عبدالمطلب ما أعلم شابا جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة فتكلم القوم كلاما لينا غير أبي لهب فإنه قال يا بني عبدالمطلب هذه والله السوأة خذوا على يديه قبل أن يأخذ على يديه غيركم فإن أسلمتموه حينئذ ذللتم وإن منعتموه قتلتم فقالت له أخته صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها أي أخي أيحسن بك خذلان ابن أخيك فوالله ما زال العلماء يخبرون أنه يخرج من ضئضئ أي أصل عبدالمطلب نبي فهو هو قال هذا والله الباطل والأماني وكلام النساء في الحجال إذا قامت بطون قريش وقامت معها العرب فما قوتنا بهم فوالله ما نحن عندهم إلا أكلة رأس فقال أبو طالب والله لنمنعنه ما بقينا ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم جميع قريش وهو قائم على الصفا وقال إن أخبرتكم

أن خيلا تخرج من سنح بالنون والحاء المهملة أي أصل وفي لفظ سفح بالفاء والحاء المهملة هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم تكذبوني قالوا ما جربنا عليك كذبا فقال يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا إني لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد أي وفي لفظ إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشى أن يسبقوه إلى أهله فجعل يهتف يا صباحاه يا صباحاه أتيتم أتيتم
ومن أمثاله صلى الله عليه وسلم أنا النذير العريان أي الذي ظهر صدقه من قولهم عرى الأمر إذا ظهر وقولهم الحق عار أي ظاهر وقيل الذي جرده العدو فأقبل عريانا ينذر بالعدو وعن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل
واختلفت الروايات في محل وقوفه ففي رواية وقف على الصفا كما تقدم وفي رواية وقف على أضمة من جبل فعلا أعلاها حجرا يهتف يا صباحاه فقالوا من هذا الذي يهتف قالوا محمد فاجتمعوا إليه فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا الحديث وفي رواية صاح على ابي قبيس يا آل عبد مناف إني نذير وروى أنه لما نزل قوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } جمع بني عبدالمطلب في دار أبي طالب وهم أربعون وفي الإمتاع خمسة وأربعون رجلا وامرأتان فصنع لهم علي طعاما أي رجل شاة مع مد من البر وصاعا من لبن فقدمت فهم الجفنة وقال كلوا بسم الله فأكلوا حتى شبعوا وشربوا حتى نهلوا وفي رواية حتى رووا وفي رواية قال ادنوا عشرة عشرة فدنا القوم عشرة عشرة ثم تناول القعب الذي فيه اللبن فجزع منه ثم ناولهم وكان الرجل منهم يأكل الجذعة وفي رواية يشرب العس من الشراب في مقعد واحد فقهرهم ذلك فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم بدره أبولهب بالكلام فقال لقد سحركم صاحبكم سحرا عظيما وفي رواية محمد وفي رواية ما رأينا كالسحر اليوم فتفرقوا ولم يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الغد قال يا علي عد لنا بمثل ما صنعت بالأمس من الطعام والشراب قال علي ففعلت ثم جمعتهم له صلى الله عليه وسلم فأكلوا حتى شبعوا وشربوا حتى نهلوا ثم قال لهم يا بني عبدالمطلب إن الله قد بعثني إلى الخلق كافة وبعثني إليكم خاصة فقال { وأنذر عشيرتك الأقربين } وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان شهادة أن لا إله

إلا الله وأني رسول الله فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويوازرني أي يعاونني على القيام به قال علي أنا يا رسول الله وأنا أحدثهم سنا وسكت القوم زاد بعضهم في الرواية يكن أخي ووزيرا وورثى وخليفتي من بعدي فلم يجبه أحد منهم فقام علي وقال أنا يا رسول الله قال اجلس ثم أعاد القول على القوم ثانيا فصمتوا فقام علي وقال أنا يا رسول الله فقال اجلس ثم أعاد القول على القوم ثالثا فلم يجبه أحد منهم فقام علي فقال أنا يا رسول الله فقال اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيى ووارثي وخليفتي من بعدي
قال الإمام أبو العباس بن تيمية أي في الزيادة المذكورة أنها كذب وحديث موضوع من له أدنى معرفة في الحديث يعلم ذلك وقد رواه أي الحديث مع زيادته المذكورة ابن جرير والبغوي بإسناد فيه أبو مريم الكوفي وهو مجمع على تركه وقال أحمد إنه ليس بثقة عامة أحاديثه بواطيل وقال ابن المديني كان يضع الحديث وفي رواية عن علي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خديجة فصنعت له طعاما ثم قال لي ادع لي بني عبدالمطلب فدعوت أربعين رجلا الحديث ولا مانع من تكرر فعل ذلك ويجوز أن يكون علي فعل ذلك عند خديجة وجاء به إلى بيت أبي طالب ولعل جمعهم هذا كان متأخرا عن جمعهم مع غيرهم المتقدم ذكره ويشهد له السياق فعل ذلك حرصا على إسلام أهل بيته فلما دعا قومه ولم يردوا عليه ولم يجيبوه أي وفي رواية صار كفار قريش غير منكرين لما يقول فكان صلى الله عليه وسلم إذ مر عليهم في مجالسهم يشيرون إليه إن غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء وكان ذلك دأبهم حتى عاب آلهتهم أي وسفه عقولهم وضلل آباءهم أي حتى أنه مر يوما وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام فقال يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم فقالوا إنما نعبد الأصنام حبا لله لتقربنا إلى الله فانزل الله تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فتناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم وجاءوا إلى أبي طالب وقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا أي عقولنا ينسبنا إلى قلة العقل وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلى بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر دين الله ويدعو إليه لا يرده عن ذلك شيء وإلى أشار صاحب الهمزية بقوله

** ثم قام النبي يدعو إلى الله ** وفي الكفر شدة وإباء ** ** أمما أشربت قلوبهم الكف ** ر فداء الضلال فيهم عياء **
أي ثم قام صلى الله عليه وسلم يدعو جماعتهم إلى الله تعالى بأن يقولوا لا إله إلا الله حسبما أمر فقدجاء أن جبريل تبدى له صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وأطيب رائحة وقال يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك أنت رسول الله إلى الجن والإنس فادعهم إلى قول لا إله إلا الله فدعاهم والحال أن في أهل الكفر قوة تامة وإمتناعا عن اتباعه اختلط الكفر بقلوبهم وتمكن فيها حبه حتى صارت لا تقبل غيره وبسبب ذلك صار داء الضلال أي داء هو الضلال فيهم عضال يعيى الأطباء مداواته وحصول شفائه ثم شرى الأمر أي الشين المعجمة وكسر الراء وفتح المثناة تحت كثر وتزايد وانتشر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا أي أضمروا العداوة والحقد وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وتذامروا عليه بالذال المعجمة وحض أي حث بعضهم بعضا على حربه وعداوته ومقاطعته ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد طلبنا منك أن تنهى ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا أي عقولنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ثم أنصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بأن يخذل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله وأنه ضعف عن نصرته والقيام معه فقال له يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك فيه ما تركته ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حصلت له العبرة التي هي دمع العين فبكى ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يا ابن أخي فأقبل عليه فقال اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك وأنشد أبياتا منها ** والله لن يصلوا إليك بجمعهم ** حتى أوسد في التراب دفينا **
وحكمة تخصيص الشمس والقمر بالذكر وجعل الشمس في اليمين والقمر في اليسار لا تخفى لأن الشمس النير الأعظم واليمين أليق به والقمر النير الممحو واليسار أليق به

وخص النيرين حيث ضرب المثل بهما لأن الذي جاء به نور قال تعالى { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره }
ومن غريب التعبير أن رجلا كان عاملا لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فقال لسيدنا عمر إني رأيت في المنام كأن الشمس والقمر يقتتلان ومع كل واحد منهما نجوم فقال له عمر مع أيهما كنت قال مع القمر قال كنت مع الآية الممحوة اذهب فلا تعمل لي عملا فاتفق أن هذا الرجل كان مع معاوية يوم صفين وقتل ذلك اليوم
فلما عرفت قريش أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد بن المغيرة أنهد أي أشد وأقوى فتى في قريش وأحمله فخذه لك ولدا أي بأن تتبناه وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل كرجل فقال لهم أبو طالب والله لبئس ما تسومونني أتعطوني إبنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله لا يكون أبدا أي وقال أرأيتم ناقة تحن إلى غير فصيلها قال المطعم بن عدي والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مماتكره فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا فقال له أبو طالب والله ما أنصفوني ولكن قد أجمعت أي قصدت خذلاني ومظاهرة القوم أي معاونتهم علي فاصنع ما بدالك أي وقد مات عمارة بن الوليد هذا على كفره بأرض الحبشة بعد أن سحر وتوحش وسار في البراري والقفار كما سيأتي ومات المطعم بن عدي المذكور على كفره أيضا فعند عدم قبول أبي طالب ما أرادوه اشتد الأمر
ولما رأى أبو طالب من قريش ما رأى دعا بني هاشم وبني عبدالمطلب إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه فأجابوه غلى ذلك غير أبي لهب فكان من المجاهرين بالظلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل من آمن به وتوالى الأذى من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من أسلم معه
فما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذية ما حدث به عمه العباس رضي الله تعالى عنه قال كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل فقال لله علي إن رأيت محمد ساجدا أن أطأ عنقه فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول أبي جهل فخرج غضبان حتى دخل المسجد فعجل أن يدخل من الباب فاقتحم من الحائط وقرأ { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق } حتى بلغ شأن أبي جهل كلا

{ إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } إلى أن بلغ آخر السورة سجد فقال إنسان لأبي جهل يا أبا الحكم هذا محمد قد سجد فأقبل إليه ثم نكص راجعا فقيل له ذلك فقال أبو جهل ألا ترون ما أرى لقد سد أفق السماء علي وفي رواية رأيت بيني وبينه خندقا من نار وسيأتي أن قوله تعالى { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } إلى آخر السورة نزل في أبي جهل
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال ذكر أن أبا جهل بن هشام قال يوما لقريش يا معشر قريش إن محمدا قد أتى إلى ما ترون من عيب دينكم وشتم آلهتكم وتسفيه أحلامكم وسب آبائكم إني أعاهد الله لأجلس له يعنى النبي صلى الله عليه وسلم غدا بحجر لا أطيق حمله فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدالهم قالوا والله لا نسلمك لشيء أبدا فامض لما تريد فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو إلى الصلاة أي وكانت قبلته صلى الله عليه وسلم إلى الشام إلى صخرة بيت المقدس فكان يصلى بين الركن اليماني والحجر الأسود ويجعل الكعبة بينه وبين الشام على ما تقدم وقريش جلوس في أنديتهم وهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه أي متغيرا بالصفرة مع الكدرة من الفزع وقد يبست يداه على حجره حتى قذفه من يده أي بعد أن عالجوا فكه من يده فلم يقدروا كما سيأتي وقامت إليه رجال من قريش وقالوا مالك يا أبا الحكم قال قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل والله ما رأيت مثله قط هم بي أن يأكلني فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذاك جبريل لودنا لأخذه وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية بقوله ** وأبو جهل إذ رأى عنق الفح ** ل إليه كأنه العنقاء **
أي وأبو جهل الذي هو أشد الأعداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت أن هم أن يلقى الحجر عليه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد أبصر عنق الفحل وقد برزت إليه كأنه الدهية العظيمة أي فرجع عن ذلك الرمى بذلك الحجر أي وفي رواية أن أبا جهل قال رأيت بيني وبينه كخندق من نار ولا مانع أن يكون وجد الأمرين معا


وذكر في سبب نزول قوله تعالى { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون } أي إنا جعلنا أيديهم متصلة بأعناقهم واصلة إلى أذقانهم ملصقة بها رافعون رءوسهم لا يستطيعون خفضها من أقمح البعير رفع رأسه { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } أن الآية الأولى نزلت في أبي جهل لما حمل الحجر ليرضخ به رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعه أثبتت يداه إلى عنقه ولزق الحجر بيده فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم فلم يفكوا الحجر من يده إلا بعد تعب شديد والآية الثانية نزلت في آخر لما رأى ما وقع لأبي جهل قال أنا ألقى هذا الحجر عليه فذهب إليه صلى الله عليه وسلم فلما قرب منه عمى بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إليهم فأخبرهم بذلك
وعن الحكم بن أبي العاص أي ابن مروان بن الحكم أن ابنته قالت له ما رأيت قوما كانوا أسوأ رأيا وأعجز في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم يا بني أمية فقال لها لا تلومينا يا بنية إني لا أحدثك إلا ما رأيت لقد أجمعنا ليلة على اغتياله صلى الله عليه وسلم فلما رأيناه يصلى ليلا جئنا خلفه فسمعنا صوتا ظننا أنه ما بقى بتهامة جبل إلاتفتت علينا أي ظننا أنه يتفتت وأنه يقع علينا فما عقلنا حتى قضى صلاته صلى الله عليه وسلم ورجع إلى أهله ثم تواعدنا ليلة أخرى فلما جاء نهضنا إليه فرأينا الصفا والمروة التصقتا إحداهما على الأخرى فحالتا بيننا وبينه ويتأمل هذا لأن صلاته صلى الله عليه وسلم إنما تكون عند الكعبة وليست بين الصفا والمروة
وفي رواية كان صلى الله عليه وسلم يصلى فجاءه أبو جهل فقال ألم أنهك عن هذا فأنزل الله تعالى { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } إلى آخر السورة
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما انصرف من صلاته زأره أبو جهل أي انتهره وقال إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني فأنزل الله تعالى { فليدع ناديه سندع الزبانية } قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لودعا ناديه لأخذته زبانية الله أي قال يوما ولقد لقى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي صلى الله عليه وسلم لقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم فأنزل الله تعالى فيه { ذق إنك أنت العزيز الكريم } كذا قاله الواحدي أي تقول له الزبانية عند إلقائه في النار ما ذكر توبيخا له
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال لما أنزل الله تعالى سورة { تبت يدا أبي لهب }

جاءت امرأة أبي لهب وهي أم جميل وإسمها العوراء وقيل اسمها أروى بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب ولها ولولة وفي يدها فهر أي بكسر الفاء وسكون الهاء حجر يملأ الكف فيه طول يدق به في الهاون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فلما رآها قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها امرأة بذية أي تأتي بالفحش من القول فلو قمت لتؤذيك فقال صلى الله عليه وسلم إنها لن تراني فجاءت فقالت يا أبا بكر صاحبك هجاني أي وفي لفظ ما شأن صاحبك ينشد في الشعر قال لا وما يقول الشعر أي ينشئه وفي لفظ لا ورب هذا البيت ماهجاك والله ما صاحبي بشاعر وما يدري ما الشعر أي لا يحسن إنشاءه قال له أنت عندي تصدق وانصرفت أي وهي تقول ما علمت قريش أني بنت سيدها أي تعني عبد مناف جد أبيها ومن كان عبد مناف أباه لا ينبغي لأحد أن يتجاسر على ذمه قلت يا رسول الله لم لم ترك قال لم يزل ملك يسترني بجناحه أي فقد جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر قل لها هل ترين عندي أحدا فسألها أبو بكر فقالت أتهزأ بي والله ما أرى عندك أحدا
أقول وفي الإمتاع أنها جاءت وهو صلى الله عليه وسلم في المسجد معه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وفي يدها فهر فلما وقفت على النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الله على بصرها فلم تره ورأت أبا بكر وعمر فأقبلت على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقالت أين صاحبك قال وما تصنعين به قالت بلغني أنه هجاني والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فمه فقال عمر رضي الله تعالى عنه ويحك إنه ليس بشاعر فقالت إني لا أكلمك يابن الخطاب أي لما تعلمه من شدته ثم أقبلت على أبي بكر لما تعلمه من لينه وتواضعه فقالت والثواقب أي النجوم إنه لشاعر وإني لشاعرة أي فكما هجاني لأهجونه وانصرفت فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنها لن تراك فقال إنها لن تراني جعل بيني وبينها حجاب أي لأنه قرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } وفي رواية أقبلت ومعها فهران وهي تقول ** مذمما أبينا ** ودينه قلينا ** وأمره عصينا **
فقالت أين الذي هجاني وهجا زوجي والله لئن رأيته لأضربن أنثييه بهذين

الفهرين قال أبو بكر فقلت لها يا أم جميل والله ما هجاك ولا هجا زوجك قالت والله ما أنت بكذاب وإن الناس ليقولون ذلك ثم ولت ذاهبة فقلت يارسول الله إنها لم ترك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حال بيني وبينها جبريل ولعل مجيئها قد تكرر فلا منافاة بين ما ذكر وكذا ما يأتي وكما يقال في الحمد محمد يقال في الذم مذمم لأنه لا يقال ذلك إلا لمن ذم مرة بعد أخرى كما أن محمدا لا يقال إلا لمن حمد مرة بعد أخرى كما تقدم وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال ألا تعجبون كيف يصرف الله تعالى عني شتم قريش ولعنهم يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمد
وفي الدر المنثور أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في الملأ فقالت يا محمد علام تهجوني قال إني والله ما هجوتك ماهجاك إلا الله قالت رأيتني أحمل حطبا أو رأيت في جيدي حبلا من مسد وهذا مما يؤيد ماقاله بعض المفسرين أن الحطب عبارة عن النميمة يقال فلان يحطب على أي ينم لأنها كانت تمشي بين الناس بالنميمة وتغرى زوجها وغيره بعداوته صلى الله عليه وسلم وتبلغهم عنه أحاديث لتحثهم بها على عداوته صلى الله عليه وسلم وأن الحبل عبارة عن حبل من نار محكم
وعن عروة بن الزبير مسد النار سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا والله أعلم وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** وأعدت حمالة الحطب الفهر وجاءت كأنها الورقاء ** ** ثم جاءت غضبى تقول أفى مثلي من أحمد يقال الهجاء ** ** وتولت وما رأته ومن أين ترى الشمس مقلة عمياء **
أي وهيأت حمالة الحطب الفهر ولقبت بذلك كانت تحتطب أي تجمع الحطب وتحمله لبخلها ودناءة نفسها أو كانت تحمل الشوك والحسك وتطرحه في طريقه صلى الله عليه وسلم ولا مانع من إجتماع الأوصاف الثلاثة لكن استفهامها يبعد الوصفين الأخيرين والفهر الحجر الذي يملأ الكف كما تقدم لتضرب به النبي صلى الله عليه وسلم والحال أنها جاءت في غاية السرعة والعجلة كأنها في شدة السرعة الحمامة الشديدة الإسراع حالة كونها غضبى من شدة ما سمعت من ذمها في سورة تبت يدا أبي لهب نقول أفي مثلي وأنا بنت سيد بني عبد شمس يقال الهجاء والسب حالة كونه من أحمد وتولت والحال أنها ما رأته وكيف ترى الشمس عين عمياء


أقول في ينبوع الحياة أنها لما بلغها سورة { تبت يدا أبي لهب } جاءت إلى أخيها أبي سفيان في بيته وهي مضطرمة أي منحرقة غضبى فقالت له ويحك يا أحمس أي يا شجاع أما تغضب أن هجاني محمد فقال سأكفيك إياه ثم أخذ سيفه وخرج ثم عاد سريعا فقالت هل قتلته فقال لها يا أخية أيسرك أن رأس أخيك في فم ثعبان قالت لا والله قال فقد كان ذلك يكون الساعة أي فإنه رأى ثعبانا لو قرب منه صلى الله عليه وسلم لالتقم رأسه
ولما نزلت هذه السورة التي هي { تبت يدا أبي لهب } قال أبو لهب لأبنه عتبة أي بالتكبير رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم يوم الفتح كما سيأتي رأسي من رأسك حرام إن لم تفارق ابنة محمد يعني رقية رضي الله تعالى عنها فإنه كان تزوجها ولم يدخل بها ففارقها ووقع في كلام بعضهم طلقها لما أسلم فليتأمل
وكان أخوه عتبة بالتصغير متزوجا ابنته صلى الله عليه وسلم أم كلثوم ولم يدخل بها فقال أي وقد أراد الذهاب إلى الشام لآتين محمدا فلأوذينه في ربه فأتاه فقال يا محمد هو كافر بالنجم أي وفي لفظ برب النجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى ثم بصق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه ابنته وطلقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم سلط وفي رواية الله ابعث عليه كلبا من كلابك وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها أبو طالب وقال ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة فرجع عتيبة إلى أبيه أبي لهب فأخبره بذلك ثم خرج هو وأبوه إلى الشام في جماعة فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من دير فقال لهم إن هذه الأرض مسبعة فقال أبو لهب لأصحابه إنكم قد عرفتم نسبي وحقي فقالوا أجل يا أبا لهب فقال أعينونا يا معشر قريش هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد فأجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ثم افرشوا لإبني عليه ثم افرشوا حوله ففعلوا ثم جمعوا جمالهم وأناخوها حولهم وأحدقوا بعتيبة فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتيبة فقتله وفي رواية فضخ رأسه وفي رواية ثنى ذنبه ووثب وضربه بذنبه ضربة واحدة فخدشه فمات مكانه وفي رواية فضغمه ضغمة فكانت إياها فقال وهو بآخر رمق ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس لهجة ومات فقال أبوه قد عرفت والله ما كان ليفلت من دعوة محمد أقول وحلفه بالنجم إلى آخره يدل على ذلك كان بعد الإسراء والمعراج


ووقع مثل ذلك لجعفر الصادق قيل له هذا فلان ينشد الناس هجاءكم يعني أهل البيت بالكوفة فقال لذلك القائل هل علقت من قوله بشيء قال نعم قال فأنشد ** صلبنا كمو زيدا على رأس نخلة ** ولم أر مهديا على الجذع يصلب ** ** وقستم بعثمان عليا سفاهة ** وعثمان خير من علي وأطيب **
فعند ذلك رفع جعفر يديه وقال اللهم إن كان كاذبا فسلط عليه كلبا من كلابك فخرج ذلك الرجل فافترسه الأسد وإنما سمي الأسد كلبا لأنه يشبه الكلب في أنه إذا بال رفع رجله ومن ثم قيل إن كلب أهل الكهف كان أسدا وقيل كان رجلا منهم جلس عند الباب طليعة لهم فسمى باسم الكلب لملازمته للحراسة ووصف ببسط الذراعين لأن ذلك من صفة الكلب الذي هو الحيوان
وقد جاء أنه ليس في الجنة من الحيوان إلا كلب أهل الكهف وحمار العزير وناقة صالح والله أعلم
ومما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذية ما حدث به عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو يصلى وقد نحر جزور وبقى فرثه أي روثه في كرشه فقال أبو جهل ألا رجل يقوم إلى هذا القذر يلقيه على محمد أي وفي رواية قال قائل ألا تنظرون إلى هذا المرائى أيكم يقوم إلى جزور بني فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجئ به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه وفي رواية أيكم يأخذ سلى جزور بني فلان لجزور ذبحت من يومين أو ثلاثة فيضعه بين كتفيه إذا سجد فقام شخص من المشركين وفي لفظ أشقى القوم وهو عقبة بن أبي معيط وجاء بذلك الفرث فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد أي فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض أي من شدة الضحك قال ابن مسعود فهبنا أي خفنا أن نلقيه عنه صلى الله عليه وسلم وفي لفظ وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة لطرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها أي بعد أن ذهب إليها إنسان وأخبرها بذلك واستمر صلى الله عليه وسلم ساجدا حتى ألقته عنه واستمراره في الصلاة عند فقهائنا لعدم علمه بنجاسة ما ألقى عليه ولما ألقته عنه أقبلت عليهم تشتمهم فقام النبي صلى الله عليه وسلم

فسمعته يقول وهو قائم يصلى اللهم اشدد وطأتك أي عقابك الشديد على مضر سنين كسنى يوسف اللهم عليك بأبي الحكم بن هشام يعني أبا جهل وعتبة بن ربيعة وعقبة ابن أبي معيط وأمية بن خلف زاد بعضهم وشيبة بن أبي ربيعة والوليد بن عبتة بالمثناة فوق لا بالقاف كما وقع في رواية مسلم
فقد اتفق العلماء على أنه غلط لأنه لم يكن ذلك الوقت موجودا أو كان صغيرا جدا وعمارة بن الوليد أي وهو المتقدم ذكره الذي أرادوا أن يجعلوه عوضا عنه صلى الله عليه وسلم
أقول والذي في المواهب فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم عليك بقريش ثم سمى اللهم عليك بعمرو بن هشام إلى آخر ماتقدم ذكره وفي الإمتاع فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع يديه ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا ثلاثا ثم قال اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش فلما سمعوا صوته ذهب منهم الضحك وهابوا دعوته ثم قال اللهم عليك بأبي جهل بن هشام الحديث وإن ابن مسعود قال والله لقد رأيتهم وفي رواية رأيت الذي سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر
واعترض بأن عمارة بن الوليد مات بالحبشة كافرا كما تقدم ويأتي وبأن عقبة بن أبي معيط لم يقتل ببدر وإنما أخذ أسيرا منها وقتل بعرق الظبية كما سيأتي وبأن أمية بن خلف لم يطرح بالقليب وأجيب بأن قول ابن مسعود رأيتهم أي رأيت أكثرهم
وقد يقال لا مانع أن يكون صلى الله عليه وسلم أتى بهذا الدعاء وهو قائم يصلى وبعد الفراغ من الصلاة فلا منافاة والله أعلم
والمراد بسنى يوسف بتخفيف الياء ويروى سنين بإثبات النون مع الإضافة القحط والجدب أي فاستجاب الله دعاءه فأصابتهم سنة أكلوا فيها الجيف والجلود والعظام والعلهز وهو الوبر والدم أي يخلط الدم بأوبار الإبل ويشوى على النار وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كالدخان من الجوع وجاءه صلى الله عليه وسلم جمع من المشركين فيهم أبو سفيان قالوا يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث فاطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر فقال اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة


وجاء أنهم قالوا { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } أي لا نعود لما كنا عليه فلما كشف عنهم ذلك عادوا أي وفيه أن هذا إنما كان بعد الهجرة فسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم مكث شهرا إذا رفع رأسه من ركوع الركعة الثانية من صلاة الفجر بعد قوله سمع الله لمن حمده يقول اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين بمكة اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف وربما فعل ذلك بعد رفعه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء وسيأتي ما فيه
وقد يقال لا مانع أن يكون حصل لهم ذلك قبل الهجرة وبعد الهجرة مرة أخرى سيأتي الكلام عليها
ثم رأيت في الخصائص الكبرى ما يوافق ذلك حيث قال قال البيهقي قد روى في قصة أبي سفيان ما دل على أن ذلك كان بعد الهجرة ولعله كان مرتين أي وسيأتي في السرايا أن ثمامة لما منع عن قريش الميره أن تأتي من اليمن حصل لهم مثل ذلك وكتبوا في ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي البخاري لما استعصمت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسنى يوسف فبقيت السماء سبع سنين لا تمطر وفي رواية فيه أيضا لما أبطئوا على النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام قال اللهم اكفنيهم بسبع كسبع يوسف فأصابتهم سنة حصت كل شيء الحديث وفي رواية اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد فأنزل الله تعالى { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم } فأتى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله استسق لمضر فإنها قد هلكت فاستسقى صلى الله عليه وسلم فسقوا فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } يعني يوم بدر
ومن ذلك ما حدث به عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر وفي الحجر ثلاثة نفر جلوس عقبة ابن أبي معيط وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم

عليه فلما حاذاهم اسمعوه بعض ما يكره فعرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فدنوت منه حتى وسطته أي جعلته وسطا فكان صلى الله عليه وسلم بين وبين أبي بكر وأدخل أصابعه في أصابعي وطفنا جميعا فلما حاذاهم قال أبو جهل والله لا نصالحك ما بل بحر صوفة وأنت تنهى أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ذلك ثم مشى عنهم فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك حتى إذا كان الشوط الرابع ناهضوه أي قاموا له صلى الله عليه وسلم ووثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجامع ثوبه صلى الله عليه وسلم فدفعت في صدره فوقع على أسته ودفع أبو بكر أمية بن خلف ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط ثم انفرجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف ثم قال أما والله لا تنتهون حتى يحل بكم عقابه أي ينزل عليكم عاجلا قال عثمان فوالله ما منهم رجل إلا وقد أخذته الرعدة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بئس القوم أنتم لنبيكم ثم انصرف إلى بيته وتبعناه حتى انتهى إلى باب بيته ثم أقبل علينا بوجهه فقال أبشروا فإن الله عز وجل مظهر دينه ومتمم كلمته وناصر نبيه إن هؤلاء الذين ترون مما يذبح الله على أيديكم عاجلا ثم انصرفنا إلى بيوتنا فوالله لقد ذبحهم الله بأيدينا يوم بدر
أقول ولا يخالف ذلك كون عقبة بن أبي معيط حمل أسيرا من بدر وقتل بعرق الظبية صبرا وهم راجعون من بدر ولا كون عثمان بن عفان لم يحضر بدرا والله أعلم
وفي رواية أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته صلى الله عليه وسلم الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان
أي وفي رواية دخل عقبة بن أبي معيط الحجر فوجده صلى الله عليه وسلم يصلي فيه فوضع ثوبه على عنقه صلى الله عليه وسلم وخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم }
أي وفي البخاري عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال قلت لعبدالله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ

بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخذ بمنكبيه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ولعل أشدية ذلك باعتبار ما بلغ عبدالله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أو ما رآه
وعنه رضي الله تعالى عنه قال ما رأيت قريشا أصابت من عداوة أحد ما أصابت من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد حضرتهم يوما وقد اجتمع ساداتهم وكبراؤهم في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ما صبرنا لأمر كصبرنا لأمر هذا الرجل قط ولقد سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا لقد صبرنا منه على أمر عظيم فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر طائفا بالبيت فلما مر بهم لمزوه ببعض القول فعرفنا ذلك من وجهه ثم مر بهم الثانية فلمزوه بمثلها فعرفنا ذلك من وجهه ثم مر بهم الثالثة فلمزوه فوقف عليهم وقال أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح فارتعبوا لكلمته صلى الله عليه وسلم تلك وما بقى رجل منهم إلا كأنما على رأسه طائرا واقع فصاروا يقولون يا أبا القاسم انصرف فوالله ما كنت جهولا فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الغد اجتمعوا في الحجر وأما معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا ناداكم بما تكرهون تركتموه فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به وهم يقولون أنت الذي تقول كذا وكذا يعني عيب آلهتم ودينهم فقال نعم أنا الذي أقول ذلك فأخذ رجل منهم بمجمع ردائه عليه الصلاة والسلام فقام أبو بكر دونه وهو يبكى ويقول { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله } فأطلقه الرجل ووقعت الهيبة في قلوبهم فانصرفوا عنه فذلك أشد ما رأيتهم نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي رواية ألست تقول في آلهتنا كذا وكذا قال بلى فتشبثوا به بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقيل له أدرك صاحبك فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس مجتمعون عليه فقال ويلكم { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم } فكفوا عن رسول الله صلى الله عليه

وسلم وأقبلوا على أبي بكر يضربونه قالت بنته أسماء فرجع إلينا فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا أجابه وهو يقول تباركت يا ذا الجلال والإكرام
وجاء أنهم جذبوا رأسه صلى الله عليه وسلم ولحيته حتى سقط أكثر شعره فقام أبو بكر دونه وهو يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله أي وهو يبكى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهم يا أبا بكر فوالذي نفسي بيده إني بعثت إليهم بالذبح ففرجوا عنه صلى الله عليه وسلم
وعن فاطمة رضي الله تعالى عنها قالت اجتمعت مشركو قريش في الحجر فقالوا إذا مر محمد فليضربه كل واحد منا ضربة فسمعت فدخلت على أبي فذكرت ذلك له أي قالت له وهي تبكي تركت الملأ من قريش قد تعاقدوا في الحجر فحلفوا باللات والعزى ومناة وإساف ونائلة إذا هم رأوك يقومون إليك فيضربونك بأسيافهم فيقتلونك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بنية اسكتي وفي لفظ لا تبكي ثم خرج صلى الله عليه وسلم أي بعد أن توضأ فدخل عليهم المسجد فرفعوا رءوسهم ثم نكسوا فاخذ قبضة من تراب فرمى بها نحوهم ثم قال شاهت الوجوه فما أصاب رجلا منهم إلا قتل ببدر أي وكان بجواره صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أبو لهب والحكم بن أبي العاص ابن أمية والد مروان وعقبة بن أبي معيط فكانوا يطرحون عليه صلى الله عليه وسلم الأذى فإذا طرحوه عليه أخذه وخرج به ووقف على بابه ويقول يا بني عبد مناف أي جوار هذا ثم يلقيه في الطريق ولم يسلم ممن ذكر إلى الحكم وكان في إسلامه شيء وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم نفاه إلى وج الطائف وأنه سيأتي السبب في نفيه وأشار صاحب الهمزية إلى أن هذه الأذية له صلى الله عليه وسلم لا يظن ظان أنها منقصة له صلى الله عليه وسلم بل هي رفعة له ودليل على فخامة قدره وعلو مرتبته وعظيم رفعته ومكانته عند ربه لكثرة صبره وحلمه وإحتماله مع علمه باستجابة دعائه ونفوذ كلمته عند الله تعالى وقد قال صلى الله عليه وسلم أشد الناس بلاء الأنبياء وذلك سنة من سنن النبيين السابقين عليهم الصلاة والسلام بقوله ** لا تخل جانب النبي مضاما ** حين مسته منهم الأسواء ** ** كل أمر ناب النبيين فالشدة ** فيه محمودة والرخاء ** ** لو يسمى النضار هو من النا ** ر لما اختير للنضار الصلاء **


أي لا تظن أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له الضيم وقت مسته الأذيات حالة كونها صادرة منهم لأن كل أمر من الأمور العظيمة أصاب النبيين فالشدة التي تحصل لهم منه محمودة لأنه لرفع الدرجات والضيقة التي تحصل لهم أيضا محمودة لأنه لو كان يمس الذهب هوان من إدخاله النار لما أختير له العرض على النار فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالذهب والشدائد التي تصيبهم كالنار التي يعرض عليها الذهب فإن ذلك لا يزيد الذهب إلا حسنا فكذلك الشدائد لا تزيد الأنبياء إلا رفعة
قال ومما وقع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه من الأذية ما ذكره بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل دار الأرقم ليعبدالله تعالى ومن معه من أصحابه فيها سرا أي كما تقدم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألح أبو بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور أي الخروج إلى المسجد فقال يا أبا بكر إنا قليل فلم يزل به حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه إلى المسجد وقام أبوبكر في الناس خطيبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ودعا إلى الله ورسوله فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين يضربونهم فضربوهم ضربا شديدا ووطئ أبو بكر بالأرجل وضرب ضربا شديدا وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين أي مطبقتين ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه فجاءت بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر وحملوه في ثوب إلى أن أدخلوه منزله ولا يشكون في موته أي ثم رجعوا فدخلوا المسجد فقالوا والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب حتى إذا كان آخر النهار تكلم وقال ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعذلوه فصار يكرر ذلك فقالت أمه والله مالي علم بصاحبك فقال اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب أخت عمر ابن الخطاب أي فإنها كانت أسلمت رضي الله تعالى عنها كما تقدم وهي تخفى إسلامها فأساليها عنه فخرجت إليها وقالت لها إن أبا بكر يسأل عن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم فقال لا أعرف محمدا ولا أبا بكر ثم قالت لها تريدين أن أخرج معك قالت نعم فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر رضي الله تعالى عنه فوجدته صريعا فصاحت وقالت إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وإني لأرجو أن ينتقم الله

منهم فقال لها أبو بكر ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له هذه أمك تسمع قال فلا عين عليك منها ألا أنها لا تفشي سرك قالت سالم فقال أين هو فقال في دار الأرقم فقال والله لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت أمه فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس فخرجنا به يتكئ علي حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق له رقة شديدة وأكب عليه يقبله وأكب عليه المسلمون كذلك فقال بأبي وأمي أنت يا رسول الله ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي وهذه أمي برة بولدها فعسى الله أن ينقذها بك من النار فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الإسلام فأسلمت انتهى
هذا وذكر الزمخشري في كتابه خصائص العشرة أن هذه الواقعة خصلت لأبي بكر لما أسلم وأخبر قريشا بإسلامه فليتأمل فإن تعدد الواقعة بعيد
ومما وقع لإبن مسعود رضي الله تعالى عنه من الأذية أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا يوما فقال والله ما سمعت قريش القرآن جهرا إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فيكم يسمعهم القرآن جهرا فقال عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنا فقالوا نخشى عليك منهم إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم فقال دعوني فإن الله سيمنعني منهم ثم إنه قام عند المقام وقت الشمس وقريش في أنديتهم فقال { بسم الله الرحمن الرحيم } رافعا صوته { الرحمن علم القرآن } واستمر فيها فتأملته قريش وقالوا ما بال ابن أم عبد فقال بعضهم يتلو بعض ما جاء به محمد ثم قاموا إليه يضربون وجهه وهو مستمر في قراءته حتى قرأ غالب السورة ثم انصرف إلى أصحابه وقد أدمت قريش وجهه فقال له أصحابه هذا الذي خشينا عليك منه فقال والله ما رأيت أعداء الله أهون على مثل اليوم ولو شئتم لأتيتهم بمثلها غدا قالوا لا قد أسمعتهم ما يكرهون
ومما وقع له صلى الله عليه وسلم من الأذية أنه كان إذا قرأ القرآن تقف له جماعة من يمينه وجماعة من يساره ويصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار لأنهم تواصوا { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } حتى كان من أراد منهم سماع القرآن أتى خفية واسترق السمع خوفا منهم


ومما وقع له صلى الله عليه وسلم من الأذية ما كان سببا لإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى عنه وهو ما حدث به ابن إسحاق قال حدثني به رجل من أسلم أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا أي وقيل عند الحجون فآذاه وشتمه ونال منه ما يكرهه أي وقيل إنه صب التراب على رأسه أي وقيل ألقى عليه فرثا ووطئ برجله على عاتقه فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاة لعبدالله بن جدعان في سكن لها تسمع ذلك وتبصره ثم انصرف أبو جهل إلى نادي قريش أي محل تحدثهم في المسجد فجلس معهم فلم يلبث حمزة أن أقبل متوشحا بسيفه راجعا من قنصه أي من صيده وكان من عادته إذا رجع من قنصه لا يدخل إلى أهله إلا بعد أن يطوف بالبيت فمر على تلك المولاة فأخبرته الخبر أي فقالت له يا أبا عمارة لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد صلى الله عليه وسلم آنفا من أبي الحكم بن هشام تعني أبا جهل وجده ههنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد صلى الله عليه وسلم أي وقيل الذي أخبرته مولاة أخته صفية بنت عبدالمطلب قالت له إنه صب التراب على رأسه وألقى عليه فرثا ووطئ برجله على عاتقه وعلى إلقاء الفرث عليه اقتصر أبو حيان في النهر فقال لها حمزة أنت رأيت هذا الذي تقولين قالت نعم
وفي رواية فلما رجع من صيده إذا امرأتان تمشيان خلفه فقالت إحداهما لو علم ما صنع أبو جهل بابن أخيه أقصر عن مشيته فالتفت إليهما فقال ماذاك قالت أبو جهل فعل بمحمد كذا وكذا ولا مانع من تعدد الأخبار من المرأتين والمولاتين فاحتمل حمزة الغضب ودخل المسجد فرأى أبا جهل جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى قام على رأسه رفع القوس وضربه فشجه شجة منكرة ثم قال أتشتمه فأنا على دينه أقول ما يقول فرد على ذلك إن استطعت
أي وفي لفظ أن حمزة لما قام على رأس أبي جهل بالقوس صار أبو جهل يتضرع إليه ويقول سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا قال ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقامت رجال من بني مخزوم أي من عشيرة أبي جهل إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقالوا ما نراك إلا قد صبأت فقال حمزة وما يمنعني وقد استبان لي منه أنا أشهد أنه رسول الله

وأن الذي يقوله حق والله لا أنزع فامنعوني إن كنت صادقين فقال لهم أبو جهل دعوا أبا عمارة أي ويكنى أيضا بأبي يعلى اسم ولد له أيضا فإني والله لقد أسمعت ابن أخيه شيئا قبيحا وتم حمزة على إسلامه أي استمر أي بعد أن وسوس له الشيطان فقال لنفسه لما رجع إلى بيته أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابي وتركت دين آبائك الموت خير لك مما صنعت ثم قال اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا فبات بليلة ثم لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح فغذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ياابن أخي إن قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه وإقامة مثلي على ما لا أدري أرشد هو أم غي شديد فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ووعظه وخوفه وبشره فألقى الله تعالى في قلبه الإيمان بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أشهد أنك لصادق فأظهر يابن أخي دينك
وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن هذه الواقعة سبب لنزول قوله تعالى { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } يعني حمزة { كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } يعنى أبا جهل وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلام حمزة سرورا كبيرأ لأنه كان أعز فتى في قريش واشدهم شكيمة أي أعظمهم في عزة النفس وشهامتها ومن ثم لما عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز كفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على بعض أصحابه بالأذية سيما المستضعفين منهم الذين لا جوار لهم أي لا ناصر لهم فإن كل قبيلة غدت على من أسلم منها تعذبه وتفتنه عن دينه بالحبس والضرب والجوع والعطش وغير ذلك أي حتى إن الواحد منهم ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي به وكان أبو جهل يحرضهم على ذلك وكان إذا سمع بأن رجلا أسلم وله شرف ومنعة جاء إليه ووبخه وقال له ليغلبن رأيك وليضعفن شرفك وإن كان تاجرا قال والله لتكسدن تجارتك ويهلك مالك وإن كان ضعيفا أغرى به حتى أن منهم من فتن عن دينه ورجع إلى الشرك كالحارث بن ربيعة بن الأسود وأبي قيس بن الوليد بن المغيرة وعلى بن أمية بن خلف والعاص بن منبه بن الحجاج وكل هؤلاء قتلوا على كفرهم يوم بدر
وممن فتن عن دينه وثبت عليه ولم يرجع للكفر بلال رضي الله تعالى عنه وكان مملوكا

لأمية بن خلف فعن بعضهم أن بلالا كان يجعل في عنقه حبل يدفع إلى الصبيان يلعبون به ويطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد بالرفع والتنوين أو بغير تنوين أي الله أحد أو يا أحد فهو إشارة لعدم الإشراك وقد أثر الحبل ف عنقه
وعن ابن إسحاق أن أمية بن خلف كان يخرج بلالا إذا حميت الظهيرة بعد أن يجيعه ويعطشه يوما وليلة فيطرحه على ظهره في الرمضاء أي الرمل إذا اشتدت حرارته لو وضعت عليه قطعة لحم لنضجت ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوصع على صدره ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى فيقول أحد أحد أي أنا لا أشرك بالله شيئا أنا كافر باللات والعزى
أي وقيل كان بلال مولدا من مولدي مكة وكان لعبدالله بن جدعان التيمي وكان من جملة مائة مملوك مولدة له فلما بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أمر بهم فأخرجوا من مكة أي خوف إسلامهم فأخرجوا إلا بلالا فإنه كان يرعى غنمه فأسلم بلال وكتم إسلامه فسلح بلال يوما على الأصنام التي حول الكعبة
ويقال إنه صار يبصق عليها ويقول خاب وخسر من عبدكن فشعرت به قريش فشكوه إلى عبدالله وقالوا له أصبوت قال ومثلي يقال له هذا فقالوا له إن أسودك صنع كذا وكذا فأعطاهم مائة من الإبل ينحرونها للأصنام ومكنهم من تعذيب بلال فكانوا يعذبونه بما تقدم أي ويجوز أن يكون ابن جدعان بعد ذلك ملكه لأمية بن خلف فلا يخالفه ما تقدم من أن أمية بن خلف كان يتولى تعذيبه وما يأتي من أن أبا بكر رضي الله عنه اشتراه منه ويقال إنه صلى الله عليه وسلم مر عليه وهو يعذب فقال سينجيك أحد أحد
أي وقيل مر عليه ورقة بن نوفل وهو يقول أحد أحد فقال نعم أحد أحد والله يا بلال ثم أتى إلى أمية وقال له والله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا أي لأتخذن قبره منسكا ومسترحما لأنه من أهل الجنة وتقدم أن هذا يدل على أن ورقة أدرك البعثة التي هي الرسالة وتقدم ما فيه فكان بلال بقوله أحد أحد يمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان
وقد وقع له رضي الله تعالى عنه أنه لما احتضر وسمع امرأته تقول واحزناه صار يقول واطرباه غدا ألقى الأحبة محمدا وحزبه فكان بلال يمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء وقد ذكر بعضهم أن هذا قاله أبو موسى الأشعري ومن معه لما وفدوا عليه صلى الله

عليه وسلم وهو في خيبر أي صاروا يقولون غدا نلقى الأحبة محمد وحزبه
ومر به أبو بكر رضي الله تعالى عنه يوما وهو ملقى على ظهره في الرمضاء وعلى ظهره تلك الصخرة فقال لأمية بن خلف ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين حتى متى تعذبه قال أنت أفسدته فأنقذه مما ترى قال أبو بكر عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى أي على دينك أعطيكه به قال قبلت قال هو لك فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالا فأعتقه
وفي تفسير البغوي قال سعيد بن المسيب بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في بلال حين قال أتبيعنيه قال نعم أبيعه بقسطاس يعني عبدا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه كان صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش وكان مشركا يأبى الإسلام فاشتراه أبو بكر به هذا كلامه
وفي الإمتاع لما ساوم أبو بكر أمية بن خلف في بلال قال أمية لأصحابه لألعبن بأبي بكر لعبة ما لعبها أحد بأحد ثم تضاحك وقال له أعطني عبدك قسطاس فقال أبو بكر إن فعلت تفعل قال نعم قال قد فعلت فتضاحك وقال لا والله حتى تعطيني معه امرأته قال إن فعلت تفعل قال نعم قال قد فعلت ذلك فتضاحك وقال لا والله حتى تعطيني ابنته مع امرأته قال إن فعلت تفعل قال نعم قال قد فعلت ذلك فتضاحك وقال لا والله حتى تزيدني معه مائتي دينار فقال أبو بكر رضي الله عنه أنت رجل لا تستحي من الكذب قال لا واللات والعزى لأن أعطيتني لأفعلن فقال هي لك فأخذه هذا كلامه
وقيل اشتراه بتسع وقيل بخمس أواق أي ذهبا أي وقيل ببردة وعشرة أواق من فضة وفي رواية برطل من ذهب
ويروى أن سيده قال لأبي بكر لو أبيت إلا أوقية أي لو قلت لا أشتريه إلا بأوقية لبعناكه فقال لو طلبت مائة أوقية لأخذته بها
ولما قال المشركون إنما أعتق أبو بكر بلالا ليد كانت له عنده ليكافئه بها انزل الله تعالى { والليل إذا يغشى } السورة فالأتقى أبو بكر رضي الله تعالى عنه والأشقى أمية بن خلف
قال الإمام فخر الدين أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالأتقى أبو بكر وذهب

الشيعة إلى أن المراد به علي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه ويرده وصف الأتقى بقوله تعالى { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } لأن هذا الوصف لا يصدق على علي رضي الله تعالى عنه لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلم أي كما تقدم فكان صلى الله عليه وسلم منعما عليه نعمة يجب عليه جزاؤها أي نعمة دنيوية لأنها التي يجازى عليها بخلاف أبي بكر فإنه لم يكن له صلى الله عليه وسلم نعمة دنيوية وإنما كان له نعمة الهداية وهي نعمة لا يجازي عليها قال الله تعالى { قل لا أسألكم عليه أجرا } فتعين حمل الآية على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فيلزم من ذلك أن يكون أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل الخلق لأن الله تعالى يقول { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } والأكرم هوالأفضل وبين ذلك الفخر الرازي بأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد النبي صلى الله عليه وسلم إما أبو بكر وإما على فلا يمكن حمل الآية على علي لما تقدم فتعين حملها على أبي بكر
وذكر بعض أهل المعاني أي المبينين لمعاني القرآن كالزجاج والفراء والأخفش أن الراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي فأوقع أفعل التفضيل موضع فعيل فهو عام في أمية ابن خلف وأبي بكر وغيرهما وإن كان السبب خاصا والذي بخل واستغنى المراد به أبوسفيان لأنه كان عاتب أبا بكر في إنعامه وإعتاقه وقال له أضعت مالك والله لا تصيبه أبدا وقيل المراد به أمية بن خلف
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر اشترى بلالا قال له الشركة يا أبا بكر فقال قد أعتقته يا رسول الله أي لأن بلالا قال لأبي بكر حين اشتراه إن كنت اشتريتني لنفسك فأمسكني وإن كنت إنما اشتريتني لله عز وجل فدعني لله فأعتقه
هذا وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال لو كان عندنا مال اشتريت بلالا فانطلق العباس رضي الله تعالى عنه فاشتراه فبعث به إلى أبي بكر أي ملكه له فاعتقه فليتأمل الجمع بين هذا وماتقدم
وقد اشترى أبو بكر رضي الله تعالى عنه جماعة آخرين ممن كان يعذب في الله منهم حمامة أم بلال ومنهم عامر بن فهيرة فإنه كان يعذب في الله تعالى حتى لا يدرى ما يقول وكان لرجل من بني تيم من ذوي قرابة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ومنهم أبو فكيهة كان عبدا لصفوان بن أمية أسلم حين أسلم بلال فمر به أبوبكر رضي الله تعالى عنه وقد

أخذه أمية أبو صفوان وأخرجه نصف النهار في شدة الحر مقيدا إلى الرمضاء فوضع على بطنه صخرة فخرج لسانه وأخو أمية يقول له زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره فاشتراه أبو بكر رضي الله تعالى عنه ومنهم امرأة وهي زنيرة بزاي فنون مشددة مكسورتين فمثناة تحتية ساكنة وهي في اللغة الحصاة الصغيرة عذبت في الله تعالى حتى عميت قال لها يوما أب جهل إن اللات والعزى فعلا بك ما ترين فقالت له كلا والله لا تملك اللات والعزى نفعا ولا ضرا هذا أمر من السماء وربي قادر على أن يرد علي بصري فأصبحت تلك الليلة وقد رد الله تعالى عليها بصرها فقالت قريش إن هذا من سحر محمد صلى الله عليه وسلم فاشتراها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقها أي وكذا ابنتها
وفي السيرة الشامية أم عنيس بالنون أو الباء الموحدة فمثناة تحتية فسين مهملة أمة لبني زهرة كان الأسود بن عبد يغوث يعذبها ولم يصفها بأنها بنت زنيرة فاشتراها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقها وكذا النهدية وابنتها وكانتا للوليد بن المغيرة وكذا امرأة يقال لها لطيفة وكذا أخت عامر بن فهيرة أو أمه كانت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قبل أن يسلم
فقد جاء أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه مر على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو يعذب جارية أسلمت استمر يضربها حتى مل قبل أن يسلم ثم قال لها إني أعتذر إليك فإني لم أتركك حتى مليت فقالت له كذلك يعذبك ربك إن لم تسلم فاشتراها منه وأعتقها
وفي السيرة الشامية وصفها بأنها جارية بني المؤمل بن حبيب وكان يقال لها لبينة فجملة هؤلاء تسعة
وممن فتن عن دينه فثبت عليه خباب بن الأرت بالمثناة فوق فإنه سبى في الجاهلية فاشترته أم أنمار أي وكان قينا أي حدادا وكان صلى الله عليه وسلم يألفه ويأتيه فلما أسلم وأخبرت بذلك مولاته صارت تأخذ الحديدية وقد أحمتها بالنار فتضعها على رأسه فشكا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم انصر خبابا فاشتكت مولاته رأسها فكانت تعوي مع الكلاب فقيل لها اكتوي فكان خباب يأخذ الحديدة وقد أحماها فيكوي رأسها


وفي البخاري عن خباب قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة ولقد لقينا معاشر المسلمين من المشركين شدة شديدة فقلت يا رسول الله ألا تدعو الله لنا فقعد صلى الله عليه وسلم محمرا وجهه فقال إنه كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشق ما يصرفه ذلك عن دينه وليظهرن الله تعالى هذاالأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه
قال وعن خباب رضي الله تعالى عنه أنه حكى عن نفسه قال لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا ووضعوها على ظهري فما أطفأها إلا ودك ظهري أي دهنه
وممن فتن عن دينه فثبت عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه كان يعذب بالنار وفي كلام ابن الجوزي كان صلى الله عليه وسلم يمر به وهو يعذب بالنار فيمر يده على رأسه ويقول يانار كونى بردا وسلاما على عمار كما كنت على إبراهيم هذا كلامه
ثم إن عمارا كشف عن ظهره فإذا هو قد برص أي صار أثر النار أبيض كالبرص ولعل حصول ذلك كان قبل دعائه صلى الله عليه وسلم بأن النار تكون بردا وسلاما عليه وعن أم هانئ رضي الله تعالى عنها أن عمار بن ياسر وأباه ياسر وأخاه عبدالله وسمية أم عمار رضي الله تعالى عنهم كانوا يعذبون في الله تعالى فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم صبرا آل ياسر صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة أي وفي رواية صبرا يا آل ياسر اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت فمات يا سر في العذاب وأعطيت سمية لأبي جهل أي أعطاها له عمه أبو حذيفة بن المغيرة فإنها كانت مولاته فطعنها في قلبها فماتت أي بعد أن قال لها إن آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا لأنك عشقتيه لجماله ثم طعنها بالحربة في قبلها حتى قتلها فهي أو شهيدة في الإسلام اه
أي وعن بعضهم كان أبو جهل يعذب عمار بن ياسر وأمه ويجعل لعمار درعا من حديد في اليوم الصائف فنزل قوله تعالى { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون }
وجاء أن عمار بن ياسر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقد بلغ منا العذاب

كل مبلغ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صبرا أبا اليقظان ثم قال اللهم لا تعذب أحدا من آل عمار بالنار
قال بعضهم وحضر عمار بدرا ولم يحضرها من أبواه مؤمناه إلا هو أي من المهاجرين فلا ينافى أن بشر بن البراء بن معرور الأنصاري حضر بدرا وأبواه مؤمنان
ومما أوذى به أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ما روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت لما ابتلى المسلمون بأذى المشركين أي وحصروا بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب وأذن صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة وهي الهجرة الثانية خرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد بالغين المعجمة موضع بأقاصي هجر وقيل موضع وراء مكة بخمسة أميال أي وفي رواية حتى إذا سار يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة بفتح الدال وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون وهو سيد القارة اي وهو اسمه الحارث والقارة قبيلة مشهورة كان يضرب بهم المثل في قوة الرمى ومن ثم قيل لهم رماة الحدق لا سيما ابن الدغنة والقارة أكمة سوداء نزلوا عندها فسموا بها قال له أي تريد يا أبا بكر قال أبو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي قال ابن الدغنة فإن ملثلك يا أبا بكر قال ابو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي قال ابن الدغنة فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلدك فرجع مع ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة في أشراف قريش وقال لهم إن ابا بكر لا يخرج مثله أتخرجون رجلا يكسب المعدوم 6 ويصل الرحم ويحمل الكل ويقرى الضيف ويعين على نوائب الحق وهو في جواري فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة أي لم يرد جواره وقالوا لإبن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ابن الدغنة ذلك لأبي بكر رضي الله تعالى عنه فمكث ايو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم ابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلى فيه ويقرأ القرآن وكان رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن فكانت نساء قريش يزدحمن عليه فأفزع ذلك كثيرا من أشراف قريش أي مع المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا إنا اجرنا أبابكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة

والقراءة وإنا قد خشينا أن يفتن نساؤنا وأبناءنا بهذا فإن أحب أن يقتصر على عبادة ربه في داره فعل وإن رأى أن يعلن بذلك فاسأله أن يرد إليك ذمتك فأنا قد كرهنا أن نخفرك أي نزل خفارتك أي ننقض جوارك ونبطل عهدك فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال قد علمت الذي قد عاقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت أي أزيلت خفارتي في رجل عقدت له فقال له أبو بكر فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله تعالى قال ولما رد جوار ابن الدغنة لقيه بعض سفهاء قريش وهو عابر إلى الكعبة فحثى على رأسه ترابا فمر عليه بعض كبراء قريش من المشركين فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه ألا ترى ما صنع هذا السفيه فقال له أنت فعلت بنفسك فصارأبو بكر يقول رب ما أحلمك قال ذلك ثلاثا انتهى
أي وفي كلام بعضهم وينبغي لك أن تتأمل فيما وصف به ابن الدعنة أبا بكر بين أشراف قريش بتلك الأوصاف الجليلة المساوية لما وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يطعنوا فيها مع ما هم متلبسون به من عظيم بغضه ومعاداته بسبب اسلامه فإن هذا منهم اعتراف أي اعتراف بإن أبا بكر كان مشهورا بينهم بتلك الأوصاف شهرة تامة بحيث لا يمكن أحد أن ينازع فيها ولا أن يجحد شيئا منها وإلا لبادوا إلى جحدها بكل طريق أمكنهم لما تحلوا به من قبيح العداوة له بسبب ما كانوا يرون منه من صدق موالاته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم محبته له
ومما يؤثر عنه رضي الله عنه صنائع المعروف تقي مصارع السوء ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر
باب عرض قريش عليه صلى الله عليه وسلم أشياء من خوارق العادات وغير العادات ليكف عنهم لما رأوا المسلمين يزيدون ويكثرون وسؤالهم له أشياء من خوارق العادات معينات وغير معينات وبعثهم إلى أحبار يهود المدينة يسألونهم عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم وعما جاء به ومن حديث الزبيدي وحديث المستهزئين به صلى الله عليه وسلم ومن حديثهم حديث الأراشي ومن قصد أذيته صلى الله عليه وسلم فرد خائبا
حدث محمد بن كعب القرظي قال حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا مطاعا في قريش قال يوما وهو جالس في نادي قريش أي متحدثهم والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده يا معشر قريش ألا أقوم لمحمد صلى الله عليه وسلم وأكلمه وأعرض عليه أمور لعله يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكف عنا قالوا يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه قال وفي رواية أخرى أن نفرا من قريش اجتمعوا وفي أخرى أشراف قريش من كل قبيلة اجتمعوا وقالوا ابعثوا إلى محمد حتى تعذروا فيه فقالوا انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يريد فقالوا لا نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة انتهى
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب أي من الوسط أي الخيار حسبا ونسبا وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم قال زاد بعضهم أنه قال أيضا أنت خير أم عبدالله أنت خير أم عبدالمطلب أي فسكت إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت وإن كنت تزعم أنك خير منهم فقل يسمع لقولك لقد أفضحتنا في العرب حتى طار فيهم أن في قريش ساحرا وأن في قريش كاهنا

ما تريد إلا أن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى انتهى فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل يا أبا الوليد أسمع فقال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا أي فيصير لك الأمر والنهى فهو أخص ما قبله وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه قال لقد فرغت يا أبا الوليد قال نعم قال فاسمع مني قال أفعل قال { بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون } ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقرأها عليه وقد أنصت عتبة لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } فأمسك عتبة على فيه صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف عن ذلك ثم انتهى إلى السجدة فيها فسجد ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض يحلف لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأيى فيه فاصنعوا ما بدالكم قال وفي رواية أن عتبة لما قام من عند النبي صلى الله عليه وسلم أبعد عنهم ولم يعد عليهم فقال أبو جهل والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبه كلامه فانطلقوا بنا إليه فأتوه فقال أبو جهل والله يا عتبة ما جئناك إلا أنك قد صبوت إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبك أمره فقص عليهم القصة فقال والله الذي

تصبها بنية يعني الكعبة ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه فأنشدته الرحم أن يكف وقد علمت أن محمدا صلى الله عليه وسلم إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب فقالوا له ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ماقال قال والله ما سمعت مثله والله ما هو بالشعر إلى آخر ماتقدم فقالوا والله سحرك يا أبا الوليد قال هذا رأيي فيكم فاصنعوا ما بدا لكم اه
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قريشا أي أشرافهم وشيختهم منهم الأسود بن زمعة والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان والنضر بن الحارث وأبو جهل
وفي الينبوع أتى الوليد بن المغيرة في أربعين رجلا من الملأ أي من السادات منزل أبي طالب وسألوه أن يحضر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمره بإشكائهم ما يشكون منه أي أن يزيل شكواهم منه ويجيبهم إلى أمر فيه الألفة والإصلاح فأحضره وقال يا بن أخي هؤلاء الملأ من قومك فأشكهم وتألفهم فعاتبوا النبي صلى الله عليه وسلم على تسفيه أحلامهم وأحلام آبائهم وعيب آلهتهم الحديث أي قالوا له يا محمد إنا بعثنا إليك لنكلمك فإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعيبت الدين وسببت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة ولم يبق أمر قبيح إلا أتيته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا فنحن نسودك ونشرفك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك تابعا من الجن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبك
وفي رواية أنهم لما اجتمعوا ودعوه صلى الله عليه وسلم فجاءهم مسرعا طمعا في هدايتهم حتى جلس إليهم وعرضوا عليه الأموال والشرف والملك فقال صلى الله عليه وسلم ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم وأن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم
وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعت قريش النبي صلى الله

عليه وسلم إلى أن يعطوه مالا فيكون به أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء ويكف عن شتم آلهتهم ولا يذكرها بسوء فقد ذكر أن عتبة بن ربيعة قال له إن كان أن ما بك الباءة فاختر أي نساء قريش فنزوجك عشرا وقالوا له ارجع إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتك وقالوا له إن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح قال وماهي قال تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة ونعبد إلهك سنة فنشترك نحن وأنت في الأمر فإن كان الذي تعبده خيرا مما نعبد كنت أخذت منه بحظك وإن كان الذي نعبد خيرا مما تعبد كما قد أخذنا منه بحظنا فقال لهم حتى أنظر ما يأتي من ربي فجاء الوحي بقوله تعالى { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم } السورة
وعن جعفر الصادق أن المشركين قالوا له اعبد معنا آلهتنا يوما نعبد معك إلهك عشرة واعبد معنا آلهتنا شهرا نعبد معك إلهك سنة فنزلت اي لا أعبد ما تعبدون يوما ولا أنتم عابدون ما أعبد شهرا ولا أنا عابد ما عبدتم شهرا ولا أنتم عابدون ما أعبد سنة روى ذلك التقدير جعفر ردا على بعض الزنادقة حيث قالوا له طعنا في القرآن لو قال امرؤ القيس ** قفا نبك من ذكري حبيب منزل ** وكرر ذلك أربع مرات في نسق أما كان عيبا فكيف وقع في القرآن { قل يا أيها الكافرون } السورة وهي مثل ذلك وقوله { لكم دينكم ولي دين } نسخ بآية القتال وبقوله تعالى { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } ولما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أنزل لما كرهتموه القرآن قالوا أئت بقرآن غير هذا فأنزل الله تعالى { ولو تقول علينا } الآيات
وقد يقال المناسب للرد عليهم قوله تعالى { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي } الآية ثم رأيت في الكشاف ما يوافق ذلك وهو لما غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأصنام والوعيد الشديد قالوا ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك أو بدله بأن تجعل مكان آية عذاب رحمة وتسقط ذكر الآلهة وذم عبادتها نزل قوله تعالى { قل ما يكون لي أن أبدله } الآية
قال وجلس أي صلى الله عليه وسلم مجلسا فيه ناس من وجوه قريش منهم أبو جهل

ابن هشام وعتبة بن ربيعة أي وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة فقال لهم أليس حسنا ما جئت به فيقولون بلى والله وفي لفظ هل ترون بما أقول بأسا فيقولون لا فجاء عبدالله بن أم مكتوم وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين وهوممن أسلم بمكة قديما والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بأولئك القوم وقد رأى منهم مؤانسة وطمع في إسلامهم فصار يقول يا رسول الله علمني مما علمك الله وأكثر عليه فشق عليه صلى الله عليه وسلم ذلك فأعرض عن ابن أم مكتوم ولم يكلمه انتهى
أي وفي رواية أشار صلى الله عليه وسلم إلى قائد ابن أم مكتوم بأن يكفه عنه حتى يفرغ من كلامه فكفه القائد فدفعه ابن أم مكتوم فعبس صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه مقبلا على من كان يكلمه فعاتبه الله تعالى في ذلك بقوله { عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك } السورة أي والمجئ مع الأعمى ينشأ عن مزيد من الرغبة وتجشم الكلفة والمشقة في المجئ ومن كان هذا شأنه فحقه الإقبال عليه لا الإعراض عنه فكان بعد ذلك إذا جاءه يقول مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويبسط له رداءه قال وبهذا يسقط ما للقاضي أبي بكر ابن العربي هنا انتهى
أقول لعل الذي له هو ما ذكره تلميذه السهيلي وهو أن ابن أم مكتوم لم يكن أسلم حينئذ وإلا لم يسمعه بالإسم المشتق من العمر دون الإسم المشتق من الإيمان لو كان دخل في الإيمان قبل ذلك وإنما دخل فيه بعد نزول الآية ويدل على ذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم استدنني يا محمد وليم يقل استدنني يا رسول الله ولعل في قوله تعالى { لعله يزكى } ما يعطى الترجى والإنتظار ولو كان إيمانه قد تقدم قبل هذا لخرج عن حد الترجي والإنتظار للتزكي هذا كلامه
وعن الشعبي قال دخل رجل على عائشة رضي الله تعالى عنها وعندها ابن أم مكتوم وهي تقطع له الأترج وتجعله في العسل وتطعمه فقيل لها في ذلك فقالت ما زال هذا له من آل محمد منذ عاتب الله عز وجل فيه نبيه صلى الله عليه وسلم والله أعلم
وفي فتاوي الجلال السيوطي من جملة أسئلة رفعت إليه فأجاب عنها بأنها باطلة أن أبا جهل قال يا محمد إن أخرجت لنا طاوسا من صخرة في داري آمنت بك فدعا ربه عز وجل فصارت الصخرة تئن كأنين المرأة الحبلى ثم انشقت عن طاوس صدره من ذهب

ورأسه من زبرجد وجناحاه من ياقوتة ورجلاه من جوهر فلما رأى ذلك أبو جهل أعرض ولم يؤمن
ومما سألوه صلى الله عليه وسلم من الآيات غير المعينات على ما رواه الشيخان أو معينة كما في رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وسيأتي ما يعلم منه أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم أولا آية غير معينة ثم عينوها فلا مخالفة
فقد ذكر ابن عباس أن قريشا سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية
أي رواية عن ابن عباس اجتمع المشركون اي بمنى منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والعاص بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والنضر بن الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان وقيل يكون نصفه بالمشرق ونصفه الآخر بالمغرب وكانت ليلة أربعة عشر أي ليلة البدر فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فعلت تؤمنوا قالوا نعم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما سألوا فانشق القمر نصفا على ابي قبيس ونصفا على قعيقعان وفي لفظ فانشق القمر فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه ولعل الفرقة التي كانت فوق الجبل كانت جهة المشرق والتي كانت دون الجبل كانت جهة المغرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا اشهدوا ولا منافاة بين الروايتين ولا بينهما وبين ما جاء في رواية فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظر إليه ثم غاب أي ثم إن كان الإنشقاق قبل الفجر فواضح وإلا فمعجزة أخرى لأن القمر ليلة أربعة عشر يستمر جميع الليل وسيأتي عن زين المعمر أنه عاد بعد غروبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهدوا والفرقتان هما المرادتان بالمرتين في بعض الروايات التي أخذ بظاهرها بعضهم كالزين العراقي فقال إنه انشق مرتين لأن المرة قد تستعمل في الأعيان وإن كان أصل وضعها الأفعال فقد قال ابن القيم كون القمر انشق مرتين مرة بعد مرة في زمانين من له خبرة بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته يعلم أنه غلط وأنه لم يقع الإنشقاق إلا مرة واحدة وعند ذلك قال كفار قريش سحركم ابن أبي كبشة أي وهو أبو كبشة أحد أجداده صلى الله عليه وسلم من قبل أمه لأن وهب بن عبد مناف

ابن زهرة جد أبي آمنة أمه يكنى أبا كبشة أو هو من قبل مرضعته حليمة لأن والدها أو جدها كان يكنى بذلك أو كان لها بنت تسمى كبشة فكان زوجها الذي هو أبوه من الرضاعة يكنى بتلك البنت كما تقدم في الرضاع
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم فقال حدثني حاضني أبو كبشة أنهم لما أرادوا دفن سلول وكان سيدا معظما حفروا له فوقعوا على باب مغلق ففتحوه فإذا سرير وعليه رجل وعليه حلل عدة وعند رأسه كتاب أنا أبو شهر ذو النون مأوى المساكين ومستفاد الغارمين أخذني الموت غصبا وقد أعيى الجبابرة قيل قال صلى الله عليه وسلم كان ذو النون هذا هو سيف بن ذي يزن الحميري وقيل أبو كبشة جده صلى الله عليه وسلم لأبيه لأن أبا أم جده عبدالمطلب كان يدعى أبا كبشة وكان يعبد النجم الذي يقال له الشعرى وترك عبادة الأصنام مخالفة لقريش فهم يشيرون بذلك إلى أن له في مخالفته سلفا
وقيل الذي عبد الشعرى وترك الأصنام رجل من خزاعة فشبهوه صلى الله عليه وسلم به في مخالفته لهم في عبادة الأصنام أي ومما قد يؤيد هذا الأخير ما في الإتقان حيث مثل بهذا الآية للنوع المسمى بالتنكيت وهو أن يخص المتكلم شيئا من بين الأشياء بالذكر لأجل نكتة كقوله تعالى { وأنه هو رب الشعرى } خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم وهو سبحانه وتعالى رب كل شيء لأن العرب كان ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة عبدالشعرى ودعا خلقا إلى عبادتها فأنزل الله تعالى { وأنه هو رب الشعرى } التي ادعيت فيها الربوبية هذا كلامه وكبشة ليس مؤنث كبش لأن مؤنث كبش ليس من لفظه فقال رجل منهم إن محمدا إن كان سحر القمر أي بالنسبة إليكم فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها أي جميع أهل الأرض وفي رواية لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم فاسألوه من يأتيكم من بلد آخر هل رأوا هذا فسألوهم فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك وفي رواية أن أبا جهل قال هذا سحر فسألوا أهل الآفاق وفي لفظ انظروا ما يأتيكم به السفار حتى تنظروا هل رأوا ذلك أم لا فأخبروا أهل الآفاق وفي لفظ فجاء السفار وقد قدموا من كل وجه فأخبروهم أنهم رأوه منشقا فعند ذلك قالوا هذا سحر مستمر أي مطرد فهو إشارة إلى ذلك وإلى ما قبله من الآيات وفي لفظ قالوا هذا سحر أسحر

السحرة فأنزل الله تعالى { اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } أي مطرد كما تقدم أو محكم أو قوي شديد أو مار ذاهب لا يبقى وهذا الكلام كما لا يخفى يدل على أنه لم يختص برؤية القمر منشقا أهل مكة بل جميع أهل الآفاق وبه يرد قول بعض الملاحدة لو وقع إنشقاق القمر لاشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة ولا يحسن الجواب عنه بأنه طلبه جماعة خاصة فاختصت رؤيته بمن اقترح وقوعه ولا بأنه قد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض ولا بقول بعضهم إن انشقاق القمر آية ليلية جرى مع طائفة في جنح ليلة ومعظم الناس نيام
وفي فتح الباري حنين الجذع وإنشقاق القمر نقل كلا منهما نقلا مستفيضا يفيد القطع عند من يطلع على طرق الحديث
أقول وإلى إنشقاق القمر أشار صاحب الهمزية بقوله ** شق عن صدره وشق له البد ** ر ومن شرط كل شرط جزاء **
أي شق عن صدره صلى الله عليه وسلم وفي نسخة قلبه وكل منهما صحيح لأنه شق صدره أولا ثم شق قلبه ثانيا وشق لأجله القمر ليلة أربعة عشر وإنما شق له صلى الله عليه وسلم لأن من شرط كل شرط جزاء لأنه لما شق صدره صلى الله عليه وسلم جوزى على ذلك بأعظم مشابه له في الصورة وهو شق القمر الذي هو من أظهر المعجزات بل أعظمها بعد القرآن وقد أشار إلى ذلك أيضا الإمام السبكي في تائيته بقوله ** وبدر الدياجى انشق نصفين عندما ** أرادت قريش منك إظهار آية **
أي فإنهم ائتمروا فيما بينهم فاتفقوا على أن يقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم إنشقاق القمر الذي هو بعيد عن الأطماع في غاية الإمتناع أي فقد سألوه أولا آية غير معينة ثم عينوها
وفي الإصابة عن بعضهم قال وأنا ابن تسع عشرة سنة سافرت مع أبي وعمي من خراسان إلى الهند في تجارة فلما بلغنا أوائل بلاد الهند وصلنا إلى شيعة من الضياع فعرج أهل القافلة نحوها فسألناهم عن ذلك فقالوا هذه ضيعة الشيخ زين الدين المعمر فرأينا شجرة خارج الضيعة تظل خلقا كثيرا وتحتها جمع عظيم من أهل تلك الضيعة فلما رأونا رحبوا بنا فرأينا زنبيلا معلقا في بعض أغصان تلك الشجرة فسألناهم فقالوا في هذا

الزنبيل الشيخ زين الدين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بطول العمر ست مرات فبلغ ستمائة سنة كل دعوة بمائة سنة فسألناهم أن ينزلوا الشيخ لنسمع كلامه وحديثه فتقدم شيخ منهم فأنزل الزنبيل فإذا هو مملوء بالقطن والشيخ في وسط القطن وهو كالفرخ فوضع فمه على أذنه وقال يا جداه هؤلاء قوم قد قدموا من خراسان وقد سألوا أن تحدثهم كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وماذا قال لك فعند ذلك تنفس الشيخ وتكلم بصوت كصوت النحل بالفارسية ونحن نسمع فقال سافرت مع أبي وأنا شاب من هذه البلاد إلى الحجاز في تجارة فلما بلغنا بعض أودية مكة وكان المطر قد ملأ الأودية فرأيت غلاما حسن الشمائل يرعى إبلا في تلك الأودية وقد حالت السيل بينه وبين إبله وهو يخشى من خوض الماء لقوة السيل فعلمت حاله فأتيت إليه وحملته وخضت به السيل إلى عند إبله من غير معرفة سابقة فلما وضعته عند إبله نظر إلي ودعا لي ثم عدنا إلى بلادنا وتطاولت المدة ففي ليلة ونحن جلوس في ضيعتنا هذه في ليلة مقمرة ليلة البدر والبدر في كبد السماء إذ نظرنا إليه قد انشق نصفين فغرب نصف في المشرق ونصف في المغرب وأظلم الليل ساعة ثم طلع النصف من المشرق والثاني من المغرب إلى أن ألتقيا في وسط السماء كما كان أول مرة فتعجبنا من ذلك غاية العجب ولم نعرف لذلك سببا فسألنا الركبان عن سببه فأخبرونا أن رجلا هاشميا ظهر بمكة وادعى أنه رسول الله إلى كافة العالم وأن أهل مكة سألوه معجزة واقترحوا عليه أن يأمر لهم القمر فينشق في السماء ويغرب نصفه في المشرق ونصفه في المغرب ثم يعود إلى ما كان عليه ففعل لهم ذلك فاشتقت إلى رؤياه فذهبت إلى مكة وسألت عنه فدلوني على موضعه وأتيت إلى منزله واستأذنت فأذن لي في الدخول فدخلت عليه فلما سلمت عليه نظر إلي وتبسم وقال ادن مني وبين يديه طبق فيه رطب فتقدمت وجلست وأكلت من الرطب وصار يناولني إلى أن ناولني ست رطبات ثم نظر إلي وتبسم وقال لي ألم تعرفني قلت لا فقال ألم تحملني في عام كذا في السيل ثم قال امدد يدك فصافحني وقال قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقلت ذلك فسر أي وقال عند خروجي من عنده بارك الله في عمرك قال ذلك ست مرات فبارك الله لي عمري بكل دعوه مائة سنة فعمري اليوم ستمائة سنة أي في المائة السادسة مشرف على تمامها تأمل


وسئل الحافظ السيوطي عن مثل هذا الحديث وهو الحديث الذي رواه معمر الذي يزعم أنه صحابي وأنه يوم الخندق صار ينقل التراب بغلقين وبقية الصحابة بغلق واحد فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفه الشريف بين كتفيه أربع ضربات وقال له عمرك الله يا معمر فعاش بعد ذلك أربعمائة سنة ببركة الضربات التي ضربها بين كتفيه كل ضربة مائة سنة وقال له بعد أن صافحه من صافحك إلى ست أو سبع لم تمسه النار هل هو صحيح أم كذب وإفتراء لا تجوز روايته فأجاب بأنه باطل وأن معمرا هذا كذاب دجال لأنه ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال قبل موته بشهر أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد وقد قال أهل الحديث وغيرهم إن من ادعى الصحبة بعد مائة سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم فهو كذاب ومعلوم أن آخر الصحابة مطلقا موتا أبو الطفيل مات سنة عشر ومائة من الهجرة ثبت ذلك في صحيح مسلم واتفق عليه العلماء فمن ادعى الصحبة بعد أبي الطفيل فهو كذاب
ومما سألوه صلى الله عليه وسلم من الآيات المعينات ما حدث به بعضهم قال إن قريشا قالت له صلى الله عليه وسلم سل ربك يسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ويبسط لنا بلادنا وليخرق فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن بعث لنا قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسأله عما تقول أحق هو أم باطل قال زاد في رواية فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله تعالى وأنه بعثك إلينا رسولا كما تقول فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهذا بعثت لكم إنما جئتكم من الله بما بعثني به اه
ثم قالوا له واسأل ربك يبعث معك ملكا يصدقك فيما تقول ويراجعنا عنك أي وفي لفظ قالوا له لم لا ينزل علينا الملائكة فتخبرنا بأن الله أرسلك أو نرى ربنا فيخبرنا بأنه أرسلك فنؤمن حينئذ بك وقال آخر يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه أي فلا بد أن تتميز عنا حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا أي وفي لفظ قالوا إن محمدا يأكل الطعام كما نحن نأكل ويمشي في الأسواق ويلتمس المعاش كما نلتمس نحن فلا يجوز

أن يمتاز عنا بالنبوة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وأنزل الله تعالى { وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } ولما قالوا الله أعظم أن يكون رسوله بشرا منا أنزل الله تعالى { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } ثم قالوا وأسقط السماء علينا كسفا أي قطعا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل وقد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لن نؤمن بالرحمن أبدا أي وقد عنوا بالرحمن مسيلمة وقيل عنوا كاهنا كان لليهود باليمامة وقد رد الله تعالى عليهم بأن الرحمن المعلم له هو الله تعالى بقوله { قل هو } أي الرحمن { ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب } أي توبتي ورجوعي وعند ذلك قام صلى الله عليه وسلم حزينا آسفا على ما فاته من هدايتهم التي طمع فيها وقال له عبدالله بن عمته عاتكة بنت عبدالمطلب قبل أن يسلم رضي الله تعالى عنه يا محمد قد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبل ثم سألوك أن تعجل بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل والله لن نؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك أي كتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول وأيم الله إنك لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك فأنزل الله تعالى عليه الآيات التي فيها شرح هذه المقالات في سورة الإسراء وفيها الإشارة إلى أنه تعالى خيره بين أن يعطيه جميع ما سألوا وأنهم إن كفروا بعد ذلك استأصلهم بالعذاب كالأمم السابقة وبين أن يفتح لهم باب الرحمة والتوبة لعلهم يتوبون وإليه يرجعون فاختار الثاني لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم من كثير منهم العناد وأنهم لا يؤمنون وإن حصل ما سألوا فيستأصلون بالعذاب لأن الله تعالى يقول { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة }
وعن محمد بن كعب ما حاصله أن الملأ من قريش أقسموا للنبي صلى الله عليه وسلم بالله عز وجل أنهم يؤمنون به إذا صار الصفا ذهبا فقام يدعو الله تعالى أن يعطيهم ما سألوه فأتاه جبريل فقال له إن شئت كان ذلك ولكني لم آت قوما بآية اقترحوها فلم يؤمنوا بها إلا أمرت بتعذيبهم وفيه أنه حينئذ يشكل رواية سؤالهم إنشقاق القمر
وفي رواية أتاه جبريل فقال يامحمد إن ربك يقرئك السلام ويقول إن شئت

أن يصبح لهم الصفا ذهبا فإن لم يؤمنوا أنزلت عليهم العذاب عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإن شئت لا تصير الصفا ذهبا وفتحت لهم باب الرحمة والتوبة فقال لا بل أن تفتح لهم باب الرحمة والتوبة
وفي رواية وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فقال صلى الله عليه وسلم بل حتى يتوب تائبهم وأيضا وافق على فتح باب الرحمة والتوبة لأنه صلى الله عليه وسلم علم أن سؤالهم لذلك جهل لأنه خفيت عليهم حكمة إرسال الرسل وهي إمتحان الخلق وتعبدهم بتصديق الرسل ليكون إيمانهم عن نظر وإستدلال فيحصل الثواب لمن فعل ذلك ويحصل العقاب لمن أعرض عنه إذ مع كشف الغطاء يحصل العلم الضروري فلا يحتاج إلى إرسال الرسل ويفوت الإيمان بالغيب
وأيضا لو يسألوا من تلك الآيات إلا تعنتا وإستهزاء لا على جهة الإسترشاد ودفع الشك وإلى سؤالهم تلك الآيات وإرتيابهم في القرآن وقولهم فيه إنه سحر وإفتراء أي سحر يأثره أي يأخذه عن مثله وعن أهل بابل يفرق به بين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته { إن هذا إلا قول البشر } من قول أبي اليسر وهوعبد لبني الحضرمي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجالسه وإلى قول أبي جهل أيضا تزاحمنا نحن وبنو عبدالمطلب الشرف حتى صرنا كفرسى رهان قالوا منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزل قوله تعالى { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } وإلى هذا أشار صاحب الهمزية بقوله ** عجبا للكفار زادوا ضلالا ** بالذي فيه للعقول اهتداء ** ** والذي يسألون منه كتاب ** منزل قد أتاهم وإرتقاء **
أي أعجب عجبا من حال الكفار حالة كونهم زادوا ضلالا بالقرآن الذي فيه إهتداء للعقول وأعجب عجبا أيضا من الأمر الذي يطلبونه منه صلى الله عليه وسلم وهو كثير من جملته كتاب منزل معه عليهم من السماء وهو القرآن ** أو لم يكفهم من الله ذكر ** فيه للناس رحمة وشفاء ** ** أعجز الإنس آية منه والجن ** فهلا يأتي به البلغاء ** ** كل يوم يهدى إلى سامعيه ** معجزات من لفظه القراء ** ** تتحلى به المسامع والأفواه ** فهو الحلى والحلواء ** **

رق لفظا وراق معنى فجاءت ** في حلاها وحليها الخنساء ** ** وأرتنا فيه غوامض فضل ** رقة من زلاله وصفاء ** ** إنما تجتلي الوجوه إذا ما ** جليت عن مرآتها الأصداء ** ** سور منه أشبهت صورا منا ** ومثل النظائر النظراء ** ** والأقاويل عندهم كالتماثيل ** فلا يوهمنك الخطباء ** ** كم أبانت آياته عن علوم ** من حروف أبان عنها الهجاء ** ** فهي كالحب والنوى أعجب الزرا ** ع منها سنابل وزكاء ** ** فأطالوا فيه التردد والريب فقالوا سحر وقالوا افتراء ** وإذا البينات لم تغن شيئا ** فالتماس الهدى بهن عناء ** ** وإذا ضلت العقول على علم ** فماذا تقوله الفصحاء **
أي أو لم يكفهم عما سألوه عنادا ذكر واصل إليهم حالة كونه من الله تعالى رحمة وشفاء للناس والجن والملائكة أعجز الإنس والجن آية منه فهلا يأتي بتلك الآية أهل البلاغة كل وقت يهدى قراؤه إلى سامعيه معجزات من لفظه ولذلك تتحلى بسماعه المسامع من التحلية التي هي لبس الحلي وتتحلى بألفاظه الأفواه من الحلواء فهو الحلى والحلواء حسن من جهة اللفظ وتصفى من شوائب النقص من جهة المعنى فأرتنارقة من زلاله وصفاء من ذلك الزلال خبايا فضل فيه وهي العلوم المستنبطة منه وإنما تظهر الوجوه ظهورا واضحا لا خفاء معه بوجه إذا قوبلت بمرآة وقت جلاء الأصداء عن تلك المرآة سور منه أشبهت صورا منا من حيث إشتمال كل صورة منا على عقل وفهم وخلق لا يشاركه فيه غيره والأقاويل الصادرة من الكفار في القرآن كالصور التي يصورها المصورون فإنه لا وجود لها في الحقيقة فما قالوه في القرآن باطل قطعي البطلان فاحذر الخطباء أن توقع في وهمك أن ما تأتي به يقارب القرآن كم أوضحت آياته علوما حالة كونها متولدة من حروف قليلة كشف عنها التهجي كالحب الذي يلقيه الزارع والنوى الذي يلقيه الغارس أعجب الزراع والغراس منها أي من تلك الحبوب والنوى سنابل وثمار وتمر فاق الحصر فأطالوا في تلك السور الشك فقالوا سحر وتمويه لا حقيقة له وقالوا مرة أخرى أساطير الأولين وإذا كانت الحجج والبراهين لم تفدهم شيئا من الهدى فطلب الهدى منهم بتلك الحجج تعب لا يفيد شيئا وإذا ضلت العقول

عن طرق الحق مع علم منها بتلك الطرق فأي قول يقوله الفصحاء أي وقال الوليد ابن المغيرة يوما أينزل القرآن على محمد وأترك أنا وأنا كبير قريش وسيدنا ويترك أبو مسعود الثقفي سيد ثقيف ونحن عظماء القريتين أي مكة والطائف فأنزل الله تعالة { وقالوا لولا } أي هلا { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } أي أعظم وأشرف من محمد صلى الله عليه وسلم فرد الله تعالى عليهم بقوله { أهم يقسمون رحمة ربك } الآية
وفي لفظ قال بعضهم كان الأحق بالرسالة الوليد بن المغيرة من أهل مكة أو عروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف ثم لا يخفى أن كفار قريش بعثوا مع النضر بن الحارث عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما اسالاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول أي التوراة لأنه قبل الإنجيل وعندهم علم ليس عندنا فخرجا حتى قدما المدينة وسألا أحبار يهود أي قالا لهم أتيناكم لأمر حدث فينا منا غلام يتيم حقير يقول قولا عظيما يزعم أنه رسول الله وفي لفظ رسول الرحمن قالوا صفوا لنا صفته فوصفوا قالوا فمن يتبعه منكم قالوا سفلتنا فضحك حبر منهم وقالوا هذا النبي الذي نجد نعته ونجد قومه أشد الناس له عداوة
قالت لهم أحبار اليهود سلوه عن ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول أي وهم أهل الكهف ما كان من أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها أي وهو ذو القرنين ما كان نبؤه وسلوه عن الروح ما هي فإذا أخبركم بذلك أي بحقيقة الأولين وبعارض من عوارض الثالث وهو كونها من أمر الله فاتبعوه فإنه نبي فرجع النضر وعقبة إلى قريش وقالا لهم قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد وأخبراهم الخبر فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن ذلك فقال لهم عليه الصلاة والسلام أخبركم غدا ولم يستثن أي لم يقل إن شاء الله تعالى وانصرفوا فمكث صلى الله عليه وسلم خمسة عشرة يوما وقيل ثلاثة أيام وقيل أربعة أيام لا يأتيه الوحي وتكلمت قريش في ذلك بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إن محمدا قلاه ربه وتركه أي ومن جملة من قال ذلك له صلى الله عليه وسلم أم جميل امرأة عمه أبي لهب قالت له ما أرى صاحبك إلا وقد ودعك وقلاك أي تركك

وبغضك وفي رواية قالت امرأة من قريش أبطأ عليه شيطانه وشق عليه صلى الله عليه وسلم ذلك منهم ثم جاءه جبريل بسورة الكهف وفيها خبر الفتية الذين ذهبوا وهم أهل الكهف
ويروى أنهم يكونون مع عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إذا نزل ويحجون البيت وخبر الرجل الطواف وهو ذو القرنين أي وهو إسكندر ذو القرنين كان له قرنان صغيران من لحم تواريهما العمامة
وفي لفظ كان له شبه القرنين في رأسه وقيل غديرتان من شعر وقيل لأنه قرن ما بين طلوع الشمس ومغربها أي بلغ قطرى المشرق والمغرب وقيل ضرب على قرن رأسه فمات ثم أحيى ثم ضرب على قرنه الآخر فمات ثم أحيى وقيل لأنه ملك الروم وفارس وقيل لأنه انقرض في زمنه قرنان من الناس والقرن زمان مائة سنة وكان ذو القرنين رجلا صالحا من أهل مصر من ولد يونن وفي لفظ يونان بن يافث بن نوح وكان من الملوك العادلة وكان الخضر صاحب لوائه الأكبر وقيل كان نبيا قاله الضحاك
وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل بالجواب عن الروح المذكور ذلك في سورة الإسراء وهو أن الروح من أمر الله أي قل لهم الروح من أمر ربي أي من علمه لا يعلمه إلا هو أي وكان في كتبهم أن الروح من أمر الله أي مما استأثر الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه ومن ثم جاء في بعض الروايات ما تقدم إن أجابكم عن حقيقة الروح فليس بنبي وإلا بأن أجابكم عنها بأنها من أمر الله فهو نبي ولعل هذا هو المراد كما جاء في بعض الروايات سلوه عن الروح مما استأثر الله تعالى بعلمه كيف يسألونه فيخبرهم بذلك إلا أن يقال المراد إن أجابكم بغير قوله من أمر ربي فاعلموا أنه غير نبي فإنه يحاول أن يخبركم عن حقيقتها وحقيقتها لا يعلمها إلا الله تعالى
ويوافقه ما في مأثور التفسير { من أمر ربي } من علم ربي لا علم لي به وفي بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم فإن قال لكم من الله تعالى فقولوا له كيف يعذب الله في النار شيئا هو منه
وحاصل الجواب الذي أشارت إليه الآية أن الروح أمر بمعنى مأمور أي مأمور

من مأموراته وخلق من خلقه لا أنها جزء منه والله أعلم أي وهذا يدل على أن المسئول عنه روح الإنسان التي هي سبب في إفادة الحياة للجسد
وفي كلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى أن الروح روحان حيواني وهي التي تسميه الأطباء المزاج وهو جسم لطيف بخاري معتدل سار في البدن الحامل لقواه من الحواس الظاهرة والقوى الجسمانية وهذه الروح تفنى بفناء البدن وتنعدم بالموت وروح روحاني وهي التي يقال لها النفس الناطقة ويقال لها اللطيفة الربانية ويقال لها العقل ويقال لها الروح ويقال لها القلب من الألفاظ الدالة على معنى واحد لها تعلق بقوى النفس الحيواني وهذه الروح لا تفنى بفناء البدن وتبقى بعد الموت هذا كلامه
وفي كلام بعضهم والروح عند أكثر أهل السنة جسم لطيف مغاير للأجسام ماهية وهيئة متصرف في البدن حال فيه حلول الدهن في الزيتون يعبر عنه بأنا وأنت وإذا فارق البدن مات
وذهب جمع منهم الغزالي والإمام الرازي وفاقا للحكماء والصوفية إلى أنه جوهر مجرد غير حال بالبدن يتعلق به تعلق العاشق بالمعشوق يدبره أمره على وجه لا يعلمه إلا الله اه
ورأيت في كلام الشيخ الأكبر أن الإمام ركن الدين السمرقندي لما فتح المسلمون بلاد الهند خرج بعض علمائها ليناظر المسلمين فسأل عن العلماء فأشاروا إلى الإمام ركن الدين السمرقندي فقال له الهندي ما تعبدون قالوا نعبد الله بالغيب قال من أنبأكم قالوا محمد صلى الله عليه وسلم قال فما الذي قال في الروح قال هو من أمر ربي فقال صدقتم فأسلم وليس المراد بالروح خلق من الملائكة على صورة بني آدم أو ملك عظيم عرض شحمة أذنه خمسمائة عام إلى غير ذلك مما قيل قال بعضهم قلت كذا في هذه الرواية أنهم سألوه أي مشركو مكة عن الروح وحديث ابن مسعود يدل على أن السؤال عن الروح ونزول الآية كان بالمدينة أي من اليهود هذا كلامه
وفيه أنه سيأتي جواز تكرار السؤال وتكرر نزول الآية إلى آخر ما يأتي وبه يعلم ما في الإتقان حيث تعقب حيث تعقب قول بعضهم إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم سألوه عن الروح وعن ذي القرنين بقوله قلت السائل عن الروح وذي القرنين مشركو مكة أو اليهود كما في أسباب النزول لا الصحابة


وفي الإتقان قد يعدل عن الجواب اصلا إذا كان السائل قصده التعنت نحو { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } قال صاحب الإفصاح إنما سأل اليهود تعجيزا وتغليظا إذا كان الروح يقال بالإشتراك على روح الانسان والقرآن وعيسى وجبريل وملك آخر وصنف من الملائكة فقصد اليهود أن يسألوه صلى الله عليه وسلم فبأي مسمى أجابهم قالوا ليس هو فجاءهم الجواب مجملا وكان هذا الإجمال كيدا يرد به كيدهم وفي سورة الكهف أيضا { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت } أي إذا أردت أن تقول سأفعل شيئا فيما يستقبل من الزمان تقول إن شاء الله فإذا نسيت التعليق بذلك ثم تذكرت تأتي بها فذكرها بعد النسيان كذكرها بعد القول قال جمع منهم حسن مادام في المجلس أي وظاهره وإن طال الفصل
وفي الخصائص الكبرى أن هذا أي الإتيان بالمشيئة بعد التذكر من خصائصه صلى الله عليه وسلم ليس لأحد منا أن يستثني أي يأتي بالمشيئة إلا في صلة يمينه
أقول كان ينبغي أن يقول في صلة إخباره لأن مساق الآية في الإخبار لافي الحلف
فإن قيل هي علامة في الخبر ة الحلف قلنا كان ينبغي أن يقول حينئذ في صلة كلامه وحينئذ يقتضي كلامه أنا نشاركه في الخبر دون الحلف والله أعلم
ثم لا يخفى أنه قيل سبب احتباس الوحي أنه لم يقل إن شاء الله تعالى وهو مشهور وقيل لإنه كان في بيته كلب وفي لفظ كان تحت سريره جرو ميت فقد جاء أنه لما صلى الله عليه وسلم عاتب جبريل في احتباسه قال أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أي أنه صلى الله عليه وسلم قال لخادمته خولة يا خولة ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل لا يأتيني قالت فقلت في نفسي لو كنست البيت فأهوبت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو الميت
أقول قال ابن كثير قد ثبت في الحديث المروي في الصحاح والسنن والمسانيد من حديث جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب وقد أورد بعض الزنادقة سؤالا وهو

إذا كانت الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة أي صورة التماثيل التي فيها الأرواح يلزم أن لا يموت من عنده كلب أو صورة وأن لا يكتب عمله
وأجيب عنه بأن المراد لا تدخل الملائكة ذلك البيت دخول إكرام لصاحبه وتحصيل بركة فلا ينافي دخولهم لكتابة الأعمال وقبض الأرواح والله أعلم
وقيل لأنه صلى الله عليه وسلم زجر سائلا ملحا وقد كان قبل ذلك يرد السائل بقوله آتاكم الله من فضله أي ربما سكت فقد روى الشيخان ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال لا قال الحافظ بن حجر المراد بذلك أنه لا ينطق بالرد بل إن كان عنده شيئ أعطاه وإلا سكت وهذا هو المراد بما جاء أنه صلى الله عليه وسلم ما رد سائلا قط أي ما شافهه بالرد
وقد حكى بعضهم قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت يا رسول الله استغفر لي فسكت فقلت يا رسول الله إن ابن عيينة حدثنا عن جابر أنك ما سئلت شيئا قط فقلت لا فتبسم صلى الله عليه وسلم واستغفر لي أي فكان يأتي بالأول حيث لا يكون المقام يقتضي الاقتصار على السكوت ولعل هذا في غير رمضان
فلا يخالف ما رواه البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان اطلق كل أسير وأعطى كل سائل وبين الشيخ ابن الجوزي فبي النشر سبب إلحاح هذا السائل فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إليه قطف عنب قبل أوانه فهم أن يأكل منه فجاءه سائل فقال أطعموني مما رزقكم الله فسلم إليه ذلك القطف فلقيه بعض أصحابه فاشتراه منه وأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد السائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأعطاه إياه فلقيه رجل آخر من الصحابة فاشتراه منه وأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد السائل فسأله فانتهره وقال إنك ملح قال وهذا سياق غريب جدا وهو معضل
وقيل سبب ذلك غير ذلك من ذلك الغير أن جبريل عليه السلام لما قال له صلى الله عليه وسلم ما حبسك في قال كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم و لا تنقون براجمكم ولا تأخذون شعوركم و لا تستاكون
أقول واختلاف هذه الأسباب ظاهر في أن الواقعة متعددة ولا ينافيه قوله ونزلت أي سورة الضحى ردا عليهم في قولهم إن محمداقلاه ربه وتركه وهي

{ ما ودعك ربك وما قلى } أي ما قطعك قطع المودع وما أبغضك لأنه لا يجوز أن يكون مما تكرر نزوله لاختلاف سببه
ويمكن أن يقال يجوز أن تكون الواقعة واحدة وتعددت أسبابها ولا ينافيه إخبار جبريل عليه السلام تارة بأن سبب احتباسه عدم قص الأظفار وما ذكر معه وتارة بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب وتارة بقوله { وما نتنزل إلا بأمر ربك } كما يأتي قريبا وكما سيأتي في قصة الإفك لكن فال الحافظ بن حجر قصة إبطال جبريل بسبب الجرو مشهورة لكن كونها سبب نزول الآية أي { ما ودعك ربك وما قلى } غريب فالمعتمد ما في الصحيح هذا كلامه
أقول ومما يدل على أن واقعة الجرو كانت بالمدينة مافي بعض التفاسير أن هذا الجرو كان للحسن والحسين رضي الله عنهما ومارواه مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في ساعة أن يأتيه فجاء تلك الساعة ولم يأته فيها قالت وكان بيده عصا فطرحها من يده وهو يقول ما يخلف الله وعده ولا رسله ثم التفت فإذا كلب تحت السرير فقال متى دخل هذا الكلب فقلت والله مادريت به فأمر به فأخرج فجاء جبريل عليه الصلاة والسلام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدتني فجلست لك ولم تأت فقال منعني الكلب الذي كان في بيتك إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة
وفي زيادة الجامع الصغير أتاني جبريل فقال لي إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان على الباب تماثيل وكان في البيت ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فأمر صلى الله عليه وسلم برأس التمثال الذي في البيت فليقطع فيصير كهيئة الشجرة وأمر بالستر فليقطع فيجعل منه وسادتين منبوذتين توطآن وأمر بالكلب فأخرج ومعلوم أن مجئ جبريل له صلى الله عليه وسلم إكرام وتشريف له صلى الله عليه وسلم فلا ينافي ما تقدم فليتأمل
لما نزلت السورة المذكورة كبر صلى الله عليه وسلم فرحا بنزول الوحي واستمر صلى الله عليه وسلم لا يجاهر قومه بالدعو حتى نزل { وأما بنعمة ربك فحدث } فعند ذلك كبر صلى الله عليه وسلم أيضا وكان ذلك سببا للتكبير في افتتاح السورة التي بعدها وفي ختمها إلى آخر القرآن وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أنه قرأ كذلك على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أمره له بذلك وأنه كان كلما ختم سورة وقف وقفة ثم قال الله أكبر
هذا وقيل ابتداء التكبير من أول ألم نشرح لا من أول والضحى وقيل إن التكبير إنما هو لآخر السورة وابتداؤه من آحر سورة الضحى إلى آخر { قل أعوذ برب الناس } والأتيان بالتكبير في الأول والآخر جمع بين الروايتين والرواية التي جاءت بأنه كبر في أول السورة المذكورة والرواية الأخرى أنه كبر في آخرها
ومما يدل على أن التكبير أول سورة الضحى ما جاء عن عكرمة بن سليمان قال قرأت على اسماعيل بن عبد ربه فلما بلغت الضحى قال كبر فإني قرأت على عبد الله بن كثير أحد القراء السبعة فلما بلغت والضحى قال لي كبر حتى تختم وأخبري ابن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأخبره أن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أمره بذلك وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك أخبره أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك قال بعضهم حديث غريب
ونقل عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال لآخر إذا تركت التكبير من الضحى إلى الحمد في الصلاة وخارجها فقد تركت سنة من سنن نبيك صلى الله عليه وسلم لكن في كلام الحافظ ابن كثير ولم يرد ذلك أي التكبير عند نزول سورة الضحى باسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف
وقد ذكر الشيخ أبو المواهب الشاذلي رضي الله تعالى عنه عن شيخه أبي عثمان أنه قال إنما نزلت سورة ألم نشرح عقب قوله { وأما بنعمة ربك فحدث } إشارة إلى أن من حدث بنعمة الله فقد شرح الله صدره قال كأنه تعالى يقول إذا حدثت بنعمتي ونشرتها بين عبادي فقد شرحت صدرك
وعن ابن اسحاق ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا وفي لفظ ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فقال له جبريل { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا } أي لا ننتقل من مكان إلى مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته على مقتضى حكمته وما كان ربك تاركا لك كما زعم الكفار بل كان ذلك لحمكة رآها

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تحميلات و فهرس القرآن الكريم

 فهرس القرآن الكريم الكريمmp3 القرآن الكريم مكتوب 9مصاحف / / / /   / / /